السيد خافيير سولانا المحترم/ الأمين العام لحلف شمال الاطلسي/ بروكسيل - بلجيكا تحية واحتراماً وبعد، لا يحتاج المرء الى علم غزير ومعرفة بشؤون الحلف الاطلسي من الداخل كي يدرك ان حرب كوسوفو تحولت الى ما يشبه الامتحان الصعب الذي يتقرر في ضوئه ليس فقط مصير القيادة الصربية ومستقبل السياسة العرقية التي تطبقها، ولكن ايضا مستقبل حلف الناتو ومصداقيته الدولية، وقدرته على الاستمرار كاطار للعلاقة الاستراتيجية بين اوروبا، من جهة، والولايات المتحدة، من جهة اخرى. فاذا خرج الحلف منتصراً في هذه الحرب، توطدت مكانته الدولية، اما اذا خسر المعركة فانه من الأرجح ان تتراجع هذه المكانة وان تتفكك العلاقات الاطلسية لكي ينمو على حسابها اطار آخر للتعاون الاستراتيجي الاوروبي. وانتم، ولا ريب، تبذلون كل جهد للحفاظ على الحلف الذي تتولون امانته العامة ولحمايته من الخسارة والتفكك. ان للتحدي الذي يشغلكم حالياً مضاعفات مباشرة على المنطقة العربية لا تقل اهميتها بالمعيار الاقليمي عن اهميتها الدولية، والموقف الذي تتخذونه من احداث كوسوفو يثير ردود فعل قوية في هذه المنطقة، بعضها يعود الى اسباب انسانية عامة، بصرف النظر عن هوية البانيي كوسوفو الدينية والقومية، والبعض الآخر يعود الى هوية هؤلاء الاسلامية التي تجمعهم مع اكثرية سكان المنطقة. فضلا عن هذا وذاك فإن حرب كوسوفو تستثير في نفوس ابناء وسكان المنطقة ذكريات متلاطمة من الآلام والمخاوف والحسابات القديمة والمتجددة والترقب لما قد يأتيه الغد من احداث واقدار، خصوصاً في ضوء القرار الذي اتخذه الناتو في قمته الاخيرة بتوسيع مسؤولياته الدولية لكي تشمل المناطق المحيطة به. كل ذلك يعني ان تفاعلات قضية كوسوفو على ضفاف المتوسط تختلف عن مضاعفاتها في المناطق البعيدة الى درجة ان البعض منها يبدو، على السطح، وكأنه غير مفهوم وغير مبرر ومناف للحكمة العادية. ومن بين ردود الفعل التي صدرت عن بعض المسؤولين في المنطقة، ربما استوقفكم بصورة خاصة، رد فعل آرييل شارون، وزير خارجية اسرائيل السابق. ولعلكم استغربتم ان يتخذ شارون وحكومة ليكود السابقة من اعمال الناتو الحربية في كوسوفو موقفاً متحفظاً. ولربما كان استغرابكم اكبر عندما وجه شارون انتقادات الى الهجمات الجوية التي بدأها الحلف بحجة انها ستؤدي الى قيام دولة اصولية في اوروبا، بينما توقع كثيرون في دول الناتو ان تسارع اسرائيل، التي عاشت على العون الذي قدمته اليها دول الحلف، الى اتخاذ موقف صريح ومنذ البداية في دعم اعمالها في كوسوفو. ان بعض المحللين الاوروبيين يعزو مثل هذه التصريحات عادة الى نزعة العداء للغرب المتفشية بين العديد من قادة اليمين الاسرائيلي من تلامذة الزعيم الصهيوني جابوتنسكي. وقد يكون هذا العامل من الدوافع التي اثرت على ردة فعل آرييل شارون على حرب كوسوفو. الا ان التفسير الأهم لموقف شارون هو ذلك الذي قدمه نفر من المحللين الاسرائيليين الذين قدروا انه خشي من ان تتحول اعمال الناتو في كوسوفو الى سابقة يكررها الحلف ضد اسرائيل نفسها. واكتسب هذا التفسير الاخير اهميته عندما تعرض شارون الى الانتقاد حتى داخل ليكود نفسه عندما وصف ردة فعله الأولية بأنها تخلو من الحصافة. وهي بالفعل تخلو من الحصافة لأنها قاربت الاعتراف العلني بأن الاسرائيليين طبقوا في الاراضي العربية ما يقوم به ميلوشيفيتش في يوغوسلافيا. لقد كتبتم قبل فترة ان حلف الاطلسي يعمل من اجل "انهاء المأساة الانسانية" وانكم لا تستطيعون الوقوف ساكتين بينما يجري تنفيذ حملة للتهجير القسري والتعذيب والاجرام، ولأن السكوت عن هذه الأعمال هو، كما وصفتموه في صحيفة ال"غارديان" البريطانية 22/4/1999 بمثابة الافلاس الاخلاقي. كذلك استنكرتم في كتاباتكم بأقوى الكلمات في صحيفة هيرالد تريبيون الدولية 17/4/1999 "التطهير العرقي البربري" والمحاولات الرامية الى "خلق الحقائق العنصرية الجديدة على ارض الواقع" بما في ذلك "التفريغ المنهجي للسكان". وأصابت توقعاتكم عين الحقيقة عندما قلتم انه "بسبب اجبار مئات الألوف من اللاجئين على مغادرة بلادهم الى اراضي الدول المجاورة فإن… المنطقة كلها مهددة بمخاطر النزاع المفتوح". وان "هذه الدول التي تجابه المتاعب الاقتصادية والسياسية، وصلت الى آخر الطريق في قدرتها على تحمل الأعباء الاستثنائية الناجمة عن الصراع". كما سعيتم في المذكرة التي وزعتموها على دول الحلفاء الى تنبيهها الى اخطار انفجار منطقة البلقان اذا استمر تدفق اللاجئين ولم يحسم الصراع بسرعة ضد بلغراد. كنتم تقصدون بهذه الكلمات الأعمال التي تنفذها القيادة اليوغوسلافية ضد سكان كوسوفو، غير ان الاسرائيليين، من امثال آرييل شارون الذين أبدوا تحفظاً وتخوفاً من تدخل قوات الحلف ضد جيش الصرب، كانوا يقرأون مثل هذه الكلمات قراءة مختلفة ويرون انه من المحتمل، في المستقبل، ان يبقى الوصف على حاله، ولكن لكي تستبدل الاسماء الواردة فيه فيحل محل ميلوشيفيتش قادة اسرائيليون وجهت اليهم نفس الاتهامات الموجهة اليوم الى الزعيم الصربي. هذه الاتهامات الموجهة ضد الزعماء الاسرائيليين لا تصدر عن العرب فحسب، وانما ايضا عن مؤرخين اسرائيليين مجددين كشفوها بالاستناد الى مراجع تاريخية صهيونية. ولقد كان من نتائج هذه الاعمال تشتيت شعب فلسطين وحرمانه من حقوقه الوطنية وتعريضه الى شتى المخاطر. في الوقت نفسه، كان من نتائجها ايضا الحاق اضرار يصعب تصورها وحصرها بالدول العربية المجاورة لفلسطين التي عرضها دخول الصهيونية المنطقة الى شتى المخاطر العسكرية والسياسية والمتاعب الاقتصادية والاجتماعية. وتقدم مأساة الحرب اللبنانية نموذجاً حياً على مضاعفات الاعمال التي نفذت بحق الفلسطينيين. فلبنان البلد الصغير الحجم الذي استقل عام 1943 لم يكن عام 1948 عندما لجأ اليه هرباً من التهجير القسري عشرات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين، بأفضل حالاً من دول البلقان التي تخشون عليها من الانفجار. ولا يخفاكم، كما لا يخفى على اي مسؤول مطلع من مسؤولي الحلف الاطلسي، انه رغم كل الأحاديث حول "عملية السلام" في الشرق الاوسط، فإن السياسة الاسرائيلية الرامية الى تجريد الفلسطينيين من اراضيهم ومن حقوقهم الطبيعية والتاريخية ما زالت قيد التطبيق. وتشمل هذه السياسة انكار اي حق انساني للفلسطينيين الذين اجبروا على مغادرة بلادهم في حروب اعوام 1948، 1967، و1973. في هذا السياق، يحاول الاسرائيليون تصوير تهجير الفلسطينيين القسري خلال تلك الحروب وكأنه حصيلة عملية تبادل سكاني وقع خلال الحرب، فيقول دافيد بار ايلان، مدير مكتب المواصلات التابع لرئيس حكومة اسرائيل السابق بنيامين نتانياهو، انه "ليس للاجئين الفلسطينيين ان يطلبوا اي شيء من الاسرائيليين والا طالبنا بالتعويض عما خسره اليهود الذين قدموا من البلاد العربية". ويجري "مؤتمر اليهود الشرقيين" عملية حصر واحصاء لممتلكات هؤلاء اليهود بقصد تنظيم حملة دولية ضد اللاجئين الفلسطينيين اذا اثاروا قضية حق العودة. اما سياسة اسرائيل تجاه فلسطينيي الداخل فإن هدفها الاستراتيجي باق هو ايضا على حاله، فالتضييق على الفلسطينيين بقصد تشجيعهم على الهجرة الى الخارج لا يزال قائماً، وأعمال بناء المستوطنات على نحو يؤذي المعادلة السكانية الفلسطينية - الاسرائيلية في الاراضي المحتلة بعدها مستمرة. ففي السابق كانت هذه المستوطنات تشابه الجزر المبعثرة وسط الوجود الفلسطيني السكاني، اما الآن فإن الوجود يتحول تدريجياً الى جزر مبعثرة ومعزولة وسط شبكة المستوطنات الاسرائيلية. قد يقول بعض القيادات الاطلسية أن هذه السياسة اذا كانت قائمة، فهي من صنع حزب ليكود وحلفائه من الأحزاب المتطرفة، وان خروج هؤلاء من الحكم وحلول حزب العمل محلهم سيغير هذه السياسة. ولا يستطيع المرء ان ينكر هنا ان هناك فرق بين ليكود والعمل، الا انه يؤمل الا تعطوا هذه الفروقات حجماً اكبر من اهميتها. فحزب العمل لم يكف عندما كان في الحكم عن "توسيع" المستوطنات القائمة، وربطها بشبكة واسعة من الطرقات السريعة تطوق المناطق السكنية العربية. اما باراك شخصياً فقد كان آخر قرار اصدره عندما كان وزيراً للداخلية في حكومة شمعون بيريز العمالية، هو تطوير البنية التحتية الاسرائيلية لكي تتحمل ما يقارب سبعة ملايين من المهاجرين الجدد من يهود العالم. وليس من الصعب ان يتصور المرء ان نسبة عالية من هؤلاء ستنتهي، بسبب محدودية الطاقة الاستيعابية للأراضي الواقعة داخل الخط الاخضر واذا ما قدم الى اسرائيل بالفعل 7 ملايين مهاجر يهودي جديد، الى الاقامة في الاراضي العربية المحتلة في ظل تشجيع ورعاية حزب العمل. لقد كان باستطاعة حلف الاطلسي في السابق ادارة ظهره لهذه الوقائع بحجة ان مسؤولياته محصورة بالقارة الاوروبية، الا انه بعد القرارات لتي اتخذتها القمة الاطلسية حول دوره في "الاراضي المحيطة"، وبعد الموقف القوي الذي اتخذه من التطهير العنصري في أوروبا، فإنه من الصعب ان يقف الحلف مكتوف الأيدي تجاه هذه الأعمال من دون ان يتعرض الى الافلاس الاخلاقي الذي تحذرون منه. كما انه من الصعب على الحلف الحفاظ على مصداقيته الدولية دون ان يتبع الكلمات السديدة التي كتبتموها حول المستقبل، اذ قلتم ان "النجاح يتطلب الصبر والاصرار … ولكن لا ينبغي ان يكون هناك أدنى شك: العدالة ستنتظر وسياسة التطهير العرقي ستندحر". اخيراً لا آخراً فإنه ليس سهلاً على الحلف الحفاظ على مصداقيته الدولية اذا دحر سياسة التطهير العرقي في كوسوفو، بينما تنصرف دوله الكبرى الى دعم وتقوية اولئك الذين مارسوا ويمارسون سياسة التطهير العرقي في فلسطين... مع الاحترام. * كاتب وباحث لبناني.