قد يكون إحلال السلام في كوسوفو مهمة اصعب وأشق بما لا يقاس، بالنسبة الى الولاياتالمتحدة وحلفائها الاطلسيين، من الحرب التي خيضت ضد بلغراد طوال الأشهر الماضية. حتى اضطرت سلوبودان ميلوشيفيتش الى التراجع وسحب قواته. فأمر تلك الحرب سهل متى ما اتخذ القرار بشنها. وهو على اية حال مما تتقن واشنطن القيام به، اذ لا يتطلب الا امكانات مالية وعسكرية هي في حوزتها. واستراتيجية قتالية بسيطة. هي المتمثلة في الإمعان في قصف اهداف العدو من بعيد. حتى تبلغ خسائره والأضرار ما لا قبل له بتحمله. اما إحلال السلام، ووضع ترتيباته وإقرارها، فتلك مسأل اخرى، فهي تستدعي التعاطي مع واقع على الأرض، بالغ التعقيد متعدد الأوجه. وذلك مضمار دلت التجربة، في اكثر من مناسبة وفي اكثر من أزمة دولية، على ان الذهنية الاميركية على كرهنا لمثل هذه التعميمات، ولما تتسم به من ميل الى التبسيط والى ابتسار الأمور، لا تحسن بالضرورة التحرك في اطاره والإحاطة بالتواءاته. وذلك ما بدأت نذره تلوح في كوسوفو. ما ان نقشعت موجة الحماسة الاولى، الناجمة عن تقهقر ميلوشيفيتش وعن دخول القوات الدولية الى الإقليم. وعلى رأس الاشكالات ذلك "الإنقلاب" الذي اقدمت عليه روسيا، عندما ارسلت قوات لها الى بريشتينا، فارضة حضوراً عسكرياً لها في كوسوفو ضن به الحلفاء عليها فرأت ان تقود امراً واقعاً. ذلك ان موسكو، وهي التي ترى انها قد اضطلعت بدور حاسم في معالجة النزاع مع يوغوسلافيا. كانت تتوقع اعترافاً يتماشى مع دورها ذاك ومع المكانة التي تعتقد بأنها لها بين شعوب الشرق الأوروبي السلافية. والا ارتضت لنفسها الظهور بمظهر من لم يكن إبان الأزمة الاخيرة، سوى رديف. على الصعيد الديبلوماسي ل"العدوان" الأطلسي على بلغراد. ولا شك في ان ما أثار حفيظة موسكو وما زاد من شعورها بالإهانة، انه بدا لها بأن واشنطن ومن مالأها من بلدان الناتو، تحلها فعلاً تلك المنزلة الدنيا. فهي قد رفضت، ولا تزال ترفض، الاقرار لروسيا بقطاع داخل كوسوفو تشرف عليه عسكرياً، على غرار ما هي عليه الحال بالنسبة الى الولاياتالمتحدة وألمانيا وبريطانيا وايطاليا وفرنسا، عارضة عليها صيغاً اخرى على شكل حضور رمزي لقواتها لا يكون ناجز الاستقلالية على هيئة قطاع قائم الذات. ولا خاضعاً شكلياً، للناتو. وقد لا نجازف كثيراً ان توقعنا ان يكون الاشكال الروسي هذا واحدة من اكبر المعضلات التي ستواجه بلدان الناتو في مستقبل الأيام. فالأمر يتعلق بالنسبة الى موسكو بمسألة أمنية واستراتيجية حيوية، لا يعتقد بأنه يكفي "رشوتها" بالدعم المالي. او الوعد به، لنيل تراجعها بشأنها. فروسيا كثيراً ما أبدت تحفظها عن تمدد حلف الناتو شرقاً. بحيث لا يمكنها ان تتسامح بسهولة مع مرابطة قوات له في بلد لا يقع ضمن الدائرة الغربية طوعاً. وتربطها به وشائج خاصة، عرقية ودينية وثقافية. والحقيقة ان موسكو قد لا تكون عديمة الحجة في هذا المجال، سواء باسم مصالحها كقوة. وان كفت عن ان تكون عظمى، الا انها لا تزال لاعباً رئيسياً، او لما تتمتع به من مساندة بين صرب يوغوسلافيا، وكوسوفو تحديداً، ممن قد يعتبرون انهم بحاجة الى حمايتها، وهو ما قد يمنحها موقعاً يتعذر القفز من فوقه خلال الأطوار المقبلة للتسوية. أما الصعوبة الثانية التي تواجه التحالف الأطلسي في يوغوسلافيا، فهي تلك الناجمة عن جيش تحرير كوسوفو وموقعه في النصاب الذي تسعى القوات الدولية الى إرسائه في الإقليم. فقد دخل مقاتلو ذلك الجيش، وقد تزايد عددهم في اثناء اسابيع الحرب، بقوة في اعقاب قوات الناتو، وهذه تبدو غير قادرة على السيطرة عليهم وعلى ضبط حركتهم، بحيث يمكن القول ان جيش تحرير كوسوفو ربما تحول الى مشكلة مرشحة للتفاقم. بما قد لا يجعل من المواجهة المسلحة معه أمراً مستبعداً. ذلك ان المقاتلين الألبان قد استغلوا بطء حركة قوات الناتو فدخلوا الى عديد من المدن والقرى وسيطروا عليها، بل انهم لم يتورعوا عن الإعتداء على صرب كوسوفو. او ان دخولهم اثار لدى هؤلاء هلعاً دفع بالكثيرين منهم الى الهجرة، صوب مونتينيغرو او صوب صربيا. وقد بلغت موجة النزوح الصربي تلك عشرات الآلاف خلال الايام الاولى، بما قد يفضي اذا ما استمر، الى "تطهير اثني" مضاد. يكون اذا ما تحقق في ظل قوات الناتو وتحت سمعها وبصرها، عين المفارقة بالنسبة الى دول دخلت في مواجهة عسكرية ضد ميلوشيفيتش تحديداً بسبب اقدامه على مثل تلك الممارسات، وبهدف اجباره على الاقلاع عنها. ولا تزال قوات الناتو أبعد عن القدرة على تذليل هذه المشكلة. فقائد تلك القوات الجنرال البريطاني مايكل جاكسون لا يكف عن اطلاق تصريحات الطمأنة، داعياً صرب كوسوفو الى البقاء. لكن ذلك لا يمكنه ان يكون كافياً، في نظر رأي عام صربي محلي ينظر الى قوات الناتو على انها معادية، وربما ضالعة في تواطؤ مع جيش تحرير كوسوف. والحقيقة ان الخطة التي تم التوصل اليها لإنهاء الحرب هي التي ربما كانت مسؤولة على ذلك الوقت. فالخطة تلك تضمنت بالأساس ترتيبات عسكرية لم يكملها شق سياسي يستشرف الحل النهائي ويضع أسسه. لذلك فان جيش تحرير كوسوفو لا يمكنه الا ان يسارع الى توطيد مواقعه على الارض تحسباً واستعداداً للأطوار اللاحقة. وذلك خصوصاً وان خطة وقف اطلاق النار قد تركت، في شأنه، ثغرات بادر الى الاستفادة منها: فالخطة المذكورة لا تقضي بنزع سلاح جيش تحرير كوسوفو، على ما ساد الإعتقاد في بداية الأمر، بل بنزع الصفة العسكرية عنه، ما يعني احتفاظه ببناه وبأسلحته الخفيفة دون الثقيلة. وهذه الاخيرة قليلة عنده أصلاً، تكاد ان تكون منعدمة. غير ان الصعوبة الأبرز التي ستواجه الحلفاء في مستقبل الايام، هي تلك المتعلقة بمستقبل نظام ميلوشيفيتش، وتالياً بمستقبل التعامل معه. وهو ما لا سيكون منه بد. في صورة بقاء الديكتاتور الصربي في منصبه. فالرجل - كما هو معلوم - متهم من قبل المحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، وهي تهمة يبدو انها ستتأكد، على ضوء ما اكتشفته قوات الحلفاء من مقابر جماعية في عديد ارجاء كوسوفو، وهي ما وصل مندوبون عن المحكمة المذكورة للتحقيق فيه، ويتوقع ان يتوصلوا فيه الى ما من شأنه ان يثقل ملف ميلوشيفيتش في هذا الصدد، مما قد يضفي على التعامل مع حاكم بلغراد مزيداً من الحرج، قد يبلغ درجة التحريم الأخلاقي. صحيح ان بعض المؤشرات الواردة من يوغوسلافيا توحي بأن التململ قد بدأ يدب في ذلك البلد وان سلطة ميلوشيفيتش قد بدأت تهتز. ولعل ابرز ما تمكن الاشارة اليه في هذا الصدد البيان الذي اصدرته الثلثاء الماضي، الكنيسة الأرثوذكسية الصربية عقب سينودس ضم أساقفتها، وطالبت فيه ميلوشيفيتش وحكومته بالاستقالة. والموقف هذا بالغ الأهمية. فالكنيسة الأرثوذكسية بالغة التأثير في اوساط الصرب. وهي الدعامة الروحية لمشاعرهم القومية الجيّاشة. اضف الى ذلك ان الحزب القومي المتطرف الذي يقوده فويسلاف سيسلي قد قرر سحب وزرائه الخمسة عشر من الحكومة، بحيث لم يبق ضمن هذه الاخيرة سوى الحزب الاشتراكي الصربي الذي يقوده ميلوشيفيتش، وحزب له حليف تتزعمه زوجته، ما ينذر ببوادر أزمة حكومية حادة. غير ان المشكلة ان كل ذلك قد لا يعني قرب سقوط ميلوشيفيتش، او ان من يخلفونه سيكونون افضل منه حالاً. فالمعارضة الديموقراطية الصربية، ممثلة في "التحالف المدني" وفي "الحزب الديموقراطي"، ضعيفة وغير قادرة على التنسيق. ناهيك عن ان العديدين لا يتورعون عن اتهامها بالخيانة لتحفظها تجاه الهوس القومي المستشري وبدعوى تلقيها الدعم المالي من الغرب. ويتخوف البعض في صورة اجراء انتخابات من ان تؤدي الى فوز متطرف من قبيل سيسلي او ديماغوجي كفوك دراكوفيتش. وحتى موقف الكنيسة الأرثوذكسية، ربما تعين الحذر تجاهه، فهو قد لا يعبر عن ميل مفاجئ نحو الديموقراطية، بقدر ما يشي بخيبة امل قومية لما هو معلوم من تعلق الكنيسة بكوسوفو، مهد الشعب الصربي والكثير من مقدساته الدينية. وكل ذلك قد يمكّن ميلوشيفيتش من اللجوء الى تلك اللعبة التي يتقنها المستبدون على شاكلته والقائلة "إما أنا او الفوضى". او "إما أنا أو آت أعظم". وبالتالي، من التمديد في عمره على رأس الدولة اليوغوسلافية. وبالنظر الى كل ما سبق، يمكن القول ان بلدان الناتو قد خاضت حرباً وتوصلت الى تسوية عسكرية. اما الحل السياسي للمشكلة اليوغوسلافية فهو لا يزال بعيد المنال لا تمتلك تلك البلدان أدواته، ما يعني ان وجود القوات الدولية في كوسوفو ربما طال وتأبّد بما قد يجعل ذلك الإقليم اليوغوسلافي، خلال الفترة المقبلة، في وضع كذلك الذي عاشت عليه مدينة برلين خلال الحرب الباردة، نقطة توتر بارد في قلب البلقان عند ملتقى العالمين الغربي والسلافي.