هو ذا، في ظلام مشغله الغامض كقبور الفراعنة، يتأمل في شؤون كائناته بصمت، وحكمة، ونفاذ بصيرة، كقارئة ودعٍ عمياء.. كيفما حركت أصابعها تشم رائحة الزلزال.. كائنات نبيلة الوجوه، متكتّمة، بسيطة، شبه بكماء، تعلك - بصمت جليل - ألماً سرمدياً يجعلها شبيهة بوجوه ملائكة أيقونات الشرق القديم. أيقونات أشبه بالقصائد. أيقونات حميمة بغير تفاخر، بسيطة.. إنما بعمق، كأنها رسائل أطفال حكم عليهم بالموت على مرأى من الآلهة نفسها. أيقونات بشرٍ عاديين، وديعين، واجمين كأنهم يتأملون في مصائرهم من خلال ثقب صغير في السماء.. أو كأن عيناً متطفلة ترصد - من فوق - تقلبات وخواتيم هذه المصائر. أيقونات - على عكس تلك التي تمجد الجبابرة وترفع من شأن مغتصبي الحياة - تمجد الانسان الصغير، المزدري، العديم الحيلة، الضائع في التيه. فنان متقشف في أدواته وأفكاره وعلوّ صيحته. متقشف في كل ما يفسد العمل الفني أو يثقله، متقشف كقديس زاهد يقتات على فكرة.. ووريقة نبات.. وبقايا خبز منقوعة بالخل والدموع. مرهف وجسور كذئب بقميص فراشة، كنحلة طائشة بجناحين من نور.. وإبرة مذهبة لإشاعة السم. محارب فذّ حقيقي ينحدر من سلالات شياطين: يمسح الدمار بفرشاته، ويروّض الوحش بالأغاني. قاطع طريق جبلي.. يقهر الليل بالتمائم ويُخضع الخوف بالأغاني، لكن.. دونما ادعاء، دونما أوهام بطولة، ودونما جلبة قبل كل شيء. الجلبة تمشي وراءه وتتعقّبه مثلما يتعقبه المفسّرون وال"أذكياء" ومزيّنو الكلمات.. حيث تمر فرشاته على البياض فتبهر عقول الفلاسفة. شاعر، مشعوذ خفيف العين والعقل كمحطّمي خزائن البنوك.. لكنه لا يسطو - من انقاض الدنيا - الا على النور.. صياد نور.. ومشعوذ... إنما لا يرقص السعادين أو الأفاعي، ولا يُخرج من سلّته أرانب أو حماماً أو مناديل حمراء للعاشقات. مشعوذ حر ونبيل: يشهق فينهض أرواح البشر من الانقاض، أو ينفخ فيمرّغ جباه الجبابرة في التراب. أحياناً يتهيأ لك انه يعجن وجوه كائناته من طين أجري حقيقي، وأحياناً أخرى كأنه ينسجها من الهواء نفسه: الهواء المرهف.. الأزرق.. الشفيف.. الدافىء.. البنفسجي.. الحي... الذي تتلعثم خلاله قلوب الكائنات، وينفتح الورد، وتُرتكب الجرائم!!...