يحكى أن فلاحي كسروان كانوا أثناء انتفاضتهم على اقطاعيي منطقتهم في منتصف القرن التاسع عشر، يزرعون أعلام الجمهورية الفرنسية على القصور التي يحتلونها. لم يكن بين فقراء الموارنة الكسروانيين وملاكّي الأرض من آل الخازن فوارق طائفية او عرقية او لغوية. بيد ان الحاجة الى التميز على مستوى الهوية دفع الثوار الى تبني رمز الجمهورية الفرنسية وقيمها ما يستبطن اعتقادهم بولاء الإقطاعيين للملكية البوربونية. السمة الطبقية للانتفاضة لم تكف الفلاحين الذين سعوا الى تعزيز «رأسمالهم الرمزي». وتحمل الجرائم الطائفية المرتكبة في سورية على إعادة النظر في تكوين الجماعات في المشرق العربي وقدرتها على التعايش السلمي في ما بينها او استحالته وعلى علاقتها بالمضمون الثقافي الذي تدعيه. ولطالما قُدمت الطائفية، كمنظومة للعلاقات بين جماعات ذات انتماءات دينية وعرقية مختلفة، كعلامة على التخلف والاستسلام الى قيم ما دون دولتية تنبذ الآخر وتسعى الى اجتثاثه. والحال، ان هذه القراءة السيئة والمتسرعة للطائفية تعرضت لنقد وافٍ في لبنان، خصوصا، وهو البلد الوحيد الذي اعترف بوجودها وشرعه ونقل المعاناة التي تسببها الى حيز النقاش العلني (من دون نجاح في تجاوزها). الدول العربية الأخرى، تفضل اتباع سياسة النعامة وتنفي وجود مشكلة طائفية لديها. المهم، أن التصاعد في عنف الخطاب الطائفي وتبلور الكيانات السياسية - الأهلية، يترافق دائما، وكقانون رياضي، مع اختفاء العامل الثقافي الذي ساهم في تشكيل الجماعة الطائفية، وتقدم الخطاب الحربي الذي لا يخلو من إشارات الى ثقافة الخصم وممارساته الدينية والاجتماعية، ولكن من باب التحقير والتبخيس. فتبرز إلى المقدمة اتهامات مستقاة من تاريخ قديم لم يعد يمت للحاضر بسبب، لكنها تفيد في تحفيز الجماعة واستنفارها للقتال. وتستحضر شخصيات الماضي البعيد والفتاوى الدينية التي صدرت في سياقات تاريخية شديدة التباين مع الحاضر، لتشهر أسلحة في وجه الجماعة المعادية. أصول الجماعات في منطقتنا لا يختلف كثيراً عن تكونها في انحاء أخرى من العالم. فالتموضع الجغرافي واساليب العيش ومقتضياته والثقافة التي اسفرت عنها الأعوام وضرورات الحياة وتفاعلاتها، توضح تشكل الطوائف وتعددها في هذه الأنحاء. ومن دون عسر، نلاحظ أن الآخر، بعد اكتساء الصراعات بعدها الطائفي، بات يُختصر إلى كلمات تحيل الى مكون واحد في ثقافته، «التكفير» أو «زواج المتعة» أو «الصفويون» او «الأعراب»، من دون ان يصاحب ذلك حداً أدنى من التمعن في هذه المصطلحات. لا ريب في أننا شهود على انزياح ثقافة الجماعة، بما هي تاريخها وشعرها وفقهها وعاداتها الدينية، عن ممارساتها الحربية. ومن البداهة ان تستعيد الزعامات السياسية للطوائف خطاب كراهية قديم باعتباره «ضمير الجماعة» وصوتها الحي. يصح هنا تذكر كتاب أوليفييه روا «الجهل المقدس» عن العلاقة المعقدة بين الديني والثقافي وعن تغلب الأول على الثاني خصوصا في ظل العولمة وهيمنة قواها. كما يتناول البحث عن الانتماء المغاير وسط ثقافة سائدة. عن الصدام بين الهوية والثقافة. عن «الوثنية الجديدة». وعن الانسحاب من الثقافة وشن الحرب عليها، باسم الجماعة. غني عن البيان ان «صناع الثقافة» غالبا ما يكونون من أعلام الجماعة ورموز تميزها واستقلالها. والتداخل جلي بين الثقافة والهوية. لكن يخطئ خطأ جسيما من يعتقد ان الثقافات تتواجه اليوم في سورية ولبنان وغيرهما، بما هي ثقافات، وأن الطرف الآخر يحمل بذرة الشر في مكوناته الجينية او الثقافية، على ما تحاول دعاية مسعورة اقناعنا.