لم يكن الشاعر جان سيناك فرنسياً صرفاً ولا جزائرياً صرفاً بل هو أمضى حياته يبحث عن هويته الضائعة ولم يجدها إلا في انتمائه الشعري الى العالم. لكنّ فرنسا التي ناضل ضدّها في حرب التحرير الجزائرية اعترفت به كمواطن فرنسي - جزائري ومنحته الجنسية التي ورثها عن أبيه "المجهول". أمّا في الجزائر التي انتمى اليها ولم يستطع إلاّ أن ينتمي اليها فظلّ في نظر السلطات مواطناً "مؤجلاً" ومشتبهاً به. وان لم يحصل - كما قيل - على الجنسية الجزائرية طوال حياته التي انتهت قتلاً فهو كان جزائرياً في مفهومه الخاصّ للانتماء الجزائري وكتب عن الجزائر كما لو أنّه يكتب عن أرضه وقلبه معاً. كان يصعب على جان سيناك ألا يكون جزائرياً ليس لأنّه ولد في إحدى المناطق الجزائرية من أب فرنسيّ مجهول وأمّ اسبانية الأصل وإنّما لأنّه كان يشعر في قرارته أنّه ينتمي الى زمن الضحايا لا الجلاّدين والى الشعب المقهور الباحث بإصرار عن حريته والمناضل المستميت ضدّ الاستعمار الفرنسي الظالم. وكان جان سيناك تبنّى كشاعر "مقولات" بعض الشعراء الفرنسيين "الملعونين" الذين سبقوه الى أرض الشرق وفي طليعتهم ارتور رامبو الذي كتب عنه قصيدة سمّاه فيها عبدالله رامبو. ولئن سحره شعر رامبو الميتافيزيقي فهو انحاز أيضاً الى شعاره الشهير "تغيير الحياة" في كلّ ما تعني الحياة من أبعاد وقيم. وكان سيناك يدرك أنّ قدره حتّم عليه أن يكون شاعراً ملعوناً منذ أن أنكره أبوه وعقب انجرافه في "المثلية" الجنسية إمعاناً في قتل صورة الأب. لكن "لعنته" القدرية لم تحل دون انتمائه الثوري فإلى جانب رامبو وجيرار دونيرفال وانطونان أرتو وجان جينه ارتفعت في مخيّلته صورة جيمس دين وتشي غيفارا وسواهما من الثوار الحالمين. ولم يجد نفسه محرجاً هو الذي عرف ب"شاعر الشمس والحبّ" أن يكون أيضاً شاعراً ملتزماً. لكنّ التزامه السياسي ظلّ التزام شاعر ينتمي الى "أرض الألم والنضال" وظلّ نضاله نضال شاعر "واقعي" ولكن ميتافيزيقي النزعة وصوفي مشبع بالروحانيات المسيحية والإسلامية. وانتماؤه المسيحي ورثه ربما عن أمّه الشديدة الأيمان وكان كتب اليها مرة يبرّر شاعريته قائلاً: "الله كلّفنا بمهمة. الله رسم الطريق أمامنا...". لكنّ جان سيناك تأثر كثيراً بالثقافة الإسلامية التي وجد فيها ما يروي ظمأه الروحيّ وقد استوحى الجمالية الروحية التي اتسم بها الخطّ العربيّ وأطلق على أحد أجزاء كتابه الشهير "ما قبل الجسد" عنواناً صوفياً هو "ديوان النون" وقد ضمّ قصائد ميتافيزيقية وروحية تتغنى بالكائن المخلوق والجسد المفتدى وتعلن العماد والتطهر في الزرقة والبحر وضوء الشمس. ولم يُسمَّ جاك سيناك ب"شاعر الشمس" إلا نظراً الى ما حوى شعره من "نداوة صيفية" واشراق ودفء. فهو ابن الأرض التي تحرقها الشمس ويداعبها نسيم البحر وترين عليها زرقة السماء. وليس "الجسد الكلّي" الذي تكلم عنه في شعره إلا ثمرة الانصهار العميق بين "البحر والحب والشعر". ويرسم سيناك في كتابه "ما قبل الجسد" صورة مثالية للشاعر كما يرى اليه بل كما عاشه فإذا هو بائس محاصر بالفاقة والعزلة والألم والموت والفقر... قد تكون شخصية جان سيناك الغريبة وسيرته المأسوية أشدّ رهبة من شعره نفسه. فموته قتلاً ظل غامضاً وقاتله ظلّ مجهولاً بدوره. ولم يُجزم ان كان قتله "فعلاً" سياسياً أم ذا تبعة "مثلية". وكم ذكّر قتله الوحشي بالنهاية القاسية التي واجهها الشاعر والسينمائي الإيطالي بيار بادلو بازوليني حين قتل وسُحق في ظروف عامضة جداً أيضاً. في أيامه الأخيرة وبعدما انزوى في قبوه راح جان سيناك يوقع ما يكتب تحت اسم "جان المعتزل". كان حينذاك أدرك تماماً أنّ أحلامه خانته وأن حياته لم تكن سوى خيبة كبيرة سياسية وعاطفية. وبدا كأنّه ينتظر الموت كيفما أتاه. فهو "الغريب" تيمّناً بصديقه ألبير كامو الذي ولد غريباً وعاش غريباً ولم يبق له من حياته ومن العالم، من الماضي كما من الحاضر، من سلالته المجهولة ومن رجائه، لم يبق له سوى روحه وجسده وهما أصلاً واحد في نظره. لعلّ الطعنات التي اخترقت جسد جان سيناك جعلته حقاً في مصاف الشعراء الشهداء والقديسين الذين جاؤوا كالغرباء الى هذا العالم وغادروه كالغرباء!