ان يكون مسرح الاطفال ملتزماً سياسياً، فتلك مسألة ملفتة لم نعهدها من قبل في هذا النوع من المسرح. ولعلها المرة الاولى التي يتخطى فيها مسرح الطفل في لبنان والعالم العربي الافكار التي قام عليها تعليمية كانت ام تربوية، قصصية ام ترفيهية ام جمالية، ليقول رسالة سياسية او ليكتب تاريخاً بشكل مبسط فيختصر حكاية شعب ليضعها في الاطار الذي يتناسب وقدرة الطفل على الاستيعاب. انها مسرحية "البيت" لنجلا جريصاتي خوري تأليفاً واخراجاً. اما القصة فهي للشعب الفلسطيني الذي هجره الاسرائيليون من ارضه فلسطين العام 1948 فبدأ ثورة الحجارة لطرد المحتل رافضاً كل الطروحات التي لا تفضي الى استعادة حقوقه المغتصبة. تلك هي القصة التي تعيد جريصاتي خوري صوغها بما يتلاءم وقدرة المشاهد - الطفل على الاستيعاب والتحليل وبالتالي التفاعل مع ما يشاهد على الخشبة. وهكذا يصبح المحتل دباً يأتي ذات ليلة مظلمة حاملاً حقيبة سفر. فيطرد ولداً الفلسطيني من منزله الذي بناه بمفرده. يذهب الولد الى اصدقائه الحيوانات الذين كان قد استضافهم في منزله ليحتفل معهم، فيكتشف انه لا يستطيع الاقامة في بيوتهم لأن الارنب يعيش في الجحر والعصفور يعيش في عش على الشجرة والسلحفاة تحمل بيتها على ظهرها. تقرر الحيوانات مساعدة الولد في بناء بيت جديد ثم تكتشف ان هذا ليس حلاً وانما عليها مساعدته لطرد الدب من البيت. الطفل والدب والسلحفاة كما الارنب والعصفور، حيوانات محببة الى قلب المشاهد - الطفل، ومن خلالها يمكن تمرير الفكرة المبتغاة. والفكرة يمكن قراءتها في اكثر من مستوى، فإذا لم يفقه الطفل البعد السياسي فهو لا شك يتنبه لموضوع الدفاع عما يملكه، خصوصاً ان الاطفال هم اكثر المتمسكين بأشيائهم الخاصة، فلا يسمحون لأحد بأن يمسّها الا اذا ارادوا هم ذلك. اما وقد حصل فعل الاعتداء، فهم لا ينفكون يصرخون ويبكون الى حين تعاد اليهم اشياؤهم المأخوذة منهم عنوة. لذا لا يبدو ان الصدفة هي التي دفعت جريصاتي الى اختيار هذا المحور تحديداً لإقامة البناء الدرامي لعملها المسرحي هذا. لقد انتقت المفتاح المؤاتي لولوج عالم الطفل. ونجحت في ذلك، ما انعكس جلياً في قاعة المسرح وفي الاقتراحات التي قدمها جمهور الاطفال لحل المعضلة التي وقع فيها الطفل. وكانت في معظمها تصبّ في خانة واحدة، اساسها طرد الدب وإشباعه ضرباً حتى يعيد للطفل ما أخذه منه عنوة. حصلت جريصاتي خوري اذاً على ما ارادته، اي تقديم عمل مسرحي سياسي ملتزم يفقه الطفل مضمونه الاساسي الذي فيه حكاية الشعب الفلسطيني مع المعتدي الاسرائيلي، مغتصب حقوقه. وبدا واضحاً اصرارها على ايصال هذه الرسالة. وهي ما كانت لترضى بأقل من ذلك اصلاً. وهذا ما يفسر لجوءها الى الاسلوب المباشر الذي استخدمته في تحديد هوية الدب، من خلال اللافتة المكتوبة بالعبرية التي رفعها فوق البيت بعد ان احتله. لا ينتهي البحث في مضمون "البيت" عند هذه الحدود، ذلك ان هذا العمل الذي قدمته فرقة "صندوق الفرجة" غني بالرموز والدلالات وبما اسميناه القراءة في مستويات عدة: من الدفاع عن الملكية الخاصة الى معنى الصداقة وأهميتها ودورها في حياة كل فرد، ومن شجرة الزيتون التي زرعها جد الطفل دلالة على تجذر الفلسطيني في ارضه الى الدب الذي يأتي حاملاً حقيبة سفر انه قادم من مكان آخر خارج حدود هذا الوطن، ومن الدب "أبو فروة" الصديق بحسب ما جاء في المسرحية، الى الدب المحتل المنزل. وتنتهي المسرحية من دون ان نعرف تماماً ماذا جرى للدب وما هو الوضع الذي آل اليه. انها مسرحية الاسئلة المفتوحة التي يفترض ان تثير فضول الطفل وتدفعه للاستفهام من اجل استكمال الاجزاء الناقصة في الرسم النهائي للقصة. ليس في المسرحية ابهار شكلي ومشهدية مزدحمة بالعناصر الجمالية والالوان والازياء التي تستهوي الطفل وتثير اندهاشه. وكأن جريصاتي خوري تعمدت ذلك حتى لا تشغل الطفل بالمشهد الخارجي والشكل الجميل على حساب المضمون. وقد اخضع العرض بكامله لخدمة المضمون الذي لا بد ان يحتل المرتبة الاولى في اثارة اهتمام الطفل المشاهد، الى ان يتم نقل الرسالة. لذا يبدو الطفل في اثناء مشاهدته عرض "البيت" كأنه يقرأ قصة في كتاب. وليس ما يراه امامه على الخشبة سوى ما ينسجه خياله عن اشكال ابطال القصة والمكان الذي هم فيه... "البيت" عمل لا شك جريء وجديد في آن. اذ ليس من السهل طرح قضية سياسية ملتزمة في مسرح الطفل مع الحفاظ على روح البناء الدرامي الخاص بهذا النوع من المسرح، وقد نجحت جريصاتي خوري في اقامة التوازن المطلوب في عملها "البيت" فلم تسقط في التنظير السياسي ولا ادخلت الاطفال في عملية تعليمية جديدة تحدد سلفاً الخير والشر والواجبات والحقوق... بل تدفعهم الى التفكير وتزوّدهم بروح نقدية.