كان من المنتظر أن تشهد ترجمة الشعر الأرمني إلى العربية حالاً من الازدهار نظراً إلى بروز شعراء أرمن في العالم العربي ينتمون إلى الجالية الأرمنية العربية الكبيرة، لا سيما في لبنان وسورية، يجيدون لغة الضاد ويكتبون بها في أحياناً. لكنّ ما صدر من ترجمات عربية من الشعر الأرمني لم يكن كافياً لإرساء صورة شاملة عن هذا الشعر العريق وعن تاريخه والمراحل التي اجتازها والمدارس التي تتوزعه والخصائص التي يتميز بها. معظم الترجمات بدت تضم قصائد مختارة من بضعة شعراء، أما المختارات الشاملة التي يمكن الركون إليها لقراءة الشعر الأرمني قراءة حقيقية فهي نادرة جداً، علماً أن بضعة مترجمين عملوا في هذا الحقل بغية ملء هذا الفراغ، ومنهم فاروجان كازانجيان في القاهرة وهو أصدر كتاب «مختارات من الشعر الأرمني عبر العصور» (المركز القومي للترجمة - مراجعة محمد إبراهيم أبو سنة وتقديم فاروق شوشة)، ومهران ميناسيان في حلب صاحب كتاب «الأقنعة والمرايا - مختارات من الشعر الأرمني» (منشورات وزارة الثقافة السورية) ونظار نظاريان وسركيس غيراغوسيان في لبنان وسواهم. هكذا كان على القراء العرب الذين يتوسعوا في قراءة الشعر الأرمني وبخاصة الجديد منه، أن يبحثوا عنه في لغات أخرى كالفرنسية والإنكليزية اللتين عرفتا ترجمات كثيرة ومهمة. حتى في بيروت نفسها صدرت في العام 1981 عن نادي هماسكايين مختارات جميلة من الشعر الأرمني باللغة الفرنسية، وكانت هذه المختارات أولى إطلالاتي الشاملة على هذا الشعر وتحديداً على الشعراء الثلاثة الكبار: غريغوريوس ناريغاتسي، أيقونة الشعر الأرمني، المعروف عالمياً، الشاعر يغيشه تشارنتس أحد رواد الحداثة أرمنياً وعالمياً، والشاعر الشهيد دانيال فاروجان. لكنّ هذه المختارات لم تقدم الأصوات الجديدة في الوطن والمهجر بل اكتفت بالأسماء المكرسة. البادرة الجديدة في هذا الميدان قامت بها الكاتبة والصحافية الأرمنية اللبنانية جولي مراد التي شاءت أن تقدم في كتابها «شعراؤنا صانعو مجد أرمينيا» صورة شاملة ومختصرة في آن، عن الشعر الأرمني، في بداياته الملحمية، وفي مراحله المسيحية الصوفية، ثم في الحقب اللاحقة حتى الأعوام الخمسين من القرن العشرين التي تجلت فيها ثورة الشعر الحديث. وشاءت مراد أيضاً أن تكون مختاراتها الشعرية (دار المراد) ذات طابع احتفالي، سواء في شكل الكتاب الضخم الذي تزينه لوحات منتقاة من الحركة التشكيلية الأرمنية، أم في جمع شهادات كتبها أدباء أرمن وعرب ومنهم: وزير الثقافة اللبناني السابق ميشال إده، يرتشو صاموئيليان، أنطوان الدويهي، يرفانت دير ختشادوريان، ربيعة أبي فاضل، عبدو لبكي وسواهم، إضافة إلى المقدمة التي كتبتها مراد نفسها. واستهلت المختارات بشهادة لرئيس جمهورية أرمينيا سيرج سركيسيان قال فيها: «شعراء غدت سيرهم أساطير حفرت في ذاكرة التاريخ ملاحم ومآسي، قصائد أمست أناشيد وصلوات تتردد في البيوت والحقول». وأرفقت الكتاب بفصل عن تاريخ الحركة التشكيلية الأرمنية وروادها مع نماذج من رسومهم ولوحاتهم، وضم هذا الفصل مقدمة شاملة ومهمة عن تاريخ هذه الحركة كتبها الفنان والأكاديمي محمود الزيباوي. الفن مرآة للشعر كتاب «شعراؤنا...» هو أكثر من كتاب، مؤلَّف ضخم يجمع بين الشعر والفن الأرمني في تناميهما عبر عصور عدة، وكأن الواحد منهما مرآة للآخر، يتحاوران ويتقابلان وينصهران في الرؤية والرؤيا. ولعل هذا الجمع هو ما أغنى الكتاب، جاعلاً منه مرجعاً شعرياً وفنياً. ولم تعمد مراد إلى تقديم الكتاب تقديماً نقدياً أو تأريخياً بل قدمته تقديماً «وجدانياً» إن جاز القول، وانطباعياً، مكتفية بدور المترجمة المعاندة، المتضلعة من اللغتين، الأرمنية والعربية. فهي سليلة هذا الشعر، بغنائيته وصوفيته وتراجيديته وجمالياته، مثلما هي سليلة اللغة العربية التي لها فيها عمل معجمي، عطفاً على الكتابة والترجمة. تقول مراد في تقديمها: «شعراء خلقوا في دمي وزرعوا في مسامي، وسكنوا أروقة خيالي...شممت عطر شذاهم، شربت ماء مآقيهم». إنها علاقة الحنين تجمعها بهؤلاء الشعراء الطالعين من أرض الحلم والعذاب، أرض الطبيعة المقدسة والمأساة... اعتمدت مراد في بناء هذه المختارات الخط الكرونولوجي التاريخي، ساعية إلى تقديم هذا الشعر في مراحله كافة، حقبة تلو أخرى، ومدرسة تلو مدرسة، من خلال الشعراء الذين تعدّهم في طليعة الشعر الأرمني. هكذا انطلقت من الشعر الأسطوري مع أسطورة «فاهاكن»، إله الحرب والبطولة الخارقة و»قاهر التنانين» كما لقّب، وهي أسطورة ألهمت شعراء كثراً على مر السنين، وتتوقف عند قصيدة «ولادة فاهاكن» كنموذج وقد كتبها الشاعر موفسيس خوريناتسي الذي عمل على الأساطير القديمة، وفي رأيه أن الشعب الأرمني «احتفظ بالملاحم التي استمد منها القوة والجبروت على الصدّ والدفاع، أمام بطش الأعداء والمغيرين على الوطن». وفي مطلع القصيدة الأسطورية التي تذكر بالقصائد الأسطورية في الحضارات القديمة: «في البحر الذي لوحته أشعة الشمس الذهبية المشمشية تلاحم الاثنان بانسجام الأم الأرض والسماء الأب...». ثم يتوالى الشعراء وقصائدهم مع سير موجزة تعرف بهم، ومن هؤلاء: القديس مسروب ماشدوتس (362 -440)، مبتكر الحرف الأرمني وواضع الأسس الأولى لأوزان الشعر الأرمني، موفسيس خوريناتسي (410- 500)، شاعر الملاحم والأساطير، غريغوريوس ناريغاتسي (954-1010)، القديس واللاهوتي والشاعر الأكثر شهرة عالمياً، وهو من شرّع أبواب النهضة الأرمنية، ناهابيت كوتشاك (توفي عام 1592)، أول شاعر مغنّ جوال - تروبادور، سايات نوفا (1722-1795)، رائد الشعر الغنائي، بيدروس توريان (1852 -1872)، «لامارتين أرمينيا»، سيبيل (1863-1934)، درة الشعر الأرمني، كوميداس (1869-1935)، عبقري الموسيقى ورسول الأغنية الأرمنية، إفيديك أساهاكيان (1875- 1957) عمر خيام أرمينيا، فاهان تيكيان (1877-1945-القاهرة)، ناحت اللغة وشاعرها، دانيال فاروجان (1884-193) شاعر المأساة، يغيشه تشارنتس (1897-1973) شاعر الحداثة، هنريك إتويان (1940) شاعر التجديد الحداثي... ومع هذا الشاعر تتوقف المختارات، فاصلة بين الأجيال المتعاقبة والجيل الجديد الذي يستحق مختارات خاصة به، لاسيما أن الشعر الأرمني الراهن يحتاج إلى بحث مستفيض جراء اتساع خريطته الموزعة بين أرمينيا والمغترب الكبير بين أميركا وأوروبا والعالم العربي. ولعل المختارات الصادرة بالفرنسية والإنكليزية لهذا الشعر تؤكد غناه وتنوعه وفرادته وارتباطه بحركة الشعر العالمي المابعد حداثي. بين آسيا والغرب وفي قراءة هذه المختارات التي أنجزتها جولي مراد تتأكد خصوصية الشعر الأرمني القديم والحديث، هذا الشعر القائم كما الحضارة الأرمنية، بين آسيا القديمة والجديدة وبين الغرب القديم والجديد ، بين التراث الشرقي والآخر المتوسطي. شعر يمثل روح الأرض والأمة، روح الطبيعة والشعب الذي تعرض للاضطهاد والقهر، سواء في مطلع القرن العشرين عبر المجازر العثمانية التي ارتكبت ضده، أم في ظل النظام البولشيفي الذي أخضعه لسلطته وهجره وبعثره. هذا الشعر هو بحق ملتقى المدارس الشعرية العالمية، منفتح على كل التيارات والمدارس التي نشأت تاريخياً، ومحافظ في الوقت نفسه على هويته الأرمنية الحضارية وعلى انتمائه الوجودي. هكذا كان هذا الشعر صلة وصل بين أشعار الأساطير القديمة والتوراة والصوفية المسيحية والشعر الفارسي والعربي والغربي في شتى مدارسه، الكلاسيكية والرومنطيقية والرمزية، وقد نجح في إضفاء طابعه الخاص عليها. أما السمة التي تميز هذه المختارات فتتمثل في البعد اللغوي الذي تجلت فيه، وفي الثوب القشيب الذي ألقته مراد على القصائد. إنها لم تترجم القصائد فقط بل كتبتها ونسجتها كما عاشتها، ومنحتها اعتناء لغوياً لافتاً، وأولت الصياغة اهتماماً كبيراً، متخيرة المفردات والمترادفات وحابكة الأبيات والجمل الشعرية بمهارة لافتة. وقد سيطرت لغتها أو فنها اللغوي على كل القصائد، وهذا يحسب لها بقدر ما يحسب عليها، فاللغة الشعرية المتقنة وحدت شعراء العصور والتجارب المختلفة، في بوتقة لغوية واحدة هي من ابتداع قلمها ذي المراس الخاص.