حتى ذلك الحين كان النظام الذي فرضه ستالين على جغرافية الاتحاد السوفياتي مسيطراً وقادراً على لجم كل الصراعات الوطنية والقومية والعرقية والدينية التي سوف تبرز الى العلن بعد ذلك، فتفاجئ العالم بما فيها من عمق وحدة. والحال ان العالم على رغم تنبهه باكراً الى ما في فسيفساء الاتحاد السوفياتي من براكين تنتظر اللحظة المناسبة لتنفجر، كان قد اعتاد على الهدوء المفروض بالقوة ومن خلال سيطرة السلطة المركزية. والهدوء كان يلف بالطبع ذلك التوزع الجغرافي الذي تم تركيبه خلال عقود من الزمن تم فيها توزيع واعادة توزيع السكان، واقتطاع المناطق وإلحاقها بمناطق اخرى، بحيث رُسم في نهاية الامر تداخل غريب وعجيب تحدثت عنه الباحثة الفرنسية هيلين كارير دانكوس في كتاب تنبوئي صدر اواخر السبعينات وتحدث مبكراً عن امكانية تفجر الاتحاد السوفياتي. ولعل قضية قره باخ تقدم لنا المثال الاسطع على تلك الوضعية. فالناظر الى خارطة تلك المنطقة الواقعة جنوب الاتحاد السوفياتي بين بحر قزوين وتركيا، سيدهشه توزع سكاني وجغرافي جعل قطعة من أرمينيا يقطنها سكان هم في معظمهم من الارمن، واقعة ضمن اراضي أذربيجان، كما جعل جزءاً من أذربيجان، يعيش فيه سكان معظمهم من الآذريين، يقع داخل أرمينيا. المنطقة الاولى اسمها "ناغورنو قره باخ" والثانية "ناختشيفان". ولئن كان الاتحاد السوفياتي سينفجر عرقياً وقومياً، طوال السنوات الاولى من التسعينات، فإن تلك المنطقة من العالم بكّرت في الوصول الى الانفجار، حيث بدأت قضية قره باخ في زمن كان الاتحاد السوفياتي لا يزال قوياً ويعد بالكثير. حدث ذلك في 1988، اي بعد ثلاث سنوات فقط على وصول غورباتشوف الصورة الى السلطة في موسكو. واذا كان غورباتشوف قد وجه نفسه مجبراً خلال السنوات الاولى لحكمه على تقويم الاوضاع الاقتصادية والانفتاح على العالم الخارجي، فإنه لم يخطر له في بال انه سيكون عليه بدءاً من 1988 ان يدفع ثمن اخطاء ستالين وخطاياه. فستالين كان يرى في اعادة تقسيم الاتحاد السوفياتي واعادة توزيع سكانه وسيلة لدمج السكان وابعادهم عن مكامن الحريق، لكن مجيء غورباتشوف والشفافية واستعادة الطوائف والاعراق لعصبيتها، جعلت ذلك كله يذهب هباء. وهذه الحقيقة واجهها غورباتشوف كما واجهها العالم كله يوم 23 آذار مارس 1988 وسط مناخ دهشة شديدة. ففي ذلك اليوم اعلن ارمن قره باخ اضراباً عاماً جعل من مدينة ستبباناكرت عاصمة ناغورنو قره باخ "مدينة ميتة". فقد حل الاضراب العام محل التظاهرات الصاخبة التي كانت جبهة تحرير قره باخ قد دعت السكان اليها وسارعت سلطات وزارة الداخلية الى حظرها. صحيح ان اضراب ذلك اليوم كان بداية، لكنه كان الشرارة التي منها اندلع الحريق، اذ منذ ذلك اليوم بالتحديد، ولدت قضية قره باخ، التي ستشعل القتال بين الارمن والآذريين طوال السنوات التالية، وتضع منطقة القوقاز كلها على فوهة بركان، مثبتةً عجز السلطات السوفياتية المركزية عن الاستمرار في امساك الامور. ومن هنا يرى الكثير من المؤرخين انه اذا كان ثمة يوم يمكن ارجاع بداية انفراط الاتحاد السوفياتي اليه، فإن هذا اليوم هو 23 آذار 1988. صحيح ان لمنطقة القره باخ خصوصياتها: فتلك المنطقة ذات الادارة الذاتية الواقعة داخل جمهورية أذربيجان السوفياتية، يشكل الارمن 75 في المئة من سكانها. ومن هنا كان من الطبيعي ان تطالب جمهورية أرمينيا المجاورة بضمها اليها. وهكذا طوال الشهور السابقة راحت التحركات الوطنية تتفاعل في يريفان، عاصمة أرمينيا على شكل مظاهرات وعرائض. ثم تواكب هذا مع سلسلة من الاشاعات التي راحت تتحدث عن عمليات ذبح وذبح مضاد بين الارمن والآذريين، لا سيما في ما يتعلق بمدينة سومغايين الآذرية الواقعة على بحر قزوين حيث قيل ان الآذريين قتلوا 32 ارمنياً. كل هذا ارعب الكرملين، وبدأ غورباتشوف يتدخل شخصياً، ولكن من دون جدوى. لقد امضى الزعيم السوفياتي يومها اسابيع عديدة في اتصالات متلاحقة، فهو كان يعرف ان موسكو اذا تنازلت هنا واستجابت لمطالب الارمن فإنها ستكون قد فتحت على نفسها باباً لا يمكن سده، لأن كل البناء الذي اقامه ستالين سيتبدى عند ذلك هشاً. لكن النار اندلعت في قره باخ، وشدد الارمن على مطالبهم، وكان رد فعل الآذريين عنيفاً، فيما وقعت المعارك وراح كل فريق يحتل اراضي فريق آخر ويذبح ابناءه. وفي النهاية اعلن غورباتشوف امام كبار مساعديه انه لم يعد قادراً على لجم الامور. على هذا النحو كانت بداية تفكك الاتحاد السوفياتي، ذلك التفكك الذي تحدثت عنه، باكراً، كاتبة فرنسية في وقت كان حدث كهذا يبدو اقرب الى الخيال العلمي.