من المؤكد انه فات الأوان على الاستفادة من "عطلة الانتخابات الاسرائيلية" التي منحتها المنطقة العربية لنفسها مرغمة غير مختارة. فالعرب فضلوا الانتظار السلبي، كعادتهم، طامعين في شهادة حسن سلوك افترضوا انها مطلوبة منهم... لإثبات ماذا؟ لا أحد يعرف تحديداً، ولكن ربما يكون الهدف مجدداً وتكراراً اثبات تمسكهم بالسلام وعدم رجوعهم عنه كخيار استراتيجي، لعل في ذلك السلوك ما يجعلهم مستحقين للرضا الاميركي. مثلما ان السلام بات فعلاً خياراً عربياً لأنه، باختصار، الخيار الوحيد المتاح، كذلك باتت الاستكانة ترجمة وحيدة لهذا الخيار ولكن من جانب واحد، الجانب العربي. وليس الشغب، او الحرب، او مجرد التلويح بحرب، النقيض الوحيد للانتظار السلبي، وانما نقيضه هو الاستعداد لما بعد هذه الانتخابات. وبمعزل عن النتائج، بل على رغم الفوارق الطفيفة بين ليكود والعمل، بين نتانياهو وباراك، ستكون في اسرائيل غداة 17 ايار مايو صيغة سياسية جديدة لمرحلة لا بد ان تختلف عن تلك التي سبقتها، وبالتالي كان مطلوباً - ولا يزال - اعادة صياغة التصور العربي ل"السلام" المرتقب، او المزعوم، انطلاقاً من تجارب السنوات الاخيرة ودروسها. يعتقد العرب انهم عرفوا نتانياهو وخبروه جيداً، لذا يتمنون ان لا يروه في منصبه ثانية. وهم غير مخطئين في تقويمهم لزعيم ليكود لكنهم قد يفاجأون بأنهم بالغوا في توقعاتهم من زعيم حزب العمل. فعندما يبني الاخير جانباً من صورته الانتخابية على جرائم ارهابية تتمثل بقتل زعماء وشخصيات فلسطينية، فانه لا يفعل ذلك لمجرد الاستهلاك الانتخابي، اجتذاباً لأصوات متطرفين، وانما يفعله من قبيل تمجيد الجريمة الارهابية كفعل وطني يستحق المكافأة في صناديق الاقتراع. صحيح ان "واقعية" عملية السلام توجب النظر الى برنامج باراك اكثر من الالتفات الى مضمون دعايته لنفسه. لكن هذا الرجل هو الذي يتوقع منه العرب ان يعيد اطلاق عملية السلام من موتها الراهن، مع معرفتهم بأن "سلام" حزب العمل ليس سوى نسخة "معطّرة" من "سلام" ليكود. وكأن الرهان كل الرهان معقود على قدرة باراك على "اخراج" اكاذيبه في قالب مقبول، على خطى رابين وبيريز. منذ الآن يمكن ان نستشفّ في بعض الكواليس العربية استعدادات وايحاءات بأن الحرارة والدفء قد يعودان الى "التطبيع"، حالما تظهر نتائج الاقتراع، بداعي تشجيع باراك وتحميسه للمضي في "السلام" اياه، ولمجرد انه ابدى نيات لم يبدها خصمه الليكودي. وكأنه ليس من شأن العرب افهام باراك انهم اخذوا علماً بكل اكاذيب رابين وبيريز وخدعهما، بل انهم عرفوا وادركوا ان الاستيطان زاد وتوسع بعد توقيع "اتفاق اوسلو" وان موقف "العمل" من مصير القدسالمحتلة وقضية اللاجئين ومصادرة الاراضي واطلاق السجناء وتدمير البيوت وتنمية الاقتصاد الفلسطيني، لا يختلف عن موقف ليكود. لن يغامر أحد بالدعوة الى قمة عربية لاعادة صياغة التصور العربي لمضمون السلام المرتقب او المزعوم، بل لن يغامر احد حتى لمجرد طلب "اجتماع تشاوري"، ولكن احداً لا يعتقد ان باراك يستحق مكافآت تطبيعية فور نجاحه. فاذا فاز وبادر الى التحرك فلأن لاسرائيل مصلحة في ذلك، لا لأن بعض العرب استأنف هواية الهرولة.