إذاً، لم يستطع بنيامين نتانياهو إدهاش أحد أو مفاجأة نفسه، مبرهناً أنه لم يتغير، ولن يتغير. في الأساس، هو جمّد البناء في المستوطنات صورياً. طوال الشهور العشرة كانت شهادات إسرائيليين، أفراداً وجماعات حقوقية، تقول إن «التجميد» جزئي، وبعض البناء مموّه. مع ذلك، كان لا بد من انتظاره في لحظة الحسم والقرار. الأرجح، أن نتانياهو لم يباغت باراك أوباما ولم يخيب أمله، فهو أكد له، منذ تفاهمهما مطلع تموز (يوليو) الماضي، أن استمرار تجميد الاستيطان بعد 26 ايلول (سبتمبر) يمكن أن يطيح حكومته. وفي الوقت نفسه كان محمود عباس يؤكد أيضاً أن المفاوضات مع الاستيطان لم تعد ممكنة. لماذا ذهب الاتفاق الى المفاوضات، إذاً، ولماذا بالغت الإدارة الأميركية في التفاؤل، وعلامَ راهنت؟ لا شك في أن الطرفين ذهبا بمواقف معلنة لم يتخليا عنها في أي لحظة. كان على الضغوط أن تفعل فعلها، خصوصاً لدى الطرف الأضعف، اي الفلسطيني، لكنه لا يملك سوى هذه الورقة: وقف الاستيطان. وما صنع الفارق هذه المرة أن «وقف الاستيطان» بات اقتناعاً أميركياً وعالمياً بأنه «وقف للاحتلال» لإعطاء المفاوضات فرصة لمعالجة هذا الاحتلال. والآن، بعدما استؤنف الاستيطان، اضاع نتانياهو كل «الرصيد» الذي بني على صدقية مفترضة لديه، من دون أن يتمكن من لعب اي من تضليلاته لجعل الرئيس الفلسطيني يحمل وحده، أو حتى معه، مسؤولية إجهاض المفاوضات. ثمة انطباع عام بأن الأبواب لم تقفل، وأن هذه ليست نهاية محاولة إحياء المفاوضات. أما كيف يمكن أن تستأنف، فالسبيل الوحيد في نظر نتانياهو أن يتراجع عباس. لكن التراجع بات يعني ويساوي الآن إعطاء مشروعية فلسطينية للاستيطان. وعلى رغم أن الخسارة الدولية بدت فادحة لزعيم ليكود، إلا أن احتفالات المستوطنين وعودة الجرافات الى نشاطها الكامل شكلت له ربحاً صافياً، وهذا ما يهمه في نهاية المطاف. فليس هناك افضل إشعار بالقوة من القدرة على التذكير بالأمر الواقع وتفعيله. هناك شبهة كامب ديفيدية في السيناريو الذي بدأ مطلع هذا الشهر. أي: ضعف في التحضير ورهان على ديناميكية المفاوضات ذاتها، مع الاعتماد على السحر الخاص للمشاركة الأميركية اللصيقة. في العام 2000 رغب الرئيس بيل كلينتون أيضاً في مشاركة ما لمصر والأردن، ولم يكونا مقتنعين بأن حلاً قد نضج، ولولا وطأة الإلحاح الأميركي لكان نصحا ياسر عرفات بعدم الذهاب، خصوصاً أن كلينتون وإيهود باراك وضعا آنذاك هدفاً طموحاً وصعباً: إنهاء الصراع، على رغم أن محادثات كلينتون - الأسد انتهت قبل أسابيع قليلة من ذلك الى فشل ذريع. هذه المرة، ذهب الرئيس المصري والعاهل الأردني الى افتتاح المفاوضات، لأن هناك حاجة الى تشجيع أوباما. لكن الأخير كرر على منبر الأممالمتحدة أنه يحتاج الى دعم عربي أكبر من العرب لإنجاح هذه المفاوضات. ثمة فكرة متكلسة في أذهان الأميركيين المعنيين بإدارة المفاوضات. هي فكرة لم يتمكنوا يوماً من إثبات نجاعتها، والأرجح أن مصدرها إسرائيل، ومفادها أن تطبيع الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل سيحفزها على السلام وعلى خوض مفاوضات هادفة وإيجابية. في بداية التسعينات كان يمكن تسويق هذه الفكرة، وبعد مقتل إسحق رابين عام 1995 لم يعد خافياً أن «السلام» مشكلة داخلية في إسرائيل أكثر مما هو التطبيع مشكلة مبدئية أو «نفسية» عند العرب. كان نتانياهو على رأس السياسيين الذين صنعوا المناخ الموبوء الذي كان مقتل رابين نتيجة طبيعية له. وبعد ذلك لم يعد أي رئيس وزراء إسرائيلي يتمنى نهاية مماثلة. قد يكون باراك غازل هذا المصير عندما عرض افكاره «المتقدمة» في كامب ديفيد، لكن الرفض الفلسطيني أنقذه. أما آرييل شارون فقاد انقلاباً شاملاً على اتفاقات أوسلو فجنّب إيهود أولمرت، ونتانياهو من بعده، احتمالات التعرض للخطر. في بداية المفاوضات الجديدة، وفي معرض الترويج ل «نضج» نتانياهو، جرى التذكير بأن ليكود وحده يستطيع التغلب على العقبات أمام السلام، بدليل أن زعيمه التاريخي مناحيم بيغن ومعه شارون نفسه أقدما على تفكيك مستوطنة في سيناء عام 1982 إنفاذاً للالتزامات تجاه مصر. وقد سجل كلاهما المعاناة التي مرّا بها بسبب اضطرارهما لمخالفة «واجب مقدس» هو الاستيطان، لكن الرأي العام غفر لهما لأنهما قاما بهذه التضحية للفوز بالجائزة الكبرى وهي السلام مع أكبر دولة عربية. لكنه لم ينس لشارون تضحيته بمستوطنات قطاع غزة على رغم دعمه للانسحاب منه. لكن الحكومات المتعاقبة، بما فيها حكومة رابين بعد «سلام الشجعان»، عوّضت تلك «التضحيات» بعشرات المستوطنات فضلاً عن الكتل الكبرى. لعل أهمية تبني أوباما مطلب وقف الاستيطان تكمن في إدراكه أن هذه الخطوة هي المؤشر الواقعي الملموس، إذا تحققت، الى أن إسرائيل حسمت أمرها للمضي الى مفاوضات مجدية، وأنها اختارت السلام. فالاستيطان عند الإسرائيليين قانون وعقيدة ولا يمكن وقفه بقرار حكومي وإنما بقانون، ولذلك فإن تجميده هو أقصى ما يمكن حكومة أن تقدمه من دون أن يعني ذلك «وفقاً» للاستيطان وإنما مجرد مناورة في اللعب على المفاوضات. ليس نتانياهو من يبالي بتحميله مسؤولية إفشال المفاوضات، فهو يعرض مواصلة التفاوض مع مواصلة الاستيطان، كما أنه لا يبالي بانهيار صورة إسرائيل وسمعتها وقد قيل إنه ألح هو نفسه على المفاوضات المباشرة ليبدو «رجل سلام». على الجانب الآخر، تلوح فرصة لمصالحة فلسطينية قد لا تكون سراباً هذه المرة، وإذا نجحت يفترض أن تعيد التوازن الى المفاوض الفلسطيني أو تضاعف أعباءه. لكن مرحلة جديدة توشك أن تبدأ ومن شأن الفلسطينيين أن يدركوا الأضرار الفادحة لانقساماتهم وأن يتجاوزوها. * كاتب وصحافي لبناني