تباغت الفنانة اللبنانية، المقيمة في كاليفورنيا، غادة جمال زوار معرضها الحالي في صالة "أجيال للفنون التشكيلية" الحمراء، إذ أنها بعد سنتين على معرضها السابق، في الصالة نفسها، والذي عرَّفها إلى الجمهور اللبناني، تعرض مجموعة من الأعمال المغايرة عن سابق تجربتها. ومبعث المباغتة يعود، بداية، إلى أن الفنانة تقترح على الزائر اصطحاب آلة تسجيل إلى كل مجموعة تصويرية، تبث موسيقى عربية قديمة، عدا أنها أرفقت هذه بشروح تتصل بالموسيقى وبمقامات وعازفين. ولا نلبث أن نتحقق من أن هذا الجمع لا يصدر عن طلب إدهاش مفتعل، أو تجريب متعمد، وإنما يصدر عن معايشة لا تتوانى الفنانة جمال عن عرضها وسردها، كما لو أنها "وصلت" أخيراً إلى ما تطلبه، ليس في الفن وحده، وإنما في الحياة نفسها. فالفنانة جمال، التي هاجرت إلى أميركا منذ سنوات بعيدة، اكتشفت - على ما تقول لنا - الموسيقى العربية التراثية في بلاد العم سام، وكان لها معها في السنتين الأخيرتين غير موعد، جعلها "مخطوفة" إلى هذا العالم السحري والسري، الذي سلبها لبها في معادلاته الروحية والجمالية، وحرك عينها البصرية و"الداخلية" في غير اتجاه. وحديثها عن علاقتها الناشئة، ولكن الصميمية، بالموسيقى لا يخلو من مخاطبة موجهة للنفس قبل الآخر، كما لو أنها تتأكد مرة تلو مرة من حسن ما انتهت إلىه. ولا يخلو حديثها كذلك من زهو هادىء، تسعفه طمأنينة رضية، وهو ما يعرفه "بصيرو" القلب، أو من تنيرهم نعمة الحب الإنساني. لا تزال الفنانة جمال مسحورة بما وصلت إليه، وهو ما نتحقق منه في مسعاها التشكيلي، الذي يتوزع في أربع مجموعات، إذ أنها تقيدت فيها بما أملته عليه، منذ المنطلق، عروضات الموسيقى. وإذا كان غيرها من الفنانين يسعى في تجارب مماثلة أو مشابهة إلى الإعلاء مما أجراه وأنجزه، ناسباً إليه "سيادته" التامة، فإن الفنانة لا تزال تفصح وتشدد على "فضل" الموسيقى على تجاربها الجديدة. وهو ما تؤكده - لو طلبنا منها شرح أعمالها أو التعليق عليها - إذ تشدد على أنها تقيدت في هذه اللوحة بهذا القسم الموسيقي، "وكنت أكرره على أسماعي، مرة تلو مرة، حسبما تؤكد لنا، إلى أن أكون قد أنجزت اللوحة المقابلة لهذا القسم". هكذا نستطيع تتبع عرض اللوحات على أنه يدون إملاءات الموسيقى على التصوير، مقطعاً تلو مقطع. هذا ما تقوله غادة جمال عن لوحاتها، بل عن "صدقها" في إداء هذا الموسيقى تصويرياً، إلا أننا نستطيع إجراء قراءة أخرى، ليس لها أن تتبع تعالق الموسيقى بالتصوير تعالقاً إلزامياً، أو مثل "ترجمة أمينة" لها، وإنما بوصف الموسيقى تحرض المخيلة وتؤججها كذلك. وتكون جمال في ذلك عايشت، بل خبرت، توافقات جمالية، بلغتنا أصداؤها وصورها ونصوصها في "رقص" الدراويش، أو في كلام أبي حيان التوحيدي عن الخط بالاستناد إلى لغة الأوتار، أو في تفلسف الفارابي في "كتاب الموسيقى الكبير" الذي عرَّف الألحان ناسباً إياها إلى التزاويق والتماثيل. ولهيئة المعرض، لتنظيم عرض لوحاته، شكل خصوصي، متباين من مجموعة إلى أخرى: ففي مجموعة نتحقق من وجود 36 لوحة صغيرة الحجم تتراصف مثل أسطر للكتابة أو للتدوين الموسيقي، ما يعطي الشكل المعروض خطاً تتابعياً ومنفصلاً، في آن. وفي مجموعة ثانية تتوزع لوحات العمل في مجموعات صغيرة، ذات مقاسات أكبر من المجموعة السابقة، ولكن وفق أسطر متباينة في علوها، راسمة تدويناً موسيقياً أشبه بالنوتات السوداء والبيضاء فوق الأسطر الخمسة في الكتابة الموسيقية. أما في مجموعة ثالثة فنرى اللوحات تتابع كما فوق سطر وحيد، هو سطر الأفق المعروض للعين، وعلى علو مناسب لها. ولكل مجموعة تشكيلية "مناخها" أو "جوها" الخصوصي: ففي واحدة نتنقل في مساحات، بعضها أرضي زراعي، وبعضها الآخر بحري مائي، وتشير في أحوال قليلة إلى افتتان جمال المستمر كما في سابق تحربتها بفن المشهد المساحي. هذا ما يصح في الموضوع، وهذا ما تسعى إليه الفنانة في المعالجة اللونية كذلك، إذ أن لكل مجموعة ما يمايزها عن غيرها، ما يجعلها ذات لون "طاغ"، حيث أنها في هذه المجموعة تتحلق حول الأخضر. وفي مجموعة أخرى نتنقل بين لوحات، متحلقة حول الذهبي، وتتدرج في تصوير مشاهد صحراوية، تغيب وتظهر فيها أشكال وهيئات، أقرب إلى سراب العين في ما تراه أو تتخيل أنها تراه. وفي مجموعة ثالثة، ذات لون أزرق غامق أساسي، تتنقل المجموعة بين أشكال متنوعة، بعضها مشهدي مساحي، وبعضها الآخر يرسم علاقات غامضة بل مبهمة بين أشكال إنسانية، غير جلية الحضور، أشبه بأشباح تتهيأ للظهور أو للاحتجاب. وقراءة هذه اللوحات - وهي مصنوعة على ورق، بألوان دهنية وزيتية - تظهر لنا استمرارات وتقطعات ضمن المجموعة الواحدة، حيث أنها تتوزع العلامات المتشاركة، وتقترح غيرها في آن. وفي مجموعة تؤكد الفنانة على التتابع في العلامات، كما في تتابع المشاهد الصحراوية، إذ تبدو كما لو أنها تسعى إلى جلاء متمادي لما قد يظهر وهو ما يصعب على البروز، في آن. وفي مجموعة أخرى نلقاها تجمع بين الاستمرار والتقطع أو التجدد في آن، فهي تعرض صوراً لا تلبث أن تنتقل منها إلى غيرها، ثم لا تلبث أن تعود إليها من جديد، وفق التكوينات نفسها بعد إجراء تبديلات، أساسية أو طفيفة، عليها. ذهبت غادة جمال إلى التصوير، هذه المرة، انطلاقاً من الموسيقى، من دون أن تلم بأساسيات هذه، ووجدت نفسها منقادة، في بداية تجربتها هذه، إلى دراسة النوتة، التي سهلتها عليها إلمامه وممارستها للغناء، لكنها ما لبثت أن وضعت جانباً كتب الموسيقى وانقادت إلى حسها، إلى تعايشاته الحارة والهادئة مع الأوتار. هذا ما خبرته على مدى أيام وأيام ثلاثة شهور في إحدى المجموعات، في استماع وتكرار استماع، حيث كان لها أن تنقل معايشتها الحسية، بل "الطربية"، لمعزوفات موسيقية، بعضها يعود إلى عزف ارتجالي للراحل منير بشير، أو للموسيقى محمد عثمان في دور "كادني الهوى" الشهير في إداء "فرقة الكندي"، أو للموسيقي جمال الطنبوري، أو من عزف المغربي حموي عبدالجميد...وهي كلها معزوفات تنهل من معين تراثي أكيد، وتحيلنا إلى الصياغات العثمانية المتأخرة، خصوصاً في القرن التاسع عشر، ذات النسب الأكيد مع التراث الموسيقي العربي-الإسلامي القديم. وهي معايشات حسية، في نهاية المطاف، لها أن تنقل تعبيرياً توليدات الموسيقى في النفس، من دون مرجعيات أو إحالات مسبقة. كما لو أن فناناً حديثاً، عربياً أو غير عربي، يتعامل اليوم في صورة تشكيلية محض مع تراث الخط العربي، في جهل متعمد أو عفوي لدلالاته ومضامينه. وهو ما نلقاه بيناً في انصراف صور وهيئات الفنانة جمال إلى غير أسلوب تشكيلي، إذ نراها في غالب الأعمال تنهل من معين التجريدي، في توليدات شكلانية أو ذات لونية معبرة، ولكنها لا تمتنع في بعض أعمالها الأخرى عن إظهار هيئات إنسانية بينة أو مبهمة الشكل. إلا أن معايشتها، وانصرافها التعبيري ذي الانفعال التلقائي، إذا جاز القول، قادتها في بعض الأحيان إلى عدم التقيد بأسلوبية ما، شكلية أو لونية، للمجموعة الواحدة. فنراها في مجموعة واحدة وحسب تتبنى نمطاً بنائياً يمسك بالمجموعة من أولها إلى آخرها، في كيفية متماسكة ذات تنويعات وتفريعات تعددها وتغنيها في آن. فيما نجدها في المجموعات الأخرى تتبع الموسيقى، إذا جاز القول، وانفعالاتها فيها، من دون أن تنظم "استقبال" هذه الموسيقى في بناء مناسب، له أرجحيته ومقتضياته، شكلاً ولوناً. تبدو غادة جمال، في حديثها عن لوحاتها كما في لوحاتها، "منخطفة" إلى ما انتهت إلى اكتشافه، أشبه بالكشف "العرفاني"، الذي يعني في هذه الحالة تصعيداً جمالياً وحسب، تندمج فيه الموسيقى بالتصوير عبر التجارب الإحساسية. وهي لا تزال واقعة "تحت تأثير" هذا الكشف، على أن الأيام والشهور والتجارب المقبلة ستظهر لنا عمق تجذرها في هذا العيش الوجداني ذي التوليدات المبتكرة، ومقدار توفقها في ابتكار نظام موازي في التصوير لما هو عليه نظام الموسيقى، على تشابه وتباين بين النظامين بالضرورة.