كشفت نكبة كوسوفو المفارقة والتناقض في بعض الاحكام الجاهزة والنظريات التي يتخذها البعض ثوابت مؤكدة تبنى عليها المواقف. وأفضل مثل لذلك ما كتبه المحلل السياسي البريطاني ن. كوهين ناقداً دول الاتحاد الأوروبي التي أحالت تحالفها الى قلعة حصينة يصعب على طالبي الأمان واللجوء دخولها. وعلق على حال لاجئي كوسوفو الذين يسمعون حلو الكلام ويرون تردداً في منحهم اللجوء في وقت تعدل فيه دول الاتحاد الأوروبي قوانينها لتزيد من صعوبة استقبال اللاجئين. اما درة المقال فهي جملته الختامية التي يقول فيها انه يتمنى - على رغم كل شيء - ان ينتصر حلف الناتو في معركته ضد يوغوسلافيا لأن اخفاقه يعني ان لاجئي كوسوفو سيحشرون في "قطاع غزة أوروبي" الأوبزيرفر 11/4/99. الإشارة الذكية والجريئة هي مقارنة ما حدث لمسلمي كوسوفو بما حدث لمسلمي ومسيحيي فلسطين عام 1948، والرغبة في استخلاص درس دولي لئلا تتكرر النكبة عام 1999. ويزيد من ثقل ما كتبه كوهين اسمه الدال على خلفيته. حري بمثل هذه الكلمات ان تصدر عن قلم عربي. ونجد بالفعل ان "الأوبزيرفر" التي نشرت مقال كوهين افردت حيزاً كبيراً من الصفحة 19 للاكاديمي الاميركي ادوارد سعيد الذي ولد ونشأ فلسطينياً وطرد من وطنه نتيجة للتطهير العرقي عام 1948. غير ان ادوارد سعيد يعبر عن وجهة نظر تختلف عن تلك التي عبر عنها ن. كوهين، اذ يعارض التصدي ليوغوسلافيا، بل يرى ان الولاياتالمتحدة أشبه "بفتوة" يستأسد على الضعفاء ولا يجد من يقف في وجهه. أي ان القوى التي تصدت لعنجهية وصلف ميلوشيفيتش هي المعتدية التي تستحق المقاومة وهي الجائرة التي تجاوزت حدود القانون الدولي! ومن سخرية القدر ان هذا الموقف يضع ادوارد سعيد من دون اتفاق أو تدبير ومن منطلق مختلف في منصة واحدة مع اريل شارون الذي صرح أثناء لقائه قادة الجالية اليهودية في نيويورك، بأنه لا يؤيد قصف يوغوسلافيا لأن ذلك قد يؤدي الى انفصال كوسوفو واتحادها مستقبلاً مع البانيا في دولة قد تصبح بؤرة للارهاب الاسلامي في أوروبا اسوشيتيد برس على الانترنت 7/4/1999. بيد ان الصورة ليست كلها قاتمة. فالفلسطينيون في الأراضي المحتلة خرجوا في تظاهرات عفوية غاضبة تضامناً مع منكوبي كوسوفو ووجهوا غضبتهم نحو يوغوسلافيا. وهو موقف يختلف عن موقف ادوارد سعيد. كما ان حملة تبرعات لإغاثة مسلمي كوسوفو نظمت في عدد كبير من الدول العربية والاسلامية. ومما يعطي أملاً بالسلام في المستقبل ان تظاهرات الفلسطينيين والتبرعات الشعبية تزامنت مع الحفلة التي نظمها الليبراليون وأنصار السلام الاسرائيليون في تل أبيب تحت شعار "لن نصمت ازاء ما يحدث!" حضر الحفلة ثلاثون الفاً وخصص ريعها لإغاثة منكوبي كوسوفو. جيروزاليم بوست 9/4/1999. صحيح ان اسرائيل نتانياهو انتهزت فرصة انشغال الاعلام الدولي بكوسوفو لتزيد من هدم المنازل في القدس وإقامة المستوطنات. إلا ان الموقف الشعبي الاسرائيلي الذي مثلته حفلة انصار السلام متطابق مع الموقف الشعبي الفلسطيني، وهذا أمر له دلالة عميقة. أما ناقدو التصدي لبربرية ميلوشيفيتش من العرب والمسلمين فإن نقدهم كان سيبدو اكثر اقناعاً لو أنهم شجبوا القصف الاطلسي وتقدموا ببديل عملي يكفل نجدة المنكوبين ويعيدهم الى ديارهم. أما شجبهم الحالي لحلف الاطلسي فهو أشبه بحال الذي لا يهب لنجدة المستغيث، ولا يرضى ان يفعل ذلك آخرون! "لا يبني ولا يناول الطوب" كما يقول المثل الشعبي البليغ. المفارقة الأخرى المتصلة بذلك هي ان دعاة نظرية صدام الثقافات والحضارات و"الحروب الصليبية" قد ألقموا حجراً. فالرئيس العراقي صدام حسين الذي أضاف كلمتي "الله أكبر" الى العلم العراقي تعبيراً عن هويته الاسلامية، عارض قصف حلف الاطلسي ليوغوسلافيا التي تقتل المسلمين وتشردهم وتغتصب نساءهم! وايران عارضت بدورها على رغم انها منذ عشرين سنة تتصدى لكل ما يمس الاسلام والمسلمين في كل بقاع العالم. وان دل هذا الى شيء، فإنما يدل الى ان المصالح السياسية المباشرة المتصلة بالبقاء في الحكم هي المنطلق الاساسي الذي يملي المواقف بما في ذلك الموقف من كوسوفو، وان الاعتبارات الدينية ليست سوى طلاء خارجي جذاب للجماهير في معظم الأحيان. وإلا فما تفسير هؤلاء "الرافضين" لهجوم دول حلف الاطلسي "المسيحية" على دولة يوغوسلافيا "المسيحية" دفاعاً عن حقوق الإنسان "المسلم" في كوسوفو وتفادياً لحدوث نكبة شبيهة بما حدث للفلسطينيين عام 1948؟ ولا يعني ذلك ان هجوم حلف الاطلسي على يوغوسلافيا خلو من نقاط تستوقف المرء وتدعو الى التأمل الحذر. فقد رصدت صحيفة "الاندبندنت" البريطانية 24/4/1999 حقائق نعلم من دراستنا للتاريخ ان لها سوابق في الحربين العالميتين الأولى والثانية. فبعض الشركات الكبرى في دول الاتحاد الأوروبي تبيع النفط ليوغوسلافيا وتمكن ميلوشيفيتش من مواصلة سياساته الفاشية، في الوقت الذي تقصف فيه صواريخ حلف الاطلسي مصفاة النفط في مدينة "نوفي صاد" لكي تحرم جيش ميلوشيفيتش من الوقود. فالشركات تتاجر على رغم حرب حكوماتها - تماماً كما فعلت إبان الحربين العالميتين. أما أهم نقاط الضعف في موقف حلف الاطلسي فهي اعلانه الرسمي في البداية ان القوات الأرضية لن تدخل كوسوفو الا في اطار اتفاق سلام. وقد شجع ذلك ميلوشيفيتش على مضاعفة حملته البربرية لطرد المدنيين الآمنين من قراهم ومدنهم. بيد ان أي تقويم لموقف حلف الاطلسي ينبغي ان يرتكز على جوهر سياساته لا على النقائص التي شابت التطبيق العملي أو شوهته. وجوهر السياسات سليم. فحملة التطهير العرقي بدأت منذ أكثر من عام ومفاوضات الحل السلمي الديبلوماسي المستند الى الترغيب والترهيب جربت ووصلت الى طريق مسدود في رامبوييه في فرنسا. ولا توجد طريقة عملية تكفل ردع المعتدي واعادة أهالي كوسوفو الى ديارهم سوى السلاح. وأي موقف يتناسى ان لبّ النزاع هو نكبة اهالي كوسوفو يستمسك بحرفية القانون الدولي ليحول دون اغاثتهم، سيفضي في النهاية الى ما حذر منه ن. كوهين وهو تكرار مأساة فلسطينيي عام 1948. * كاتب سوداني مقيم في بريطانيا.