Jean-Jacques Marie. Le Goulag. الغولاغ. P.U.F, Paris. 1999. 128 Pages. الغولاغ واحدة من المفردات الجديدة التي دخلت قاموس العصر. وقد كان اول من اطلقه على صعيد عالمي الكسندر سولجنتسين في كتابه الصادر عام 1969: "أرخبيل الغولاغ". والغولاغ لفظ لا وجود له بالاصل في اللغة الروسية نفسها، بل هو مؤلف من الاحرف الاولى من اسم "الادارة الرئيسية للمعسكرات"، وهي الادارة التي انشأها قرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي في 7 نيسان ابريل 1930، ليحلّ محل اسم "معسكر الاعتقال". والواقع انه اذا كان "الغولاغ" لفظاً حديث الاشتقاق كمرادف ل "معسكر الاعتقال"، فإن تعبير "معسكر الاعتقال نفسه" انتظر نهاية القرن التاسع عشر كيما يرى النور: فقد اخترعه يومئذ الجيش البريطاني في الحرب التي خاضها ضد الاستقلاليين البوير في جنوبي افريقيا، وكان يشار به إلى اماكن التوقيف في رقعة من الارض مسوّرة بالاسلاك الشائكة في الهواء الطلق كان يعزل فيها الأسرى والمتمردون والرهائن من السكان المدنيين لمعاقبتهم او لفصلهم عن بيئتهم الطبيعية ومنعهم من التضامن مع الاستقلاليين. وعلى رغم ان معسكر الاعتقال هذا كان يفترض فيه ان يكون مكاناً موقتاً للتوقيف، فقد غدا في الممارسة واحدة من اكثر ظواهر العصر ثباتاً وديمومة. فقد لجأ اليه الاسبانيون في حربهم ضد الكوبيين، والفرنسيون في حربهم ضد الجزائريين، وحتى الاميركيون في حربهم ضد الفيتناميين. ولكن "الجديد" الذي اضافته الممارسة الروسية، او البلشفية بتعبير أدق، هو انها حوّلت معسكر الاعتقال الغولاغ من تدبير موقت في زمن الحرب الى وسيلة قمعية دائمة في زمن السلم. وعلى رغم ان اسم "الغولاغ" لاصق التصاق اللحم بالعظام بالممارسة الستالينية وتحديداً بالابتداء من 1930، الا ان جذوره التاريخية تمتد في عمق التجربة البلشفية. فتروتسكي، يوم كان يشغل منصب "مفوض الشعب للحرب"، امر في 4 حزيران يونيو 1918 بأن يزج في "معسكرات الاعتقال" بجميع الجنود التشيكوسلوفاكيين الواقعين في اسر الروس في العهد القيصري والذين تصوروا ان قيام الثورة البلشفية هو فرصتهم للتمرد. وفي 5 ايلول سبتمبر 1918، وعلى اثر محاولة اغتيال لينين الذي أصيب بعدة طلقات، أطلق مجلس مفوضي الشعب = مجلس الوزراء "الارهاب الاحمر" رداً على "الارهاب الابيض"، واصدر تعميماً ب"وجوب حماية الجمهورية السوفياتية من اعدائها الطبقيين عن طريق عزلهم في معسكرات للاعتقال". ولكن نزلاء معسكرات الاعتقال من "الاعداء الطبقيين"، او من "العناصر الخطرة اجتماعياً" على حد التعبير الايديولوجي السائد يومئذ، ما كان يتجاوز عددهم حتى نهاية الحقبة اللينينية، العشرين او الثلاثين الفاً. وفي فترة الصراع على السلطة ما بين ستالين وتروتسكي تدفق على معسكرات الاعتقال عشرات الألوف من البلاشفة من انصار هذا الاخير. ثم كان "المنعطف الكبير" ابتداء من 1929 عندما اندفعت السلطة البلشفية - وقد آلت مقاليدها الى ستالين - في سياسة الخطط الخمسية للتصنيع السريع والتجميع القسري في مجال الزراعة. وقد أُعيد بالمناسبة تعمير معسكرات الاعتقال فأسست، طبقاً لمرسوم صادر عن المكتب السياسي للجنة المركزية في 27 حزيران 1929، "معسكرات العمل واعادة التربية". ويومئذ لم تسجل هذه المعسكرات قفزة كمية بارتفاع تعداد نزلائها من عشرات الألوف الى مئاتها فحسب، بل سجلت ايضاً قفزة نوعية: فقد غدت منبعاً ليد عاملة رخيصة وذليلة معاً. فبعد ان وضعت "معسكرات العمل" تحت امرة الشرطة السياسية امسى نزلاؤها مكلفين بانجاز المشاريع الكبرى، ومنهم - على سبيل المثال - اربعون الفاً كلفوا بمدّ طريق في المنطقة القطبية، واربعون الفاً آخرون كلفوا بمد سكة حديدية في المنطقة السيبيرية. ونظراً الى اشتداد الحاجة الى هذه اليد العاملة المسترقة فقد افتتحت ادارة الشرطة السياسية، المعروفة باسم "غيبيهو"، سلسلة من معسكرات العمل الجديدة، ومنها معسكر لخمسة عشر الف نزيل لمدّ سكة حديدية بطول 80 كم في الشرق السوفياتي الاقصى، ومعسكر لأربعة وعشرين الف نزيل في مدينة سبلاغ السيبيرية لمدّ خط حديدي يربط تومسك واينسيسك، وآخر لعشرين الفاً كلفوا بانشاء مصنع كيماوي في منطقة فيشيرا. وفي سياق "بناء الاشتراكية في بلد واحد" هذا قرر المكتب السياسي شق قناة في البحر البلطيقي الابيض قدرت حاجتها من اليد العاملة بمئة وعشرين الفاً. وقد جاء القرار بحفر هذه القناة مضاهاة لتجلية "الرأسمالية العالمية" في حفر قناتي باناما والسويس، وتدليلاً بالتالي على تفوق النظام الاشتراكي وما يستطيع اجتراحه من "معجزات" عن طريق "اعادة التربية بواسطة العمل"، ونزولاً عند رغبة ستالين، فقد حددت ادارة الغيبيهو زمن انجاز حفر القناة بسنتين، سعياً الى ضرب "رقم قياسي عالمي؟". وقد تم بالفعل تسليم القناة في الوقت المطلوب، ولكن بعد ان دفع ثلاثون الفاً من نزلاء المعسكر الثمن من حياتهم تحت وطأة الاجهاد والبرد والجوع والجراح. وقد كافأ ستالين ثمانية من مهندسي القناة بمنح ثمانية منهم وسام لينين، ونزلاء المعتقل باطلاق سراح 5000 منهم. ولكن كما في معظم "التجليلات" الاشتراكية على الطريقة السوفياتية تبين في وقت لاحق ان القناة غير صالحة للتشغيل، فحرصاً من ادارة الغيبيهو على تنفيذ المشروع في سنتين تلبية لطلب ستالين، فقد جعلت عمق القناة اقل مما صممه المهندسون، فكانت النتيجة ان القناة المحفورة على طول 230 كم غير قابلة لأن تسلك الا من قبل المراكب ذات الغاطس الضعيف، وهذا في اشهر معدود من السنة نظراً الى تجمد المياه في باقي الاشهر. وتلبية لتكاثر الطلب على اليد العاملة المسترقة لتنفيذ مشاريع التنمية الاشتراكية، فقد ضوعف عدد نزلاء معسكرات العمل ثلاثة مرات في ثلاث سنوات: فبين 1 كانون الثاني يناير 1932 و1 كانون الثاني 1935 ارتفع اجمالي تعدادهم من 268700 الى 816000. وبالاضافة الى هذا التطور الكمي، فقد شهدت التركيبة السوسيولوجية لنزلاء المعسكرات تغيراً نوعياً: فقد باتت الغالبية من هولاء النزلاء من الفلاحين المتهمين بأنهم من "الكولاك"الموسرين أو من المعتدين على "الملكية الاشتراكية". ولكن التطور الاكبر الذي شهدته معسكرات الاعتقال ان في سنوات الارهاب الكبير الذي دشنته محاكمات موسكو ابتداء من آب اغسطس 1936. فبين 1936 و1939 تدفق على المعسكرات ما يقارب السبعمئة الف نزيل سنوياً، مما نقل اعداد المعتقلين من خانة مئات الالوف الى خانة الملايين. وفي سنوات الحرب العالمية الثانية ضربت معسكرات الاعتقال السوفياتية رقماً قياسياً جديداً… ولكن في اعداد الموتى. ففي 1941 أحصي 101000 ميت من اصل 1500500 نزيل حوالى 8 في المئة وفي 1942 مات 249000 نزيل من اصل 1416000 18 في المئة، وفي 1943 مات 167000 من اصل984000 نزيل 17 في المئة. وفي الوقت نفسه تغيّرت من جديد التركيبة السوسيولوجية لنزلاء معسكرات العمل: فقد ارتفعت حصة النساء بينهم من 4.6 في المئة عام 1935 الى 7 في المئة عام 1940 الى 26 في المئة عام 1944. وذلك لان ما لا يقل عن مليون من النزلاء "الاصحاء" و"الاقوياء" فرزوا للعمل في جبهات القتال، ومعهم 93 الفاً من الحراس. ولكن عقب نهاية الحرب عادت ارقام نزلاء المعسكرات تتضاعف. ففي الوقت الذي كان فيه هؤلاء النزلاء يستبشرون خيراً بصدور عفو شامل بمناسبة انتهاء الحرب، اذا بأفواج جديدة من المعتقلين، ولا سيما من اوكرانيا الالمانية، تتدفق على المعسكرات لترفع عدد نزلائها من 1460000 في 1 كانون الثاني 1945 الى 6820001 في 1 كانون الاول ديسمبر 1946. وفي 1949 قارب الرقم المليونين ثم استقر في عامي 1952 و1953 عند المليونين ونصف. وغداة وفاة ستالين في 5 آذار مارس 1953 صدر مرسوم بعفو عام شمل مليوناً من اصل 2.5مليون من المعتقلين. ومنذ ذلك الحين بدأت حركة تفكك ذاتي لمعسكرات الاعتقال التي شهدت بين حزيران 1953 وحزيران 1954 سلسلة من الاضرابات اجبرت السلطات السوفياتية على تغيير نظام الاعتقال وعلى تحسين شروط حياة المعتقلين. وفي 17 ايلول 1955 صدر مرسوم بعفو عام جديد شمل مئات الألوف من "المواطنين السوفياتيين" المتهمين بالتعاون مع المحتل النازي اثناء الحرب العالمية الثانية. ثم جاء تقرير خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في 24 شباط فبراير 1956 ليجرد الغولاغ من آخر ورقة توت من المشروعية وليعقبه اطلاق سراح عشرات الألاف من المعتقلين لأسباب سياسية. ومن دون ان يختفي نظام الغولاغ اختفاء تاماً فقد تخلّع وتآكل، وخسر في طور اول وظيفته الاقتصادية =اعادة التربية عن طريق العمل بعد ان ثبت ان كلفته اعلى من انتاجيته، وفي طور ثانٍ وظيفته القمعية منذ ان تطورت في آخر الستينات حركة المنشقين ليتوجها في مطلع السبعينات صدور "أرخبيل الغولاغ" لسولجنتسين الذي اجبر السلطات السوفياتية على الفتح العلني لملفات الغولاغ، ثم على وضع ارشيفه بين أيدي الباحثين والمؤرخين ابتداء من البرويسترويكا الغورباتشوفية عام 1986. حالة هذا الارشيف، الذي كان عرضة للتلاعب على مرّ العهود السياسية المتقلبة، بالاضافة الى الاهواء الايديولوجية للمؤرخين، تجعل من الصعوبة بمكان الانتهاء الى رقم محدد لاجمالي نزلاء معسكرات الاعتقال السوفياتية على مدى الحقبة ما بين 1918 و1956. فمن المؤرخين من يتحدث عن 30 مليون نزيل صنيع جاك روسي الذي قضى هو نفسه سبعة عشر عاماً من حياته في الغولاغ. اما سولجنتسين فقد قدر عدد المعتقلين عشية الحرب العالمية الثانية بخمسة عشر مليوناً، على حين ان سجلات المخابرات النازية قدرت عددهم ب9800000 معتقل. والثابت اليوم لدى المؤرخين ان ما لا يقل عن 5 في المئة من مواطني الاتحاد السوفياتي قد "استضيفوا" في الغولاغ، وان نصفهم على الاقل قد قبروا فيه. ولئن تكن معركة الارقام لم تنته بعد، فإن الشيء المؤكد انه مع نهاية الغولاغ طويت صفحة من أبشع صفحات الشر السياسي في القرن العشرين.