تتهم الجزائر الاعلام الغربي عموماً بشن حملة متعمدة ضدها لتشويه سمعتها ونقل صورة غير حقيقية عما يجري في البلاد. وتزيد بأن هذا الاعلام يدعم الجماعات الارهابية في شكل مباشر او غير مباشر عبر تضخيم عملياتها ومنحها منبراً تطل منه على الرأي العام، في حين انه يجب إسكات صوتها لسبب بسيط وواضح هو: كونها جماعات مسلحة ارهابية ومجرمة تعتدي على المواطنين الآمنين. وتعتقد الجزائر ايضاً انها تضررت من دون مبرر بسبب هذه الحملة. وفي زيارتي الاخيرة الى الجزائر، ضمن وفد صحافي عربي وغربي، بدا لي من الواضح ان الهمّ الاعلامي هو المسيطر على المسؤولين الذين نظموا نهاية الشهر الماضي رحلة لنحو اربعين صحافياً عربياً واجنبياً الى صحراء الجزائر وواحاتها في الجنوب والى شواطئ سكيكدة في الشمال الشرقي للبلاد. كانت مهمات هؤلاء المسؤولين إطلاع الصحافيين على جزائر آخرى غير تلك التي تُصورها صُحفهم وتبثها شبكات التلفزيونات التي يمثلونها والتي تظهر فيها اخبار شبه يومية احياناً عن اعمال عنف وقتل واغتيالات ومجازر تنفذها الجماعات الاسلامية المسلحة. وفعلاً عبرنا الصحراء الجزائرية، وصلنا الى قرب الحدود مع النيجر ومالي، فالتقينا قبائل الطوارق في خيمهم وتناولنا الطعام معهم. عدنا الى المناطق الحضرية مارين بقسنطينة وعنابا ثم سكيكدة حيث استمتعنا بشواطئ ميرامار وسطورة، ثم عبرنا البحر الى ميناء القل الفينيقي القديم غرب سكيكدة قبل ان نعود ادراجنا الى الجزائر العاصمة. ولم نر طوال اسبوع امضيناه بين الصحراء والشواطئ وبعض المدن اي مظهر حرب او عنف او اي مظهر خارج عن المألوف. صحيح اننا قرأنا في الصحف المحلية عن مقتل اربعة اشخاص في قرية كنا مررنا بمحاذاتها قرب سكيكدة، لكن الحياة بدت عادية في المدينة الساحلية، بل كانت تحتفل في اليوم التالي بعيدها السنوي لانتاج الفراولة الفريز، عارضة منتوجاتها من الحرف اليدوية في اليوم ذاته. سألنا عن حادثة مقتل الاشخاص الاربعة، فأجاب احد المسؤولين الجزائريين: "ان اعمال قتل مشابهة او أعنف منها احياناً تحصل في بريطانيا واميركا وفرنسا وفي دول اخرى". وزاد: "شاهدنا على شبكات التلفزيونات العالمية تفجير قنابل لاسباب عنصرية في وسط لندن الشهر الماضي. ونسمع كل يوم عن عمليات قتل في الولاياتالمتحدة لاسباب مختلفة، ويتسم بعضها بالبشاعة". لكن هل اقنع كل ذلك زملائي من الصحافيين الاجانب ان ثمة جزائر اخرى غير تلك التي يكتبون عن العنف فيها؟ وهل نجح منظمو الرحلة في تغيير الصورة التي انطبعت في ذهن كثيرين عن المجازر التي ترتكبها حفنة من المسلحين تروع الآمنين في هذا البلد الجميل؟ الجواب من رفاق الرحلة الصحافيين العرب يختلف عن الانطباع الذي أسرّت به غالبية الصحافيين الاجانب. فمعظم الزملاء العرب يعرفون الجزائر او عنها وعن تاريخها وعن خلفيات الاحداث الجارية فيها منذ بداية اعمال العنف في 1992. بل ان بعضاً منهم عايش وكتب عن حوادث اسوأ بكثير مما تشهده الجزائر اليوم. في حين كان الزملاء الاجانب، على رغم استمتاعهم بجمال الصحراء والشواطئ وحركة الناس في المدن، يفتشون ربما عن... جثة، ويتلفتون باستمرار لعلهم يشهدون عملية اغتيال، متوقعين حدثاً غير مألوف، او ربما اشتباكاً مسلحاً يحصل فجأة في سوق المدينة. ولم يحصل اي من ذلك خلال الرحلة. ولكن في الوقت نفسه لم يحاول اي من المسؤولين الجزائريين التقدم بشرح واف لهؤلاء الزملاء الاجانب الذين سأل احدهم: "كيف نكتب عن السياحة وعن جمال هذا البلد في وقت نتجول برفقة عناصر امنية ولا يُسمح لنا بمغادرة القافلة؟". أي فلسفة للاعلام؟ لا تختلف الجزائر عن اي من دول العالم النامي في تعاملها مع الاعلام الغربي عموماً ولا في تعامل هذا الاعلام معها. وتلك مشكلة قديمة بين وسائط الاعلام الغربي وعالمنا برزت في اواسط الستينات وتحولت الى صراع بلغ اوجه منتصف الثمانينات لينتهي لمصلحة الغرب بانتهاء الحرب الباردة. وكان محور الصراع آنذاك، اتهام الغرب للدول النامية بحجب معلومات عن مجتمعاتها عبر الرقابة الحكومية، وتقييد حرية تدفق المعلومات ومنع وصولها الى مواطنيها الذين منحهم ميثاق الاممالمتحدة حق الوصول اليها وتداولها من دون قيود. وفي المقابل اتهم العالم النامي الغرب الذي يملك التكنولوجيا والاموال، باحتكار المعلومات عبر وكالات الانباء العالمية الاربع الرئيسية التي كانت تُعرف ب"الاربع الكبار" وهي "وكالة فرانس برس" الفرنسية و"وكالة رويترز" البريطانية ووكالتا "اسوشيتد برس" و"يونايتد برس" الاميركيتان. وذلك قبل انتشار البث الفضائي الذي يخترق اجواء العالم كله اليوم. وزعم العالم النامي ايضاً انه يتعرض لغزو ثقافي يفرض على مجتمعاته مفاهيم الغرب في قضايا عدة عبر المعلومات التي تبثها هذه الوكالات التي كانت مصدره الرئيسي للمعلومات آنذاك. وكان للعالم النامي انصاره في الغرب خلال هذا الصراع الاعلامي، وعلى رأسهم الارلندي شون ماكبرايد الذي كلفته منظمة الاممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم يونيسكو ترؤس "اللجنة الدولية لدراسة مشاكل الاتصالات". وضع ماكبرايد تقريره العام 1980 بعنوان "اصوات متعددة عالم واحد: الاتصالات والمجتمع اليوم وغداً". وجاء هذا التقرير الى حد كبير لمصلحة العالم النامي. وكان من ابرز توصياته الدعوة الى إقامة "نظام عالمي اعلامي جديد". لكن معظم دول العالم النامي لم تستفد من التقرير الذي حملت لواءه ولوحت به عالياً من دون ان تستغل مضمونه فعلياً لمصلحتها، خصوصاً ان التقرير والنقاشات الكثيرة التي تداولها الخبراء الاعلاميون في شأنه لاحقاً اوضحت من دون لبس طبيعة المشكلة، وصار من السهل على دول العالم النامي الاستفادة من نتائج هذا الجدل في وضع منهج اعلامي يخدم مصلحتها في مواجهة الاعلام الغربي وما تعتبره تغطية منحازة ضدها. ومن بين النقاط الرئيسية التي تأكدت عقب تلك المناقشات، ان تغطية الاعلام الغربي لقضايا العالم النامي غالباً ما تكون سطحية ومنحازة. لكن الصحافي الغربي يدافع، ويضع اللوم في ذلك على حكومات هذه الدول، قائلاً ان حجبها معلومات عنه وعن غيره، وعدم تسهيل مهمته البحث في خلفيات الخبر بعمق يؤديان الى ظهور تغطية يراها هو موضوعية، في حين تراها تلك الدول سطحية يشوبها المفهوم الغربي الذي يتعمد الاساءة. الى ذلك، ظهر ايضاً من النقاش ما عُرف ب"القِيم الاخبارية الغربية"، بمعنى: كيف يُقِوِم الصحافي الغربي الخبر واهميته للنشر. وفي ذلك اتفق كثيرون من الخبراء والمحللين على ان الصحافي الغربي عموماً، يسعى خلال تغطيته العالم الثالث وراء الاخبار السيئة والمثيرة في آن، مثل اخبار الحروب والقتل والكوارث الطبيعية والمجاعات والفضائح وغيرها، ولا يكترث باخبار التنمية والتطور. وذلك لأسباب عدة من بينها ان الاخبار السيئة تكون عادة غير متوقعة ونادرة عموماً وتكون واضحة لا تحتاج الى عناء كبير لتغطيتها، وتجد طريقها الى النشر او البث بسهولة اكثر من اخبار التنمية والتطورات اليومية العادية المتوقع حصولها باستمرار. الاخبار عن الجزائر وربما كانت الجزائر ضحية هذا التقويم الغربي لاخبارها، الامر الذي نتجت عنه تغطية غير دقيقة للمجازر التي ترتكبها الجماعات الاسلامية المسلحة منذ العام 1992، لكن الدقة هنا تفترض ايضاً عدم وضع كل اللوم على الاعلام الغربي، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار مفهومه في تقويم الخبر استناداً الى تقرير ماكبرايد والجدل الذي دار بعده في هذا الشأن. يقودنا ذلك الى حقيقة آخرى هي انه لا بد من الاعتراف بان تقرير ماكبرايد حدد طبيعة الصراع الاعلامي بين الغرب وبين دول العالم النامي، لكنه لم يحارب نيابة عن هذه الدول التي انهزمت في الصراع، وفشلت بالتالي في وضع "نظام عالمي اعلامي جديد"، كما اوصى صاحب التقرير، لحماية دول العالم النامي مما تصفه بالغزو الاعلامي الغربي لها. وفي المقابل نجح الغرب في تثبيت نظامه الاعلامي "القديم" القائم على مبدأ حرية تدفق المعلومات الى كل الافراد عبر الحدود ومن دون قيود ورقابة حكومية او غيرها. وتُوج انتصار الاعلام الغربي في صراعه ضد المطالبين ب"نظام عالمي اعلامي جديد" مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي. وبدت دول المعسكر الاشتراكي والعالم الثالث عموماً، مثل سبحة انفرط عقدها. وبدأ عهد جديد تنافست فيه هذه الدول في نهج التعددية الحزبية والديموقراطية، اياً كان شكلها، وسمحت في هذا الاطار بحرية اصدار صحف مستقلة. ودخل معظم هذه الدول بطريقة او باخرى، في النظام العالمي الاعلامي "القديم" الذي كان طور سيطرته الاعلامية فأضاف الى وكالات الانباء "الاربع الكبار" القنوات الفضائية التي تبث عبر الاقمار الاصطناعية وتخترق اجواء العالم لتدخل الى كل منزل مُجهز بجهاز التقاط البث الفضائي. وعلى رغم دخول معظم دول العالم النامي، مُجبرة لا مُخيرة، في "النظام الاعلامي" الغربي، إلا ان اسلوب تعاملها مع المعلومات وبثها بقي الى حد كبير مُقيد بالانظمة الحاكمة، وكذلك التعامل مع الاعلاميين الغربيين لديها. ودخلت هذه الدول في صراع مع تجربة جديدة، فديموقراطيتها التي انتهجتها حديثاً منقولة عن الغرب ولم تنم في شكل طبيعي. وينطبق ذلك على نهج التعددية الحزبية وعلى الحريات الصحافية التي ظهرت فجأة من دون خبرة سابقة. وفي حال الجزائر، بدأت تجربة السماح باصدار صحف مستقلة غير حكومية في 1989، وظهرت منذ ذلك التاريخ عشرات من الصحف والمطبوعات اليومية والاسبوعية والشهرية. وكان طبيعياً سقوطها في فوضى النشر بسبب عدم خبرتها وعدم اعتيادها على اجواء الحريات الصحافية التي انفتحت امامها فجأة. وبعد اربع سنوات فقط، وبينما كانت هذه الصحف تعمل على تثبيت اقدامها وتبلور اتجاهاتها، بدأت اعمال العنف والمجازر على ايدي الجماعات الاسلامية المسلحة 1992 بعدما الغت الحكومة انتخابات تشريعية قيل ان الاسلاميين كانوا على طريق الفوز فيها. وربما أثارت عمليات العنف التي حصلت فجأة وحصدت آلالاف من المدنيين نهم الاعلاميين الغربيين لتغطيتها بقدر ما اربكت المتعاطين مع الشأن الاعلامي في الجزائر، خصوصاً ان عشرات الصحافيين الجزائريين قتلوا على ايدي الجماعات الاسلامية المسلحة وكانوا الضحية الاولى في بداية الازمة. إذ كان المعنيون بالاعلام امام واقع يحمل صور مجازر بشعة دانتها كل المؤسسات والمحافل الاسلامية قبل ان يدينها المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الانسان العالمية. وكان كل العالم يقف الى جانب الحكومات الجزائرية المتعاقبة في مكافحتها اعمال العنف خلال السنوات الثماني الماضية. وفي مقابل ذلك كانت الصورة الوحيدة التي ينقلها الاعلام الغربي عن الجزائر عن اعمال القتل والعنف، الامر الذي كان يزعج المسؤولين عن الاعلام في الجزائر معتبرينه حملة عدائية ضد بلدهم لمحاصرتها وضرب اقتصادها. وهذا في حين كانت هذه الصورة او التغطية الاعلامية بالنسبة الى الصحافي الغربي طبيعية وموضوعية، إذ كان امراً عادياً بالنسبة الىه ان يركز في تغطيته الجزائر على عمليات القتل. وكان من غير الطبيعي، من وجهة نظر الصحافي الغربي ان يزور الجزائر ويكتب عن التنمية الاقتصادية او يجري تحقيقات عن المصانع وعمليات الانتاج، او عن السياحة في صحراء الجزائر وجبالها وشواطئها في وقت حصول اعمال عنف مهما كان حجمها. هل توافرت الاستراتيجية؟ وربما كان صحيحاً ما يقوله مسؤولون جزائريون عن ان جهات خارجية استغلت اوضاع العنف في الجزائر وساعدت في تضخيمها. وصحيح ايضاً ان ثمة قوى عدة اقليمية وخارجية لديها مصلحة في استمرار اعمال العنف وتأجيجها. لكن السؤال هنا، هل كان لدى المعنيين في الشأن الاعلامي وفي العلاقات الخارجية في الجزائر استراتيجية واضحة في بداية الازمة للتعامل مع وسائل الاعلام الغربية على الاقل؟. وهل كان هؤلاء المعنيون يقدمون الاجوبة الشافية ويسهلون مهمات المُخبرين الصحافيين الغربيين وتزويد غير العارفين منهم بخلفيات كافية للحدث؟. واخيراً هل كان التعامل مع الصحافيين الغربيين يأخذ في الاعتبار "القيم الاخبارية الغربية" ام المفهوم الجزائري للتغطية الاعلامية؟. فعدد الصحافيين الغربيين المتخصصين فعلاً في المنطقة ويعرفون تاريخها السياسي والاجتماعي قليلون جداً، لكن عدد الذين يكتبون عن الجزائر اليوم كثير جداً. وامام هذا الواقع كان يجب استنفار "جيش" من الاعلاميين الجزائرين، وهم كُثر، لسد هذه الثغرة المهمة والاجابة عن اسئلة "جيش" الصحافيين الاجانب وتسهيل مهماتهم ومساعدتهم بالمعلومات، خصوصاً ان غالبيتهم مهتمة فقط بتغطية الحدث الجاري استناداً الى مفاهيمها الغربية للاخبار وتقويمها لها، وليس لديها الوقت الكافي للبحث العميق في الخلفيات. فكل همّ هذه الاغلبية هو التغطية السريعة للحدث التي تبدو سطحية من دون خلفيات دقيقة في غالب الاحيان. وحتى لا نظلم كل الاعلاميين الغربيين، فإن من بينهم من كان يسعى وراء خلفيات الازمة، وكان بعض من هؤلاء رفاق الرحلة المذكورة وأغلبهم يتكلم العربية او يفهمها. وكان احدهم يناقش، بالانكليزية، مسؤولين اثنين في الأزمة الجارية مع الاسلاميين، كما طرح اسئلة فيها انتقادات للحكومة واسلوب تعاطيها مع الاعلاميين الغربيين. وتضايق هذان المسؤولان من اسئلة الصحافي الاجنبي من دون ان يظهر ذلك واضحاً وهما يناقشانه بالانكليزية. ثم تحدثا معاً بالعربية امامه من دون الانتباه الى انه يفهمها ويتحدث بها، واتفقا على ان ذاك الاجنبي "حتماً جاسوس... لكي يطرح اسئلة كهذه". وطبعاً لم يتفوه هذا الصحافي "الجاسوس" امامهم بأي كلمة بالعربية ولم يُشعرهم بأنه فهم حديثهم. ومثل هذه الحادثة تؤكد وجود ثغرات في تعامل المعنيين الجزائرين مع الاعلام الغربي. وعوداً على بدء، فإن الجزائر ربما كانت على حق في اعتقادها ان الاعلام الغربي عموماً غير مُنصف في تغطيته الاحداث الجارية فيها عبر تجاهل حقائق ايجابية كثيرة تتعدى أعمال العنف. لكن هل فعلاً ساعد الجزائريون على تصحيح هذه الصورة ام ثبّتوها عن غير قصد كجزء من سوء فهمهم للقيم الصحافية الغربية؟