الفوتوغرافي السعودي محمد محتسب يُتوَّج بلقب ZEUS    "الفطرية": ولادة خمس غزلان ريم في" الواحة العالمية"    الديوان الملكي: وفاة الأمير عبدالله بن مساعد آل عبدالرحمن    في إنجاز عالمي جديد يضاف لسجل تفوقها.. السعودية تتصدر مؤشر تمكين المرأة في مجال الذكاء الاصطناعي    "الموارد": "الفرع الافتراضي" خفض الزيارات الحضورية 93 %    السعودية رائدة في مجال المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية    شدد على منع امتلاك النووي.. ترامب: محادثات مباشرة بين أمريكا وإيران    السعودية بوصلة الاستقرار العالمي (2-3)    وزير الخارجية يصل إلى واشنطن في زيارة رسمية    في ذهاب نصف نهائي أبطال آسيا 2.. التعاون يهزم الشارقة الإماراتي ويضع قدماً في النهائي    في ذهاب ربع نهائي دوري أبطال أوروبا.. برشلونة يواجه دورتموند.. وباريس يخشى مفاجآت أستون فيلا    ضبط مقيم في الشرقية لترويجه "الأمفيتامين"    «القمر الدموي».. خسوف كلي يُشاهد من معظم القارات    إطلاق الاختبارات الوطنية "نافس" في جميع مدارس المملكة    وزير الدفاع ونظيره العراقي يبحثان تعزيز التعاون العسكري    15 ألف قرار بحق مخالفين    أمير جازان يرأس اجتماع لجنة الدفاع المدني الرئيسية بالمنطقة    جازان تودّع شيخ قبيلة النجامية بحزن عميق    الشؤون الإسلامية في جازان تشارك في يومي الصحة والتوحد العالمي    الشؤون الإسلامية في جازان تقيم عدة مناشط دعوية في الدوائر الحكومية خلال الشهرين الماضيين    صحيفة الرأي توقّع عقد شراكة مع نادي الثقافة والفنون    إنجاز طبي سعودي.. استئصال ورم في الجمجمة بالمنظار    تقلب المزاج.. الوراثة سبب والاتزان النفسي علاج    مسبار يستقر في الفضاء بنجاح    ملتقى ومعرض المنصات المالية الذكية iPExpo2025    السعودية وإعادة رسم خريطة التجارة العالمية    الحملة الوطنية للعمل الخيري في نسختها الخامسة تتجاوز 1.8 مليار ريال    تمير من سدير يا جمهور الهلال!    رحلة آمنة    ديربي حائل بشعار الصعود.. العين يلتقي أحد.. الجندل يواجه العدالة    6 أندية ترافق الخليج والهدى إلى ربع نهائي كأس اتحاد اليد    بجوائز تتجاوز 24 مليون يورو.. انطلاق "جولة الرياض" ضمن جولات الجياد العربية    رودريغيز يستهدف جيسوس للتغطية على كوارثه!    ثقافات الفن وتأويلاته المبتكرة «على مشارف الأفق»    باقي من الماضي والآثار تذكار    الدرع قصدك فيه فرحة والاوناس لاشك عند اللي يجي له ثميني    سلوكيات بريئة تشكك بالخيانة    NASA تعجز عن إرسال رحلة للمريخ    ثغرة خطيرة في WhatsApp    التصوير بالرنين المغناطيسي يضر الجسم    عودة الذئب الرهيب بعد 10000 عام    الشعور بالجوع يعيد تشكيل الخلايا المناعية    سعود بن بندر: الاستثمار في البنية التحتية الذكية والابتكار يؤتي ثماره في تحسين جودة الحياة    زهرة اللبن (الأقحوانة البيضاء) حورية الرومان وملهمة الشعراء    دول آسيا تبحث عن حلول للتعامل مع حرب التجارة الصينية الأمريكية    روسيا: مستقبل الحد من الأسلحة النووية.. يعتمد على الثقة    تصاعد الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر ومالي    الأهلي المصري يكرر فوزه على الهلال السوداني ويتأهل إلى نصف نهائي «أبطال أفريقيا»    قلق أممي إزاء وضع المدنيين في السودان    أمير المدينة يلتقي قائد أمن المنشآت    فهد بن سلطان يستقبل وكلاء ومنتسبي إمارة تبوك بمناسبة العيد    النقل الإسعافي يستقبل 5 آلاف بلاغ بالمدينة المنورة    أمير منطقة تبوك يستقبل وكلاء ومنسوبي الامارة بمناسبة عيد الفطر    مباحثات لتعزيز التعاون الدفاعي بين السعودية والعراق    رئاسة الافتاء تصدر كتابا علمياً عن خطر جريمة الرشوة على الفرد ومقدرات الوطن    الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظِّم لقاء معايدة    العلاقة بين وسائل التواصل والتربية السليمة    "البصيلي": يستقبل المهنئين بعيد الفطر المبارك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفاجعة برحيل الامام الوالد : ذكريات وحكايات عن الشيخ عبدالعزيز بن باز
نشر في الحياة يوم 01 - 06 - 1999

فجع الاسلام وأهله فجر يوم الخميس السابع والعشرين من محرم 1420 للهجرة بوفاة الإمام العلامة والوالد الشفيق والعالم الفاضل والمربي القدير الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز بعد تسع وثمانين سنة وشهر وخمسة عشر يوماً من العمل المبارك الحافل بطاعة الله تعالى وخدمة الإسلام والمسلمين.
ولد رحمه الله تعالى عام 1330 للهجرة ونشأ في بيت طيب وحفظ القرآن قبل البلوغ ودرس على العلماء في بلده ورحل للطلب في البلدان وفقد بصره بالكلية وعمره 19 عاماً من مرض أصابه أحسبه - والله حسيبه - ممن ينطبق عليه حديث النبي صلى الله علي وسلم: يقول الله عز وجل من أذهبْتُ حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة. "رواه الترمذي 2325 وقال هذا حديث حمن صحيح.
كان قويا في امر الله - ما يستطيع ويقدر - ولما قال احد الطواغيت ان القرآن فيه خرافات كقصة اصحاب الكهف وعصا موسى كتب اليه الشيخ مبينا ان ذاك ردة وكفر ولما كتب اليه احد أعوان ذلك الظالم بأن القائل لا يقصد وهو متراجع عن قوله كتب له الشيخ آمراً له ان كان صادقاً بإعلان توبته على الملأ كما أعلن كفره على الملأ، وكذلك رده على من أنكر السنة، ورد على أهل الباطل باطلهم وعلى أهل البدع بدعهم فكتب في التحذير من المقامات الشركية والأضرحة والقبور وسعى في ازالتها ونبه على الاحتفالات البدعية كالمولد وذكرى الإسراء وليلة النصف من شعبان وغيرها من البدع التي لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على اصحابه.
كان إماماً بحق فهو إمام أهل السنة والجماعة في هذا العصر والمجدد للدين فكم أحيا الله به من سنة وأمات من بدعة وأيقظ من غفلة وهدى من ضلالة فهو إمام من أئمة المتقين كما قال الله: واجعلنا للمتقين إماما.
وكان يسعى لإزالة المنكرات، فكم من منكر قد أزيل وشر قد أوقف وبدعة قد محيت بسببه، وهذا قديم من فعله رحمه الله وقد أثنى عليه شيخه محمد بن ابراهيم رحمه الله في نقده وتزييفه لمذهب القومية العربية فتاوى ابن ابراهيم 13/148 وكتب مؤيداً له في انكاره بدعة التكبير الجماعي المرجع السابق 3/127، وقد كتب هو الى شيخه بخطورة فتن المجلات كالمصور وروز اليوسف وآخر ساعة المنتشرة في ذلك الوقت المرجع السابق 13/119 وما أنكره وكتب في إنكاره بعد ذلك لا يعد ولا يحصى من الردود والخطابات واستدعاء أهل الباطل لمناقشتهم وإقامة الحجة عليهم، وأحسبه في ذلك ممتثلاً لقوله تعالى: لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون 63 المائدة، ونصح الناس وحذرهم من الوظائف المحرمة والأكساب الخبيثة.
وتابع مظاهر الفساد وحذر منها أولاً بأول كالأطباق الفضائية والسفر الى الخارج وأضرار الأغاني والأفلام على أبناء الإسلام وكتب في خطورة التبرج والسفور والاختلاط غيرة لله وعلى أعراض المؤمنات، وغير ذلك مما يدل على متابعته لأحوال الأمة وشفقته عليها. كان إماماً مجتهداً أفتى في النوازل الكبار وتصدى للمسائل الصعبة الشائكة بما رزقه الله من العلم والفهم والبصيرة ورأس مجمع الفقه الإسلامي الذي أفتى في النوازل العصرية.
وفتاواه في الطلاق دالة على اجتهاده وفقهه رحم الله بها من العباد ذكوراً واناثاً من لا يحصى. كان مجدداً في الجمع بين الفقه والحديث يعرف الحديث وصحته ويحفظ من أحاديث دوواين السنة الكثير ويعرف الرجال ويضبط الأسماء وتصحح النسخ والطبعات بين يديه مع كونه ضريراً كما كان بحراً في معرفة أقوال العلماء لا يخرج عن أقوالهم ولا تكاد تجد له فتوى شاذة فظهر رحمه الله عدلاً وسطاً بين طرفين مال أحدهما الى الحديث ولم يشتغل بالفقه وأقوال العلماء كما ينبغي ومال الآخر الى الفقه وأقوال الفقهاء ولم يهتم بالحديث كما ينبغي فكان جامعاً لحسنات الفريقين.
هو الرئيس المسكت الذي تجتمع على قوله الآراء وربما اختلف العلماء أمامه في النقاش فإذا قال قولاً فصل بينهم وأذعنوا له ورضخوا لرأيه، وجعلوا لقوله صوتين في لجنة الفتوى مقابل صوت واحد لكل عضو من أعضاء اللجنة. وأما العامة فان كثيراً منهم لا يقبلون الا بفتوى الشيخ وإذا كثرت الأقوال والآراء في المجلس قال الواحد منهم: أريحونا، ماذا قال ابن باز، فمن أعظم النعم التي حصلت بسببه اجتماع كلمة العلماء والناس عامة وخاصة عليه وهذه ميزة قد لا توجد لغيرة في هذا الزمان.
كان ينزل الى مستوى العامة لتفهيمهم ولم يكن يخاطبهم من علو بل كان كثيراً ما يجيب باللهجة العامية الدارجة ليفهموا عنه. وهو مجدد في عالم الفتوى ففتاواه قائمة على ربط الحكم بالأدلة من الكتاب والسنة وربما يذكر فيها نقلاً عن بعض أهل العلم وكثير من فتاوى من سبقه تغلب عليها النقولات من كتب المذاهب وغيرها، فربط السائلين بل والعامة بالكتاب والسنة.
كان يحب نفع الناس بالعلم في كل وقت وينتهز الفرص لذلك يجلس في المسجد انتظاراً للصلاة فيستمع أحياناً لقراءة من بجانبه فربما تمر كلمة صعبة فيقول للقارئ تعرف معنى هذه؟ ثم يخبره بمعناها. جلست بجانبه مرات عدة في بيته فإذا أنهى بعض المكالمات يلتفت ويقول هذا سأل عن كذا وأجبناه بكذا، وإذا كان السؤال طريفاً ذكره إيناساً وملاطفة لمن حوله.
وكان عظيم التواضع ومن تواضعه انه قلما كان يعلق في دروسه مكتفياً بكلام أصحاب الكتب كأن الدرس له ولمراجعته ومذاكرته وفائدته، وتعليقاته على فتح الباري يسيرة يعلق على ما لا بد منه، وكان يذكر مشايخه ويترحم عليهم.
ومن تواضعه انه يقوم فيمشي الى النساء والعجائز الواقفات ببابه لقضاء حوائجهن من مال او سؤال ونحو ذلك وأوقف مرة نقاشاً مع علماء كبار ليجيب على امرأة بالهاتف فلما عاتبه بعضهم قال هذه صاحبة حاجة.
كان يجيب الدعوة من الفراش والحارس في الجامعة الاسلامية وهو مديرها، وكان يهتم مع كثرة أشغاله بإجابة الدعوة لولائم الأعراس خاصة لتأكد الأمر بإجابتها في السنة.
وكان في غاية الديانة والأمانة يستأمن على الملايين من صدقات المسلمين وزكواتهم فيجتهد في إنفاقها في وجوهها. وليس ببعيد أن يكون ما أنفق على يديه يزيد على ألف مليون.
كان يهتم بطلابه ولما درس في الخرج طلب لهم سكناً ومكافآت وعقد لهم الدروس والحلق بعد الفجر وبعد الظهر وبعد العصر وبين المغرب والعشاء ويذكر عنه بعض طلابه الذين كانوا يدرسون عليه تفسير ابن كثير بين العشائين انه كان كثيراً ما يتأثر ويبكي وربما يطول الدرس بسبب تأثره دون ان ينتبه فاذا انتبه أنهاه وتقام صلاة العشاء، وكان يناقش طلابه وخصوصاً في درس المواريث ويتفقد أحوالهم ويقضي حاجاتهم ويخرج معهم الى البر ولا ينسى إقامة الرياضات البدنية لهم مثل رياضة العدو والمسابقة على الأقدام وقد وردت بها السنة كما في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع. ولما دهمت السيول بلدة الدلم سنة 1360 خرج يشجع الأهالي على إقامة السدود وأخرج من بيته التمر والقهوة الى موقع العمل لخدمتهم، ولما هاجمت أسراب الجراد البلد خرج الشيخ معهم لقتله بالجريد. وكان حريصاً على الأوقاف وإدارتها وإقامة المدارس ولما عين في إدارة الجامعة الإسلامية في المدينة عام 1381 وما بعدها كان يتفقد الفصول والطلاب ويعتني بالوافدين من البلدان الأخرى وتوفير الكتب وتعليمهم العربية وكان يقترض من صندوق الجامعة على حساب راتب الشهر الآتي ليساعد فقراء الطلاب ووجد نفسه مرة مدينا ب 400 ريال من راتب الشهر الذي بعده فاقترض من بعض المشايخ لأجل الفقراء، ولما عين رئيساً لإدارات البحوث العلمية والإفتاء عام 1395 وغادر المدينة النبوية الى الرياض حصلت مشاهد من التأثر لدى أصحابه وطلابه وألقى كلمة اختلط فيها الكلام بالبكاء والنشيج.
قليلون اولئك الذين تولوا مناصب فلم يتغيروا ولم يظلموا ولم يتجبروا.
كان إدارياً ناجحاً تولى ادارة الجامعة الإسلامية بالمدينة وإدارة اللجنة الدائمة للإفتاء وهيئة كبار العلماء وكان رجلاً منظماً في وقته وعمله ودروسه وطعامه ومجلسه يعطي كل ذي حق حقه.
كان وراء كثير من المشاريع الخيرية من بناء المساجد ومنشآت تحفيظ القرآن والمراكز الإسلامية والمعاهد الشرعية ومن أعظم حسناته سعيه لفتح أقسام للشؤون الدينية في سائر الدوائر والمصالح لتنظيم المواعظ والمحاضرات ورفع الأسئلة والاستفتاءات فحصل بسبب ذلك خير عظيم لا يحصيه الا الله عز وجل نسأل الله ان يثقل بذلك ميزانه.
له تمييز عجيب لأصوات الناس مع كثرتهم حتى لربما عرف المتكلم ولو لم يسمع صوته منذ سنين، ويحفظ الأشخاص ويسألهم عن أحوالهم وأحوال بلدهم وأقاربهم مع كثرتهم البالغة. وكان كثير الوصية لمن ودعه بتقوى الله.
كان يكثر ذكر الله تعالى حتى وهو على الطعام وبين اللقم ويكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويكثر جداً من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لغا شخص بحضرته يقول له: سبح، سبح. وكان كثير الصمت عظيم الفكر، يظهر عليه إطراقه وتأمله عندما يسمع. له فراسة عجيبة في تمييز الصادق من الكاذب واختيار الرجال للمهمات. كان ورعاً في الفتوى، كثيراً ما يقول ننظر فيها، تحتاج الى تأمل، أكتبها للجنة الإفتاء لنبحثها مع الإخوان، قال لي ذلك مراراً في ضمن مئات الأسئلة التي سألته إياها على مدى عشرين عاماً، ولا يستنكف ان يقول في درسه في صحن الحرم المكي على الملأ من الناس: المسألة مشتبهة علي.
كان صاحب خشية لله سريع الدمعة شديد التأثر يقطع درسه لبكاء يغلبه قال الله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء. كان يبكي عند ذكر قصة كعب بن مالك وقصة حادثة الإفك وقصة بيعة الأنصار وقصة الأعرابي الذي وقصته دابته فعمل قليلاً وأجر كثيراً.
وضع الله له القبول في الأرض، ووصل علمه وصيته الى الناس شرقاً وغربا: ذهب أحد الدعاة في دورة الى احدى الدول في وسط أفريقيا فقال: وجدنا عجوزاً، فسألتنا: من أين أنتم؟ فقلنا لها عبر المترجم: من السعودية، فقالت: بلغوا سلامي للشيخ ابن باز. وكذا سأل عنه بعض فقراء نيبال بعض المقاولين الذين جاؤوا يبحثون عن عمالة.
كان عادلاً بين زوجتيه يصلي سنة المغرب في بيت التي هو عندها تلك الليلة.
وكان حليماً عفواً سمحاً متسامحاً دخل عليه أيام كان قاضياً في الدلم رجل سباب فسب الشيخ وأفحش والشيخ ساكت لا يجيب ثم سافر الشيخ عبدالعزيز للحج فمات ذلك الرجل فلما قدموه للصلاة عليه أبى إمام المسجد وكان يعرف الواقعة وقال لا أصلي على شخص يشتم العالم صلوا عليه أنتم ولما عاد الشيخ من الحج وأخبر بموت الرجل والقصة ترحم عليه وعاتب الإمام وقال دلوني على قبره فصلى عليه ودعا له، وقلت له قبل موته بأيام أريدك يا شيخ ان تسامحني وتحللني فلا يخلو الأمر من خطأ في حقك او تقصير او إخلال في فهم كلامك والنقل عنك فقال مسامح مسامح، سامحك الله.
كان كريماً سخياً يعطي من طلب منه ورأيته أعطى بشته من سأله إياه، ولم يكن يأكل وحده فكان كثير الضيوف ولا يأكل الا ومعه أناس على مائدته، ولما مرض قال لنا مرة وقد حضر الطعام تفضلوا انتم وأنا اسمحوا لي.
متعه الله بعقله فلم يصبه زوال ولا خرف ولا تغير، وبعض النسيان الذي حصل له لكبر السن لم يؤثر على مقدرته في الإفتاء واستحضار الأدلة والتركيز والفهم مع انه دخل في التسعين. وسألته قبل أيام من موته عن امرأة ماتت وعليها سعي لم تأت به هل يقوم به ولدها عنها فقال الموت ما معه حيلة ولولدها ان يسعى عنها كما له ان يحج عنها ثم استدرك وقال لكن يجب ان يكون محرماً بنسك عند سعيه عنها فقلت له مثل ان يحرم بعمرة ثم يطوف ويسعى وقبل ان يقصر شعره يسعى عن أمه فقال أو قبل ان يأتي بعمرته وبعد الإحرام. فهذه الدقة لازمته الى آخر عمره.
عمل حتى آخر نفس وكانت دروسه مستمرة حتى أيام مرضه ودرس الفجر يوم الخميس يزيد على ثلاث ساعات.
عمل ثمانياً وخمسين سنة ولم يأخذ إجازة واحدة وكان لا ينام في يومه إلا 4 - 5 ساعات وهو مستحق للتقاعد منذ أكثر من عشرين عاماً بكامل الراتب ولكنه استمر لخدمة الإسلام ونصرة الدين.
ولما مرض وكان يشتد عليه الألم اذا أفاق يقول لمن حوله من الكتاب والمساعدين هاتوا ما عندكم اقرأوا علي فيقرأون الرسائل والخطابات وقضايا الطلاق والمنكرات والشفاعات وغيرها مما ينفع البلاد والعباد.
وقد كان جالساً ليلة وفاته - ليلة الخميس - مع أهله وأولاده الى الساعة الثانية عشر ليلاً ثم انصرف للنوم واشتد عليه الأمر في الساعة الثانية ليلاً ثم فاضت روحه الى بارئها فجر يوم الخميس 27 من محرم 1420 في مدينة الطائف في المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية.
وكان الشيخ رحمه الله قد بدأ معه ألم والتهاب في المريء في رمضان الماضي مع صيامه له ودخل المستشفى عدة مرات ولم يكن يئن أو يشكو وإنما يتغير وجهه إذا اشتد عليه الوجع ويضع يده على صدره على موضع الألم. والفاجعة عظيمة بوفاته، وأهل التوحيد قد داهمتهم المصيبة وآلمهم الخبر والخطب الجلل، وليس لنا إلا الصبر على قضاء الله وقدره، ولا نقول إلا ما يرضي الرب: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها. سيفتقده العاجز، وقد كثر بكاؤهم، ومرض عدد من النساء لدى سماع الخبر. وسيفتقده جيرانه الذين كانوا يستيقظون لصلاة الفجر على صوت عصابه التي كان يطرق بها أبوابهم لإيقاظهم وتنبيههم وهو خارج الى الصلاة. ستفتقده زوايا المساجد والمحابر والمنابر؟ ستفتقده الأرض التي كان يمشي عليها ذاهباً وراجعاً لصلواته ودروسه ولكنها ستشهد له ان شاء الله يوم القيامة لأنها تخبر بما عمل عليها من خير او شر: يومئذ تحدث أخبارها 4 بأن ربك أوحى لها 5 الزلزلة.
سيشمت بموته ويفرح صنفان من أعداء الله: المنافقون الذين يريدون عزل الإسلام عن حياة الناس، والمبتدعة أهل الزيغ والأهواء.
كان شوكة في حلوق المنافقين فوتت فتاواه عليهم أغراضاً خبيثة كثيرة ووقى الله به من شرور عظيمة وضاقوا به ذرعاً وتمنوا فقده بل كان بعضهم يقول بأن المرأة ستفعل كذا وكذا إذا مات الشيخ وارتحنا من فتاواه المتشددة ولكن أخزاهم الله تعالى فمات الشيخ وهم في ذل وخيبة لا رفع الله لهم رأساً ولا مكنهم مما يريدون.
وماذا بعد؟
مصابنا كبير والحزن عظيم والخسارة فادحة، ولكن عزاؤنا فيه:
أولا: المصيبة بموت النبي صلى الله عليه وسلم: كما جاء عن عائشة قالت فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً بينه وبين الناس او كشف سترا فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم رجاء ان يخلفه الله فيهم بالذي رآهم فقال يا أيها الناس ايما أحد من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري فان احدا من امتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي. رواه ابن ماجة 1588 وهو في صحيح الجامع 7879.
ثانيا: علمنا ان الدين ليس موقوفا على شخص وان الله كريم يهيئ لهذه الأمة من يقوم فيها بالعلم والعدل ووراثة النبوة.
ثالثاً: طلاب الشيخ الذين تركهم من العلماء وطلبة العلم.
رابعاً: أولاده المخلدون من كتبه ورسائله وفتاواه وصوته المسجل فان تصنيف العالم ولده المخلف. وليس ينبغي ان ننسى واجبنا نحو الشيخ ومن ذلك: الترحم عليه والدعاء له ونشر علمه وإذاعة فضله ومناقبه والسير على منهجه المستمد من الكتاب والسنة.
* كتبه محبه وتلميذه محمد صالح المنجد في ظهر الخميس 27 محرم 1420 للهجرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.