عندما انطلق اليورو اول العام الجاري بدت العملة الأوربية المشتركة اليورو مستقرة إلى جانب الدولار، كما كان متوقعاً لها. وتفاءل المحللون بمستقبلها في ضوء استقرار أهم المؤشرات المالية لبلدان منطقتها، خصوصاً تلك التي حددتها معاهدة ماسترخت في شأن معدلات التضخم وعجز الموازنة وأسعار الفائدة. غير أن هذا الاستقرار لم يحم اليورو من الضعف الذي رافق مسيرته تجاه الدولار في نحو 12 في المئة من قيمتها أمام العملة الأميركية. فقد تراجع سعرها من نحو 1.15 إلى 1.04 دولار خلال الفترة بين مطلع العام ومنتصف الشهر الجاري. مشكلة اليورو كما هو الحال بالنسبة للعملات الأخرى يستمد اليورو مكانته من قوة أو ضعف اقتصاديات منطقته وآفاق مستقبلها. وهذا يتعلق بجملة عوامل تتجاوز المؤشرات المالية إلى الاقتصادية الأخرى، سيما معدل النمو السائد والمتوقع. فوجود استقرار مالي في ظل ضعف النشاط الاقتصادي لا ينطوي بالضرورة على تحصين موقع العملة كما تظهر تجربة بلدان اليورو مؤخراً، كما أن الأوضاع السياسية السائدة والمحيطة تؤثر على النشاط المذكور وعلى العملة المرتبطة به سلباً أو إيجاباً حسب طبيعتها ودرجة خطورتها. وعندما انطلق اليورو ارتفعت قيمته تجاه الدولار على أساس استقرار المؤشرات المالية لبلدانه والتوقعات بازدياد معدلات نمو اقتصادياتها في مقابل تباطؤها في الولاياتالمتحدة، غير أن التطورات جاءت على عكس التوقعات، فازداد نمو الاقتصاد الاميركي بوتائر عالية ترافقت مع ارتفاع أسعار الفائدة على الأوراق والسندات المالية الأميركية. وفي المقابل جاءت معدلات نمو اقتصاديات بلدان اليورو أقل من التوقعات بكثير في الوقت الذي وصلت فيه معدلات الفوائد إلى أدنى مستوياتها. ويُخص بالذكر منها معدل نمو الاقتصاد الألماني الذي يعتبر قاطرة الاقتصاد الأوربي، اذ تم تصحيح توقعات معدل نموه لهذا العام عدة مرات نحو الأسفل ليصبح 1.2 في المئة بدلاً من 2 في المئة أو أكثر. ومع تراجع معدلات النمو واندلاع حرب كوسوفو شاعت أجواء عدم ثقة المستثمرين في منطقة اليورو. وفي ضوء ذلك انتقلت ودائع ورؤوس أموال ضخمة منها إلى منطقة الدولار ، خاصة إلى الولاياتالمتحدة، بغية الحصول على نصيب من الأرباح الناتجة عن ارتفاع أسعار الأسهم والفوائد العالية هناك. وكمثال على ذلك اشترى الألمان في الخارج أوراقاً مالية بقيمة 23.3 بليون يورو خلال شهر آذار مارس الماضي في مقابل 17.6 بليون يورو خلال الشهر الذي سبقه، ويعتبر هذا الانتقال أحد أهم أسباب ضعف اليورو. وبالنسبة للجانب السياسي فإن بلدان اليورو لم تتخذ إجراءآت ملموسة على صعيد تنسيق سياساتها الاقتصادية على صعيد الضرائب والتخفيف من مشكلة البطالة وغيرها من القضايا الحيوية اللازمة لدفع عجلة اقتصادياتها وتدعيم مركز عملتها. كما أن الاتحاد الأوربي ما يزال لاعباً ضعيفاً في مجرى الأحداث السياسية في أوروبا والعالم. وظهر ذلك جلياً قبيل وإبان حرب كوسوفو. فمن جملة ما بينته الحرب أن الاتحاد يدور في فلك الولاياتالمتحدة على صعيدي السياسة الخارجية والدفاع. ويعبر جاك سانتير رئيس المفوضية الأوروبية على ذلك بالقول: "أن أوروبا تشكل عملاقاً اقتصادياً ولكنها لا تزال قزماً على الصعيد السياسي". ومما لا شك فيه أن "قزامة" أوروبا سياسياً تنعكس بشكل سلبي على اقتصادياتها وبالتالي على عملتها الموحدة، فعملة قوية وموحدة تحتاج إلى صوت أو سند سياسي موحد تركن إليه. التطمينات والمخاوف تراجع سعر اليورو تجاه الدولار لم يثر مخاوف مجلس البنك المركزي الأوربي في فرانكفورت. وعكس ذلك إبقاءه على أسعار الفائدة الرئيسية بحدود 2.5 إلى 3.5 في المئة. وعبّر فيم دويسنبرغ رئيس البنك عن ثقته بعودة سعر اليورو إلى الارتفاع لتوفر المعطيات والأرضية اللازمة لذلك في المستقبل المنظور، وشاركه القادة الأوروبيون في الرأي خلال قمتهم الأخيرة في كولونيا، اذ لم يشر بيانهم إلى قلق واضح في شأن وضع اليورو. وقال مفوض الاتحاد الأوروبي للشؤون النقدية يفيس تيباولت دي سيلغوي أنه يرى في الضغوط التي يتعرض لها اليورو مجالاً للربح. وأضاف أن المسألة لا تقاس على أساس حركة التعاملات اليومية إنما على أساس تقييم المؤشرات التي تشير الى اقتراب عودة سعر اليورو إلى الارتفاع. ومنها على سبيل المثال لا الحصر استقرار الأسعار داخل منطقتة وظهور بوادر لتحقيق معدلات نمو أفضل في ألمانيا وغيرها من بلدان الاتحاد. واعتبر رئيس البنك المركزي الألماني المقبل ارنست فيلتكي أن توقف حرب كوسوفو سينعكس بشكل إيجابي على اليورو بالرغم من استمرار الضغوط التي يتعرض لها نتيجة الازدهار الذي يشهده الاقتصاد الأميركي. لكنه أضاف أن ناقوس الخطر سيقرع عندما يؤدي تراجعه إلى ارتفاع الأسعار أو التضخم داخل منطقته. ولحسن الحظ لا يوجد حتى الآن بوادر تشير إلى ذلك. وبالمقابل عبّر العديد من المحليين عن قلقهم على مستقبل اليورو في ضوء موافقة وزراء مال الاتحاد الأوربي بالسماح لإيطاليا التخفيف من سياسة التقشف التي تتبعها. وتخوف هؤلاء من أن يشكل ذلك سابقة تتخذها بلدان أخرى كألمانيا حجة للمطالبة بمثل هذا السماح. ومما يعنيه ذلك التراخي في تطبيق شروط الاستقرار المالي والنقدي التي نصت عليها معاهدة ماسترخت وإشاعة أجواء عدم الثقة. ومن مصادر القلق الأخرى على مستقبل اليورو التكاليف العالية لإعادة بناء ما دمرته حرب كوسوفو التي من شأنها زيادة الأعباء على الموازنات الأوروبية. وبالإضافة لذلك فإن تضارب تصريحات المسؤولين الماليين الأوربيين حول اليورو تثير القلق وعدم الارتياح في الأسواق المالية. ويضر تراجع سعر اليورو بالموردين الأوربيين الذين عليهم دفع المزيد. ولكن ما يخفف من حدة المشكلة أن غالبية السلع عدا مصادر الطاقة من نفط وغاز تأتي من منطقة اليورو التي بقيت عملاتها مستقرة تجاه بعضها البعض. ويعتبر هذا الاستقرار من أهم المنافع التي جلبها نظام اليورو لبلدانه. فلو حصل التراجع الذي شهده سعره تجاه الدولار في ظل نظام المارك الألماني الذي سبقه لشهدت العملات الأوروبية ما يشبه الفوضى في أسعارها تجاه بعضها البعض كما حصل من فترة لأخرى حتى بضع سنوات خلت. ويبدو المصدرون أكثر الجهات انتفاعاً بتراجع سعر اليورو بسبب ازدياد قدرتهم على المنافسة الخارجية. وهناك معطيات تشير إلى أن العديد من الفروع الاقتصادية الأوروبية استفادت من اليورو الضعيف. وعلى سبيل المثال تمكنت صناعة معدات البناء الألمانية خلال شهر نيسان أبريل الماضي من زيادة مبيعاتها بأكثر من 10 في المئة قياساً إلى مبيعات الشهر الذي سبقه. غياب السند السياسي لليورو على رغم تراجع سعر اليورو تجاه الدولار فإن موقعه كعملة رئيسية عالمية لا يزال محصناً بقوة واستقرار اقتصاديات بلدانه. وعلى سبيل المثال فإن نصيبه في الاحتياط النقدي العالمي لا يزال يقدر بنحو 20 في المئة. ويرجح العديد من المراقبين أنه سيتمكن من استعادة المزيد من النقاط التي خسرها مؤخراً في ضوء المعطيات التي تشير إلى تحسن أداء الاقتصاد الألماني. ومن شأن ذلك أن يعيد الثقة إليه بشكل تدريجي. غير أن هذه الثقة ستبقى منقوصة ما لم تبادر بلدانه لاتخاذ خطوات أكثر حزماً باتجاه توحيد سياساتها الاقتصادية وتحقيق اتحادها السياسي أو ما يشبهه. وهذا ما عبر عنه هورست زيبرت رئيس معهد الاقتصاد الدولي في كيل بألمانيا عندما قال: "ان مشكلة اليورو ترتبط بالإطار السياسي الذي يحيط به". ويقول نوربرت فالتر رئيس قسم الاقتصاد في البنك الألماني في هذا الإطار إن من لديه حدوداً مشتركة بحاجة إلى سياسة مشتركة على الأصعدة الخارجية والداخلية والهجرة. وهناك ما يشير إلى تفهم قادة أوروبا لاهمية الاتحاد السياسي اذ اتفقوا لأول مرة خلال قمتهم الأخيرة في كولونيا على تعيين خافيير سولانا ليكون اول ناطق باسم السياسة الخارجية والدفاعية المشتركة للاتحاد الاوروبي بعد انتهاء مهامه اميناً عاماً لحلف شمال الاطلسي. وتبع ذلك إلحاق الفيلق الاوروبي المؤلف من قوات فرنسية واسبانية والمانية وبلجيكية ولوكسمبورغية بالقيادة العامة للاتحاد في اشارة الى سعيه للحصول على مزيد من الاستقلالية السياسية والعسكرية عن واشنطن. وعلى رغم صعوبة الحكم على نتائج هذا السعي حالياً فإنه يشكل خطوة باتجاه نجاح اوروبا في اكمال مقومات وحدتها. ومن شأن هذا النجاح ان يساهم بشكل جوهري في الوصول الى عملة اوروبية قوية بوجهيها الاقتصادي والسياسي. اقتصادي سوري مقيم في المانيا.