استساغت المطربة نجوى كرم نوعية معينة من الأغنيات، نصوصاً وألحاناً، فصارت أسيرة لها، وشريطها الأخير "روح روحي" يسرح ويمرح في هذه المساحة الغنائية الشعبية بحيث يبدو ان لا أفق أوسع ينتظرها او تنتظره، ونظرية الاكتفاء الذاتي تطلّ في كل جملة لحنية، او جملة يراد لها ان تكون شعرية، من أغنياتها الجديدة، وصوتها الذي يستطيع ان يمتد على أشكال غنائية عديدة اخرى، يبدو انه قرر عن سابق تصور وتصميم ان يتمسك بحبال ما قامت عليه العلاقة بينها وبين جمهورها، فلا زيادة ولا نقصان ولا حلم... هناك صعوبة بالغة في ان يقع سمعك على شيء جديد، بمعنى التجديد الحقيقي، في شريط "روح روحي". والجهد الواضح الذي بذله كاتب الأغنيات وملحّنها الأساسي، عماد شمس الدين، يذهب من دون أي مردود إيجابي، ليس لأن الانتشار الجماهيري للأغنيات قد لا يتحقّق، فهو متحقّق، وإنما لأن ما يفترض أنه إضافات ملحوظة على أسلوبه التلحيني إنما كان أكثر من طفيف وخارجي ثم غرق في نمطية أداء نجوى كرم. ذلك الأداء الذي كأنه ربط أغنياتها كلها، ومنذ خمس سنوات على الأقل، وخلال خمس شرائط غنائية متتالية، في عقد واحد، حبّاته متشابهة، ولونه ينسخ بعضه بعضاً، وحجم الحبّات مفصّل على القياس. ولعلّ خوف نجوى من أي تغيير او تبديل خشية خسارة محتملة او طارئة او خشية تردّد قد يحدث في ذهنية الجمهور، قد انعكس رتابةً في أداء "يضرب" في مكان واحد، ويعيد الضرب حتى لكأن اهتراءً ما سيحصل او هو حصل بالفعل ولا أحد، خصوصاً نجوى ومنتجو أغنياتها، يتنبه إليه. وأعتقد أن نقطتي الضعف اللتين تمثلان تماماً، كافيتان لتمنع وجود أي توجه مضيء. النقطة الأولى هي حرص نجوى على ان تراوح مكانها في ما اكتشفت او اكتشف الملحنون من إمكانات صوتها التعبيرية، وهو حرص يساوي البخل الذي هو في معنى من معانيه حرصٌ أيضاً، فيقول العامة هذا شخص حريص تخفيفاً للقول هذا شخص بخيل. وبخل نجوى، الغني، المتصاعد أغنية فأغنية أدخلها من حيث تدري او لا تدري في مناخ مغلق ومحكوم بالإعدام، ولو انه اعدام لا يأتي دفعة واحدة ومرة واحدة بل على دفعات، وفي مراحل متلاحقة، وفجأة ينقطع النفس الذي يسبقه خدر لذيذ. ولذيذ جداً. والنقطة الثانية في ضعف نجوى كرم هي تركيبة الأغنية ككلمات وألحان. فالكلمة عند نجوى غير شعرية إلا لماماً. هي كلمة تبحث عن مصدر رزق في حفلات كثيرة لجمهور كبير لا يدقق كثيراً في المستوى الفني العالي، ومصدر الرزق هذا مغرٍ وينصب كمائن مفخخة لأصحابه. أما الألحان، عموماً، فلا تغادر المنطقة العادية، وأحياناً دون العادية، وجلّ ما فيها إنها تنتمي، بوسيلة من الوسائل، وبصورة من الصور الى ذائقة إيقاعية تستلهم الفولكلور فتوظفه خطأً حيناً، وبلا أخطاء حيناً آخر، لكنها تسعى لأن تمدّ خيوطاً مع الماضي، او تدّعي ذلك مراراً، وثمة بون شاسع بين مدّ الخيوط وادّعائها في الفن. وأغنيات نجوى كرم، عموماً، صارت ملتبسة الى حد أنك لا تستطيع إلا بنفاد الصبر أن تحتمل تلك الإيقاعات التي تضجّ وتضجّ كخلفية لألحان، هي الأخرى، كأنما مدعوّة باستمرار الى ماراتون طويل وسريع وخاطف ويزهق الروح لشدّة إلحاحه، فتضيع نعمة التلقّي الهادئ خلف جنون ناجز وموصوف في أغنيات تهدر حتى لتشكّل هي ضد نفسها، "برازيت" قاتلاً يحجب ما يمكن أن يفعل صوت نجوى كرم إذا استقر قليلاً او كثيراً، وفكّر قليلاً او كثيراً، وتطلّع الى المستقبل قليلاً او كثيراً، وغيّر جلده قليلاً او كثيراً، وغيّر أهدافه قليلاً او كثيراً. وحين يكون صعباً على نجوى ان تعتمد على ملحنين لم تعتد عليهم لحذرها من أساليب تلحين قد ترمي أسئلة واستفسارات في إعجاب جمهورها الجاهز، فقد يكون سهلاً عليها، وعلى جمهورها معاً، ان تدعو ملحّنيها الى قفزة تجديد، فيغيّرون في نماذج الألحان وينصرفون أكثر فأكثر الى البحث عما لم يجدوا بعد من خبايا صوتها، وبعضهم كمثل عماد شمس الدين، قادر وبجدارة، شرط ان تتم هذه القفزة أيضاً في شعر الأغنيات التي تؤدّيها. وفي شريط "روح روحي" أغنية هي "كيف بداويك" ذات لحن لافت ومشرق وعذب وتعبيري، غير أن كلامها رديء ومصطنع. والقفزة المشار إليها تريد أن تقوم على اعتبار أن البقاء الحقيقي شرطه الاستجابة لنداء التحرّر، والثورة على الذات، وإلا فالبديل هو الموت البطيء. يقول الإعلان عن شريط نجوى الجديد: "إلى جمهوري الحبيب أهدي روح روحي"... لكن روح الروح لا تكون تكراراً!.