لعل انتقاء مسرحية ملائمة للأطفال، يبدو من أصعب المهمات التي تواجه الأهل والمدرّسين وكل من يتواصل مع هذا العام الخاص. ذلك أن الطفل يتأثر سلباً أو إيجاباً بما يشاهد ويرى ويسمع. وهو لا يمكنه أن يكون مشاهداً محايداً، أي أن رد فعله لا ينتهي عند حدود أن يعجبه العمل أو لا يعجبه، بل يذهب أبعد من ذلك بكثير. إذ أن الطفل يحفظ ما يشاهد، ويقلّد ما يسمع ويصدر أحكاماً إنطلاقاً مما يكتسبه بواسطة هاتين الحاستين. لذا، تبدو مسألة صعبة ومعقدة بعض الشيء ان نقول للطفل ما هو الصح وما هو الخطأ، ومن هو الصديق او من هو العدو وسواها من المواقف التي تُصنّف في خانة الأحكام المسبقة. إذ على الطفل ان يكتشف وحده العالم المحيط به من دون تأثير او توجيه في إصدار الأحكام. من هذا المنطلق تحديداً يتم تصنيف مسرح الأطفال، فنقول عنه تربوياً أو وعظياً أو خطابياً، أو نراه قائماً على الإبهار والتشويق. "الحاج برغوث وقع بالتنور ومات" لفرقة صندوق الفرجة، عمل يقوم على أسس مختلفة. فلا أحكام مسبقة ولا وعظ ولا دروس في التربية ولا إبهار ولا تشويق. "إنه بحث عن المتعة عبر استلهام تراث الحكاية الشعبية الشفوية". هكذا تقدّم فرقة صندوق الفرجة عملها في الكتيّب الذي وزّعته، وهكذا بدا العمل على المسرح أصلاً. في "الحاج برغوث" بحث عن لغة جديدة في مسرح الدمى وخيال الظل، بدأته نجلا جريصاتي خوري في صندوق الفرجة اعتباراً من العام 1979، وهي لا تزال تطور هذا البحث وتصرّ عليه في كل جديد تقدمه. لعل ابرز ما ميّز عمل خوري في "الحاج برغوث"، البساطة والوضوح، فلا أسرار على الأطفال إطلاقاً. والعمل، ليس من النوع الذي يفوق مقدرتهم على استيعاب كيفية إعداده. علماً ان خوري بدأت عرض المسرحية في الشرح للمشاهدين الأطفال كيف أعدّت شخصيات خيال الظل، أبطال العرض. أوراق ولاصق وقصص وشيش. تلك هي الأدوات المستخدمة في صناعة العمل الذي تقدمه خوري على خشبة المركز الثقافي الروسي. "نرسم الشكل الذي نريده. نقص تبعاً للإطار الخارجي للرسم ثم نلصق الشكل الذي حصلنا عليه على الشيش. نمسك الشيش ونضعه خلف الشاشة التي نوجّه عليها الضوء. فنحصل على ظل الشكل الذي رسمناه، وبإمكاننا أن نتحكم في حجمه بحسب ما نقرّبه من من الشاشة او نبعده عنها". بعد هذا الشرح الذي شارك فيه الأطفال من خلال الإجابة على أسئلة خوري، لم يعد هناك ما يلهيهم عن العرض. أصبحوا على تواصل مع شخصيات المسرحية. يعرفونهم جيداً، لا بل كأنهم شاركوا في صناعتهم. وبعدما انكشف السر أمامهم، انصرفوا الى التمتع بالعرض نفسه من دون التفكير في تفاصيل جانبية غالباً ما تخطف تركيز الأطفال في الأعمال التي تعتمد على عنصري الإبهار وإثارة الدهشة عند المشاهد - الطفل. والأهم من هذا وذاك فإن مشاهد مسرحية "الحاج برغوث" لا يشعر أن الأبطال أعلى مرتبة منه، أو أنهم قادمون من عالم الكبار الغامض بل على العكس تماماً، إنهم قريبون جداً منه. أولم يكشف هو سرهم بعد أن شارك في صناعتهم؟ ان ابطال المسرحية في جزئها الأول تحديداً، لم يكونوا سوى أوراِق ملوّنة، جُمعت بعضها فوق بعض من دون اي خصوصية تميّز الواحدة عن الأخرى سوى اللون. ولم تكتسب هذه الأوراق شخصيتها المسرحية إلا بعدما تدخل الطفل، فأعطى لكل منها إسماً. الورقة الزرقاء هي رمز المياه والبرتقالية مرادفة للنار والبيضاء تمثل الحائط. وهنا كانت جريصاتي تختبر ذاكرة المشاهد بطريقة غير مباشرة. إذ أنها تركت له أن يختار اللون المناسب لكل إسم. وكان من شأن ذلك ان حفظ كيفية توزيعه الألوان على الشخصيات، وبدا مسؤولاً عن تصحيح أي خطأ قد يرتكبه محرك خيال الظل في هذا الإطار، كأن لا يحترم اختيار أسماء الأبطال وفقاً للألوان وبحسب ذائقة المشاهد - الطفل. يتألف العرض من حكايتين: حكاية الذبابة التي تذهب بحثاً عن العنصر الأقوى في العالم. وحكاية القملة والبرغوث. إذ يسقط الحاج برغوث في التنور فتعتقد القملة أنه مات. تحزن ويشاركها حزنها جميع أبناء متجمعها. ويعبّر كل منهم على طريقته. فالتينة تتناثر أوراقها، والعصفور يسقط ريشه والساقية تجف مياهها ... إلى أن يكتشف الجميع أن البرغوث لم يمت، فيعود الفرح، ويستعيد الجميع أشكالهم السابقة للحزن. انه بناء درامي في كل ما في الكلمة من معنى، عقدة تذهب إلى تصاعد ثم يأتي الحل. مناخات في التشويق على شاشة عرض وخيالات ظل تتحرك على إيقاع الأغنية. حكايتان مملوءتان بالأسئلة. ففي حكاية الذبابة نقاش حول معنى الأقوى وبحث عنه لا ينتهي إلى نتيجة حسية وملموسة. فالسؤال يُبقي الإجابة مفتوحة على احتمالات مختلفة. انه نوع من النقاش الذي يشغل عالم الكبار - إذا صح القول - من دون ان يكون خارج اطار تساؤلات تدور في رؤوس الأطفال. أما في حكاية الحاج برغوث فهناك اقتحام لمعنى العلاقات الإجتماعية وأشكالها والتفاعل بين أبناء المجتمع الواحد في الحب والكراهية، في الحزن والفرح، في الموت والحياة. لعل أبرز ما يميّز مسرحية "الحاج برغوث" مقدرتها على طرح أسئلة تنبع من الواقع، وتشغل بال الكبار والصغار على حد سواء. غير أن هذا الطرح جاء في اطار مبسّط وسهل جعله في متناول الجميع. فبين التبسيط والتسذيج أو التسطيح شعرة رقيقة استطاعت خوري ان تمسك بها من دون ان تقطعها فتقع في المحظور. هذا التبسيط الذي اكتنف النص والحوار، ولم يوفر العناصر المكوّنة للمسرحية من ديكور وألوان وأشكال وأبطال...، لم يفقد العمل قيمته البصرية. كنا امام شاشة وخيالات ظل فقط. إلا أننا بقينا مشدودين مدة خمسين دقيقة الى الشاشة نرافق حركات الأبطال من خلفها. يبقى أن العمل الموسيقي لم يخرج عن الإطار العام والمبادئ الأساسية التي اعتمدتها خوري في مسرحيتها. عنينا التبسيط والسهولة والإمتاع، فلا ألحان معقدة ولا حشد لآلات موسيقية ضخمة. خمسون دقيقة قالت فيها فرقة صندوق الفرجة الكثير، بأقل تكلّف ممكن، فجاء العمل حسياً صحيحاً وقريباً من القلب.