نقرأ الروايات، فتسكن بعض شخصياتها في ذاكرتنا. لا ترحل مع ما يرحل. نعاملهم معاملة الأصدقاء أحياناً، بل وقد يبدون لنا أكثر قرباً من ذلك، ينظر إلى تلك الشخصيات التي قد تكبر يوماً فتغدو أكثر من مجرد شخصية كتبت في رواية لا تعود أسيرة للنص الروائي. فهناك شخصيات روائية أصبحت تشاركنا الحياة، منذ تعرفنا عليها، كشخصية مدام بوفاري عند فلوبير، وأحمد عبدالجواد عند محفوظ، ومتعب الهذال عند عبدالرحمن منيف وجوناثان وغرنوي عند زوسكيند وغيرهم لذا كانت الأسئلة تتجه إلى الرواية السعودية: هل خرج أبطالها إلى الحياة. إلى الحد الذي قد نصادفهم في الطرقات أو نثرثر معهم في المقاهي. أو حتى نتمثل بأقوالهم وأفعالهم في مواقفنا الحياتية. هل وصل النضج الروائي لأبطال الروايات السعودية إلى هذا الحد؟ أم أن أولئك الأبطال ما زالوا رهناء للنص الروائي ولم يغادروها؟ سعيد الأحمد: الشخصيات ليست أكثر من صور كاريكاتورية موقتة د. لمياء باعشن - ناقدة سنعترف في البداية أن معظم الروايات السعودية ما زالت تُكتب بغرض البوح الشخصي والكشف المجتمعي، أي توثيق وعرض الواقع الحياتي للأفراد في مواجهة مجتمعهم بشكل حكائي مباشر. قليل من الكتاب من يحمل الهم الفني للرواية أو يجهد نفسه ليتعلم فن الروي وآلياته وأساليبه أو ليقرأ ما يكفي ليكوّن فكرة شاملة عن تاريخ السرد وأدواته. نحن نتعامل مع الرواية كشكل سردي متاح للتحاور والمصارحة وأحياناً للعبث والسير الطائش في ركاب الآخرين. عند القليل الذين يهتمون بالفن السردي بما يوازي الحكاية المسرودة في حد ذاتها، نجد أن الشخصيات تتبلور وتخرج إلى حيز الوجود الفعلي، وبالفعل بعض من هذه الشخصيات تسكننا وتملأ خيالاتنا. متعب الهذال وهشام العابر وفؤاد الطارف ويعقوب العريان وحزام وخاتم، كلها شخصيات معروفة ومألوفة في الرواية السعودية، ولكن بعض الروائيين عندنا مشغولون باختلاق شخصيات مأزومة ومعقدة وبالتالي مغلقة ومختلفة، بينما الأساس في توليد شخصيات حيوية وقادرة على التحرك خارج إطار الرواية هو أنها شخصيات تحاكي الواقع لكي تصل للواقع. الشخصية الدرامية التي تسكن الذاكرة العامة يجب أن تخرج من الذاكرة العامة لتعود إليها بسلاسة، والروائي بحاجة إلى نظرة ورؤية وأدوات فنية ليفعل ذلك بحرفية. لمياء باعشن: الروايات السعودية ما زالت تُكتب بغرض البوح الشخصي والكشف المجتمعي تتحدث عن السيد أحمد عبدالجواد عند محفوظ، وأتذكر تلقائياً شخصية السبتي الكبير عند نورة الغامدي، وكذلك شخصية ابن طراق، وكلاهما يقارب الرجل البطرياركي المسيطر عند محفوظ، لكن معادلة توازي الشخصيات الثانوية وشخصية البطل لا تنجح في تكوين تلك الشخصية النمطية، فالكاتب يجب أن يدرك أهمية الأدوار المساندة ويعاملها بنفس الحرص والدقة. إن لم يكن الشخص الجانبي قوياً فلن يمنح البطل أي قوة، وكذلك لو انفرد البطل بكل المساحات السردية أفسد بطولته. لكن المسألة تتعدى المهارة الخاصة بالكاتب، فمعيار نجاحه في إطلاق شخوصه من الصفحات إلى الحياة هو مدى تغلغل تلك الشخوص في الوعي القرائي، ولدينا هنا مشكلة وعائق محلي لتحقيق القياس لأن الوعي القرائي تقريباً منعدم. لا يكفي أن يقرأ الرواية عشرات الأفراد لتشاركنا الشخصيات الروائية لحظات حياتنا، بل لابد أن يكون الوعي القرائي عالياً جداً ليحقق التغلغل في الوعي الجمعي، فتتحول الشخصية إلى نمط. لمياء باعشن وهنا يأتي السبب الآخر الذي يشكل عائقاً في طريق النمط الروائي السعودي، ألا وهو القنوات المساعدة في نشر الشخصية الدرامية الروائية لمواجهة تقلص التلقي القرائي المباشر، وذلك بتحول الرواية إلى وسائط اعلامية أخرى كالسينما والمسرح والتمثيلية والأوبرا والرسم لتضمن انتشارا أعلى وتجسيداً أقوى. نحن بالطبع نعاني من القطيعة الباترة بين الفنون التي لا وجود لبعضها على الساحة أصلاً. سعيد الاحمد - قاص وناقد صناعة الشخصية هي حالة معايشة وتأمل وتتبع تام قبل الوصول إلى الورق والقلم، وهذا ما يفتقده الراوي الخليجي بشكل عام، حيث أن أبواب الحياة مغلقة في وجه العفوية والصدق، ونوافذ الوشاية مقتصرة على جزء المديح المطلق أو الذم المطلق، وهذا ما يجعل معظم كتابنا - المتكئين على ذاكرة سمعية، لا بصرية تأملية - يتورطون في صناعة شخوص سافلة بالمطلق أو عفيفة بالمطلق. هذه الشخصيات المتطرفة في الخير أو الشر، ليست أكثر من صور كاريكاتورية مؤقتة، تتعايش معها لحظة القراءة، أو حتى لحظة مشاهدة عمل مرئي وعظي أو كوميدي كاريكاتوري مضخم، أو حتى فيلم كرتوني، وما أن تفرغ من النص أو المادة المرئية حتى تختفي تلك الشخصية من أمامك كليا وتنساها كليا، لأنك - ببساطة - لن تجدها تسبقك في طابور الخبز ولا تشكي لك تعنت موظفي الحكومة في طابور الأحوال المدنية، بل لن تشتمك لدخولك المفاجىء بداور طريق الثمامة، وبالتأكيد لن تدفعك من كتفك كي تسبقك للمحاسب في السوبر ماركت.. كيف لك أن تتذكر تلك الشخصية التي لم تحتك بك بأي من المناسبات أعلاه، وكيف لك بالتالي أن تتذكرها أو تراها بعد أن تغلق الكتاب أو ترى كلمة end في نهاية العرض!! ولإيضاح سطوة الشخصية المتخلقة داخل النص، من السهل على كثيرين أن يشيروا لشهرة زوربا التي تجاوزت شهرة نيكوس كازانتزاكيس، مثلا، أو بوفاري، أو الطبيب وزوجته في رواية العمى لدى ساراماغو، أو عبدالجواد محفوظ، أو السروي الحاضر كثيرا لدى مشري، أو بسيبس ساق الغراب، أو أبو مريم خال، وهي بكل تأكيد نماذج جيدة للشخصيات الحاضرة في ذهن المتلقي بتعرجاتها المتعددة. غير أن الجانب الآخر المنسي، والذي لا يتحدث عنه المتلقي ولا الناقد عادة هو اكتمال حضور الشخصية الهامشية في النص، وهو الجانب الأكثر إدهاشاً بالنسبة لي؛ فكيف فكيف يمكن للمتسول الهامشي المخمور، والذي يظهر في مشهد وحيد في رواية شيطنات الطفلة الخبيثة، لماريو يوسا، أن يسكن ذاكرتي و أراه كل صباح يحمل جهاز تسجيل عتيق على كتفه و يتسول الرغيف كل صباح عند الإشارات الحمراء بوسط الرياض.. وكيف لحبيبة البطل، التي لم تحضر سوى بمشهدين فقط في رواية "جنوب الحدود غرب الشمس" للياباني هاروكي موراكامي، أن تكون حاضرة جدا على الأرض، وبكل تفاصيلها رغم أنني لا أتذكر اسمها! أمل الفاران: لدينا شخصيات توشك أن تكون بشراً يتنفسون امل الفاران - روائية أكاد أجزم كيف ستتصرف "بهيجة" أميمة الخميس خارج قصر آل معبل، أظن أنني أفهم كيف سيرى"عمر" محمود تراوري مكة اليوم، ربما أخمن ما قد يحرك "بشيبش" يحيى أمقاسم ما قد يبكيه ما قد يجعله يحمل بندقه ويخرج من الحسيني، وقد أتنبأ بموقف"وضحى" بدرية البشر لو حضرت حملة 26 أكتوبر. لدينا شخصيات توشك أن تكون بشراً يتنفسون، لكن من الظلم أن نجلدهم بمثل سؤالك هذا. أن تنتظر عمقاً للشخصيات على الورق لا نلمسه في واقعنا السعودي ظلم، أعطني شخصية واقعية عميقة وأنا أكتبها. دع عنك الأدب وانظر لأشكالنا الفنية الأخرى، أعطني شخصية تلفزيونية واحدة عميقة: "عليان" و"أسعد قلي" اللذان ظل القصبي يجسدهما عشرين سنة في طاش هما نفس الشخص مع اختلاف اللهجة واستبدال الطاقية بغترة، ولو حاولت التمييز بينهما وبين شخصية "وضاح" في أبو الملايين لن تجد فرقا كبيراً في عمق الشخصية؛ أشير لناصر باعتباره أفضل الموجود وقس عليه من يليه. وتأمل طفرتنا في تويتر، أبحث في قلب الأسماء الحقيقية والمستعارة عن عمق.. ماذا تجد؟ العمق يصنعه الصراع بكافة مستوياته، والدرس الفلسفي وحرية الطرح، فماذا لدينا منها؟! أما لو عدت لمجالي سأقول إن ارتباط الاجتماعي بالأدبي يدرس منذ جمهورية أفلاطون، والكاتب الطفرة نادر، ولو درسنا مجتمعه لوجدنا إرهاصات ظهوره قبله؛ فولادة التحفة الفنية مرتبطة بتوقعات الجمهور وذهنيته أكثر مما ترتبط بالمبدع الذي سينتهز الفرصة ليقول. ولاحظ ما لدينا الآن الإرهاصات تظهر: إعادة نبش التاريخ الحقيقي لبلادنا بعد الاستكانة الطويلة للنسخة المسطحة المرقعة، تقدير التراث الشعبي حتى على مستوى الاجتماعي البسيط باعتباره الأصدق في نقل واقعنا وملامسته، ورغم ذلك فأنا أظن أننا على وشك أن نشهد ولادة أدب سعودي مكمل للواقع لا مجرد راصد له؛ أدب يعطينا - كما قال لانسون - واقع الغد لا واقع الحاضر. أسماء العمري: الرواية استطاعت أن تترك أثراً لأبطالها في نفس قارئها اسماء العمري - ناقدة مما لا شك فيه أن كل نص روائي اجتماعي كان، أو سياسي، أو اقتصادي، أو عاطفي.. الخ، يطرح إشكالية، وتلك الإشكالية منبعُها هموم الفرد داخل مجتمعه، وقضاياه، ورؤاه، ورغباته، وطموحاته. وكل ما لامس الحدث الروائي جُرح القُراء، كلما استوطنت الشخوص الروائية مكانًا في أعماقهم. وفي تصوري أن الرواية السعودية والنسائية تحديدًا -بحكم قراءتي المركزة فيها حاليًا-استطاعت أن تترك أثرًا لأبطالها في نفس قارئها، فكثيرًا ما نجد توجدًا في الواقع للفتاة المتمردة على موقعها كأنثى داخل مجتمعها، نصادفها، نتحدث معها، نستمع لرؤاها، فتقودنا ل( نوال) بطلة (غدًا سيكون الخميس)، وتتجسد أمامنا صورة الأم المحملة بالإرث الثقافي البطريكي القامع، والتي مارست الدور الذكوري بإخلاص له، فظلت في اللاوعي تُلقن ثقافة (اللا، والعيب، والصمت) الى الاجيال المتعاقبة، فتعود الذاكرة بنا أمام هذه النماذج الحقيقية الى (هيلة) بطلة ( هند والعسكر)، ووالدة (شريفة) في (امرأة على فوهة البركان). ولا نستطيع أن ننفي تواجد الانثى المستلبة عاطفيًا وجسديًا في مجتمعنا والتي تُحيلنا إلى(صبا) بطلة (الفردوس اليباب) و( غادة) في (لم أعد أبكي)، والنماذج لا حصر لها. وحتى في الرواية الفانتازية والتي تبنت شخوص أسطورية، واستنطقت الحيوانات والجمادات، كما نجد في مشهدنا المحلي عند رجاء عالم، ومها الفيصل، ففي اعتقادي أن المتتبع وراء الهدف من توظيف الساردة لتلك الشخوص الغرائبية في النص الروائي، ثم محاولة معرفة مدى قُرب ذلك الهدف الدافع لإحيائهم داخل النص من واقعنا، قادر على أن يجعل لها بصمة خاصة في داخلنا. من هنا، نستطيع أن نقول إن تعايش الشخوص الروائية معنا يستدعي مبدئيًا قُرب الحدث من أزمة واقعنا. والرواية السعودية شأنها شأن الرواية العربية والعالمية، استطاعت أن تحاكي واقعها بشتى صوره، وكانت المرآة العاكسة لكل قضاياه، وذلك للميزات التي يحظى بها النص الروائي، والتي أشار إليها النقاد من قبل، وهذا في تصوري كفيل بأن يُقرب أبطالها منا، ويُخلِد ذِكراهم في ذاكرتنا.