لعل الأسباب التي انتهت بالغرب الى سحب بساط التفوق من تحت أقدام الأمم الأخرى تتمثل في ذلك الاهتمام البالغ بالبحث العلمي، فالمتتبع لتاريخ تطور العلم في اوروبا يلحظ كيف بذل العلماء هناك، تحديداً منذ القرن السابع عشر، جهوداً مضنية في بناء أسس متينة للبحث الرصين في جوانب علمية مختلفة أفضت الى تكوين نتاج ضخم من النظريات والحقائق التي دفعت باتجاه تأسيس المدنية الحديثة، ولا يُغفل في هذا الشأن افادة اولئك العلماء من أنقاض حضارات سابقة منها الاغريقية والسلامية، ويتبدى ذلك من مصطلحات لا تزال تحمل مسميات تشير الى منبعها الأصلي في تلك الحضارات. واللافت هو تلك المواصلة الدؤوب من الغربيين باتجاه البحث العلمي، اذ ما زالوا يغرفون من معينه دونما تراجع، ذلك أنهم لم يستكينوا مكتفين بإرث السلف، بل واصلوا بقدر مماثل من الجهد البحث والتمحيص في العلوم كلها. ان سؤالا يفرض ذاته بالحاح، وهو: أين نقف نحن العرب من البحث العلمي في خضم هذا الركض المحموم من المكتشفات والمخترعات المتوالية؟ يبدو ان الأمر يقتضي توضيح طبيعة البحث العلمي الملائمة لواقعنا قبل الاجابة عن السؤال، فقد يكون ضرب استحالة ان نطالب أنفسنا بالوقوف على قدم المساواة مع الغرب في هذا المضمار، فالتفوق في مصلحة الأخير أمر واضح والبون شاسع، غير ان الاقرار لا يسقط حقنا في المواكبة والدخول في مضمار السبق بأمل الكسب حتى لو بعد حين. ولكن، وكما ان من اشتراطات الرياضي خوض غمار المنافسة في مضمار السبق اكتمال لياقته البدنية واستعداده الذهني والنفسي، فان دخول مضمار المنافسة مع الغرب في حقل البحث العلمي له اشتراطاته ايضاً. اولى تلك الاشتراطات وأهمها، في تقديري، تتمثل في التمويل السخي للبحث العلمي وبحجم يتناسب مع طموح منافسة الركب، فالحال ان الدول العربية، من دون استثناء، لم تول هذا الموضوع عناية توازي أهميته في بناء مستقبل أجيالها، فاذا كانت الرياضة، مثلاً، نالت حظوة فائقة لدى القيادات العربية، فصرفت عليها أموالاً طائلة، فان درجة الاهتمام بالبحث العلمي لا تضاهي، على الأقل، ذلك الاهتمام بالرياضة، وهنا تبدو المفارقة في منظار ترتيب الأولويات، حين يركن البحث العلمي في ذيل القائمة. لندع الأرقام تتكلم في هذا الشأن: لا تتجاوز نسبة الإتفاق على البحث العلمي من أجمالي الدخل القومي في الدول النامية عموماً 64.0 في المئة والدول العربية على وجه الخصوص 76.0 في المئة، في حين تقارب النسبة 3 في المئة في الدول المتقدمة، أي ما يعادل زهاء أربعة أمثال ما تنفقه الدول العربية، بل ان بعض الأخيرة يكاد لا يمنح البحث العلمي أي قسط في الموازنة. يقول دانييل كاديه مدير الادارة الدولية للمركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية ان ميزانية المركز تصل الى نحو 5.2 بليون دولار اميركي سنوياً، وهو يفوق موازنات بعض الدول النامية، ويبلغ عدد العاملين في المركز 26000 شخص من بينهم 16000 باحث علمي. وما يبعث على الأسى ان اسرائيل تتفوق كثيراً على بعض الدول الصناعية المتقدمة في ما تخصصه للبحث العلمي. فكيف للبحث العلمي في دول العرب النهوض والازدهار في ظل التقتير والتهميش؟ وان كانت ذريعة الفاقة وقلة الدخل مقبولة بالنسبة الى بعض الدول العربية، إلا انها مرفوضة تماماً في دول عربية لديها من الوفرة المادية ما يدعم امكانات البحث لا في نطاقها، بل في دول عربية أخرى. ثمة نوعان من البحث العلمي، أولهما البحث النظري الذي يهدف الى استنباط نظريات علمية ذات صفة عمومية يمكن استخدامها في علوم شتى، ولنا على سبيل المثال في النظريات الطبيعية التي توصل اليها نيوتن واينشتاين نموذج من ذلك النوع، اذ ان استخدام نظرياتهما لم يتوقف على علم الطبيعة الفيزياء بل تجاوز الى علوم أخرى ربما ليست وشيجة الصلة بالطبيعة أصلا. وثانيهما هو نوع البحوث التطبيقية، التي تعمل على تطبيق نظريات قائمة لتحقيق أهداف مخطط لها سلفاً، ويبدو ان البحث العلمي في الدول العربية يقع في خانة النوع الأخير، أي البحوث التطبيقية، التي تنطوي على توطين التقنية ونقلها من البلد الأم الى البلد المستهلك. وفي مستطاع الدول العربية ان تمتد في اتجاه البحوث التطبيقية لو سعت الى توفير البيئة المثالية للبحث العلمي التي تقوم بصفة أساسية على تمويل مراكز ومختبرات مخصصة لهذا الغرض. ان هجرة الأدمغة العربية قرين واضح على عدم توافر مثل هذه البيئة. وبقدر ما نسعد بتفوق عالم عربي على نظرائه في الغرب، بقدر ما تطوقنا الحسرة من كل اتجاه على التفريط به وعدم منحه ما يستحق من اهتمام ليساهم بإبداعه في موطنه. ان معظم موازنات الدول العربية يتجه الى التسليح العسكري، ولم يمنحنا تفوقاً على اسرائيل طيلة الصراع معها، بل ربما أضر بنا ذلك التسليح حين أثار في البعض النعرة العربية المتطرفة، التي حسبنا انها انتهت الى غير رجعة في عصر العلم والفضاء، ليستخدم السلام ضد عرب آخرين. ولعل أجواء السلام الايجابية في منطقتنا العربية ستكون دافعاً باتجاه دعم البحث العلمي والتأكيد على التطور التقني الذاتي الذي يحد بدوره من التخلف والتبعية، والأمل ان تمنح الدول العربية قدراً كبيراً من موازناتها لهذا الغرض، ولنا في اليابان بعد الحرب النووية عليها قبيل أواسط هذا القرن درس يمكن الافادة منه، فهي الآن تحقق أعلى معدل انفاق على البحث العلمي يصل في متوسطه ما يعادل 700 دولار اميركي لكل مواطن، بينما لا يتجاوز هذا المعدل في الولاياتالمتحدة 600 دولار، ما يدل الى اعتقاد اليابانيين البالغ بدور البحث العلمي في الرقي والتقدم، وهو ما أوصلهم حقاً الى القمة في مقارعة الآلة الغربية. * كاتب سعودي.