فاجأني صوته عبر الهاتف، يسألني إن كانت لدي الرغبة بالذهاب الى كندا، لم أتذكر في تلك الحظة ان اسأل ماذا سنفعل هناك أو أن لي اصدقاء في تلك البلاد أود رؤيتهم. كان الرد بالايجاب حاسماً. هدف الرحلة كان المشاركة في المهرجان الدولي للنحت على الثلج. منذ تلك اللحظة أخذت الامور شكلها الجدي، كان علي تأمين ثمن بطاقة السفر، والذهاب الى السفارة الكندية في بيروت للحصول على الفيزا. ذهبت والزملاء الى وزارة الثقافة لطلب تغطية مصاريف الرحلة، فنحن وفد ذاهب ليمثل لبنان، كان الجواب ان الميزانية لم تقر بعد وانه يترتب علينا دفع المبلغ من جيوبنا ومن ثم نستعيده فور عودتنا. بدأنا نبحث عن مموّل فلم نجد، الى حين تكفل احد الاصدقاء بتأمين بعض المال شرط اعادته فور عودتنا. كل شيء بدا صاخباً - ذهبنا لطلب الفيزا - أعطونا موعداً بعد اسبوع، على رغم ان الوقت كان يدهمنا والمهرجان على وشك ان يفتتح، كانوا ايجابيين مع زملائي أما أنا فقد عوملت بقساوة وجفاء. طلبوا مني إفادات وإثباتات وأوراقاً كثيرة تؤكد انني فنان واني ذاهب للمشاركة في المهرجان، مع ان إسمي موجود في الدعوة الموجهة من دولتهم. كانت المرة الاولى التي أقف فيها على باب سفارة مستجدياً، انها المحاولة الأولى للسفر. إنها المرة الأولى التي شعرت فيها بالألم لكوني لبنانيا. أحسست كم أنا منبوذ، أنا الذي أعد نفسي مركز الكون. إنه ذلّ حقيقي، لحين قابلت موظفاً مخولاً إعطاء التأشيرات، كان يكلمني من وراء زجاج عازل في غرفة ضيقة لا تحتوي سوى كرسي وسماعة هاتف، ما جعلني أشعر بأني أحمل فيروساً أو مرضاً خطيراً معدياً، لذلك يعزلونني خوفاً من العدوى. اكتشفت اخيراً انهم يتقصدون إثارة أعصاب المتقدمين لطلب الفيزا، ربما ليقوموا الشخص ويعرفوا بأي طريقة يعبر عن غضبه و"إن كان إنساناً حضارياً أم لا". أمنت الاوراق المطلوبة، درسوها، تفحصوها بدقة. وضعوا الفيزا على جوازي فكان ان انتهت المرحلة الأولى، مرحلة الاوراق والملفات وصخبها، ليبدأ صخب آخر، إزدادت معه جدية الامور وبدأت تدخل أجواءها الحاسمة، فالسفر مقرر مباشرة في صباح اليوم التالي. أقسم أنني تلك الليلة لم أنم، فقد دهمتني رهبة ما، ومرّ في ذهني مليون سؤال. تلك "كيبيك" وهذه صورتي. كم أنت محظوظ يا "بشار". قبل عشر سنوات حذّرت بشار من السفر، لكن، عندما ذهبت اليه هناك اكتشفت كم كنت مخطئاً، وانه لو استجاب لطلبي وعواطفه، لكان دمّر حياته في هذا الشرق النائم. صدّق يا بشار انها الطائرة، تلك الآلة التي حلمت بها منذ الطفولة، ذلك الخوف، تلك الرعشة الغامضة التي تحققت الآن. عندما دخلت مطار بيروت، انفصلت روحي عن الجسد، كان الجسد هناك والفكر في مكان آخر، كنت محلقاً، لم أفكر بالأهل، بالوطن، بالأشياء. لا أعلم أين سرحت! وعندما دخلت الطائرة أحسست إحساس الجنين لحظة الولادة إنه الخروج من عالم الى آخر. كل شيء بدا مدهشاً، هناك عرفت ان صورة الطائرة في الواقع مختلفة تماماً عن صورتها في خيالي، في البداية خلت نفسي جالساً في باص، لم أشعر بالجدية إلا حين طلب القبطان شدّ الاحزمة، وبدأنا بالإقلاع. انها اللحظة الحاسمة التي كنت دائماً أتخيلها وأهابها، لكن تلك المضيفة الفرنسية الرائعة، قلبت الأمور، جعلتني أنسى الخوف، وأنسى أنني في طائرة - لقد بدت كغزالة متوثبة واثقة. أقلعنا. انها المرة الأولى التي أسافر. للأسف، لم أتمكن من رؤية بيروت من الجو، لقد صادف مكاني في الوسط. تذكرت أيام الحرب، شعرت كأني انتظر شيئاً ما سيحدث، قد يكون انفجاراً أو قذيفة، لكن الامور كانت أسهل وأجمل بكثير مما كنت أتوقع. حقاً ان السفر لشيء رائع! إنه الإحساس الاجمل، حين بدأت الطائرة تنفصل عن الارض لتزاوج السماء، شعرت أني بدأت أخلع رداءً ما عني وأني بالفعل أرتفع بعيداً عن لبنان. كم هو جميل هذا الخروج وكم كان منتظراً. - ها نحن نمخر عباب السماء، مرتفعين أكثر، متوجهين نحو "باريس"، محطتنا الأولى. نعبر المجالات الجوية لدول ما حلمت قط بأن أراها. ها أنا أجتازها كلها الآن دفعة واحدة، صرت أتخيل ان تحتي على الارض، حياة مختلفة، سيارات غريبة، تفاصيل صغيرة، هموماً، أعمالاً، أفراحاً، حضارات مختلفة. تساءلت إن كان الناس هناك اذا شاهدوا الطائرة، يفكرون بما أفكر، أم أنهم يمارسون حياتهم غير مبالين بمن يمرّ فوقهم وأين وجهته وينظرون الى الطائرة كقطعة حديد، لا يخطر في بالهم ان فيها أناساً مثلهم من لحم ودم. بدأت أحلل، أتساءل. أحاول أن أحصل على جواب، فكان ان وجدت ان الطائرة، آلة غربية، مزيج من صفائح الحديد والمقاعد، تختلط بالمركب البشري لتؤلف كياناً غريباً، يميل الإحساس فيه الى الكونية، أكثر منه الى الواقع. وصلنا المجال الجوي الفرنسي، خلت اننا خلال لحظات سنصل لكني فوجئت بأن الوقت طال، ففرنسا أرض شاسعة واسعة، ليست كلبنان نجتازه بدقائق! هبطنا في مطار شارل ديغول الذي يوازي حجم أراضيه مساحة بيروت مع الضواحي، كنت أنظر الى كل شيء بدهشة عارمة. كان الجو مشمساً، لكن، عندما خرجت من الطائرة، لسعني الصقيع بقسوة فالحرارة ثلاث درجات فوق الصفر، تساءلت حينئذ ماذا سنفعل في كندا، فالبرد أقسى وأشد، وقد تصل الحرارة الى ما دون 30 درجة تحت الصفر. دخلت المطار. القاعات مليئة بالبشر! بشر، بشر، من كل الجهات، من كل الألوان والأعراق، كأن المكان مهرجان تمثل فيه جميع شعوب الارض! ما جعلني أشعر بضياع وبخدر غريبين. بدأت أجول في صالة المسافرين، متنقلاً في السوق الحرة، أقف مذهولاً أمام أشياء وبضائع لم أسمع بها قط، ولم يخطر في بالي انها قد تكون موجودة. عند الظهيرة، شعرت بالجوع جلست في مطعم صغير يغص بالناس، تناولت الغداء. بعد الأكل بدأت أبحث عن هاتف، فكان عليّ تطمين الاهل بان كل شيء على ما يرام، اشتريت بطاقة للمكالمات، وجدت "كابين" فيه هاتف. وبدأت أحاول الاتصال، مر نصف ساعة، لم أتمكن خلالها من معرفة كيفية استعمال تلك الآلة الغريبة، انه هاتف معقد، لم أصادف مثله في حياتي، الى ان عرضت علي فتاة كانت بقربي المساعدة، عرفت في ما بعد انها يونانية. فكان ان اتصلت. انه الغروب! حان وقت الاقلاع الى كندا، حلّ التعب عليّ، شعرت بدوار وألم في الرأس، انها عوارض السفر! ودخلت الطائرة "بوينغ 747"، كانت أشبه ببناية سكنية مكتظة بالبشر، أو صالة سينما ممتلئة، أدهشتني ضخامتها. صادف مكاني قرب النافذة، فوق الجانح الأيسر، بدا الغروب رائعاً من تلك الناحية وبدت الشمس برتقالة ناضجة في سماء غريبة الألوان، تمزقها خطوط بيض لدخان طائرات تعبرها فترسم على جبهتها ندوباً كبيرة واسعة. أقلعنا بعد تأخير ساعة، لم أتنبه لشدة شغفي بالمناظر الخارجية، فوجئت بعدها انه كان بسبب عطل طرأ على باب الطائرة. كنا نرتفع رويداً رويداً، تسيطر على الجو رومانسية غريبة، بدت باريس باضوائها بيدراً كبيراً وقد انقلب عليه منقل من الجمر المتقد جعلها تتلألأ بأضوائها، حمراء، صفراء برّاقة! لم يمضِ وقت طويل، أمسينا بعده فوق مياه المحيط، ها هو الليل يخيم، ما عدت استطيع رؤية شيء في الخارج، الا ان حشرية ما كانت تدفعني للاستمرار في التحديق! ثماني ساعات، سأقضيها مسمراً على مقعدي. افكار كثيرة، احتمالات، تساؤلات راودتني، ماذا سأفعل إن لم أجد بشار ينتظرني في المطار؟ أنا الغريب المسافر؟ نمت قليلاً. أيقظتني قرقعة الاجنحة في المطبات الهوائية. اهتزت الطائرة، فكرت بحيتان جائعة تتمنى سقوط الطائرة لتشبع جوعاً عتيقاً. كنت أتأرجح بين الواقع والوهم. تأخذني الافكار ويسرح خيالي. تارة أفكر بمنطق وتارة أشعر بأني أطفو وأغوص كغريق خطفه التيار، لكن هدير الطائرة الصاخب وأصوات المسافرين التي كانت تتعالى بأحاديث، وصراخهم يذكر بصراخ بائعي الخضار على العربات، كان يشدني الى الواقع. دخلنا المجال الجوي الكندي، كانت المدن الكندية تتراءى الواحدة تلو الاخرى، موزعة هنا وهناك، اضواء تشعشع، تبهر، توحي بمظاهر حياة غريبة. مشهد ذكرني بمنظر قريتي في الليل وبمنظر قرى محيطة في الجوار، حبات ضوء لؤلؤية تتبعثر وتلتمع بهدوء وبريق غريب في كنف جبال لبنان، لكن أين تلك القرى الصغيرة الوادعة من هذي المدن الصاخبة، قلب العالم النابض ومركز ادارة الكون. ها نحن نصل بعد مسير طويل فوق البلاد التي لا تنتهي. انها مونتريال، الحلم المبتغى ترتدي ثوب عرسها الثلجي مرصعاً ببريق خرزات الضوء. ها هو مطار "دورفال" بمدرجه المرصوف بانارة كأنها أحجار كريمة لازوردية. خرجت من خرطوم الطائرة، لأدخل حرم المطار، متجاوزاً المسافة الغريبة الفاصلة، حيث الجدار يكتسي بصور ومشاهدات الطبيعة الكندية، مناظر حيتان وحيوانات بحرية، برية، مرفقة بأصواتها. مرآة كبيرة تمتد طوال الممر من الجهة الاخرى، حقاً انها للعبة سمعية بصرية مذهلة. كنت أنظر الى تلك الحيتان. أسمع أصواتها. "لم أربط بسرعة بين الصوت والصورة لشدة بلاهتي، وأنظر الى نفسي في المرآة من الجهة الاخرى، فيبدو المشهد الخلفي المركب صوراً حية! ها أنا في كنف طبيعة كندا ومدنها، بينما الواقع اني لم أدخلها بعد. أحسست لبرهة اني أخرج من تخدير عملية جرحية معقدة، متلعثماً مهلوساً، غير قادر على تحليل وتفسير ما أرى. كانت قاعة الوصول تكتظ بالمسافرين. النظام سيد الموقف، تقدمت من رجل الجمارك الأشقر، ازدادت خفقات القلب، نظر الى وجهي ثانيتين خلتهما سنتين، ختم جوازي مبتسماً. تسلّمت حقائبي بعد انتظار بسبب عطل في مخازن الحقائب في الطائرة. انتظار أحرق أعصابي كالتبغ، سرت باتجاه الباب النهائي، حيث يقف المنتظرون. كنت أجول بنظري بين الوجوه الكثيرة باحثاً عن بشار، خائفاً أن أكون نسيت شكله فلا أعرفه بعد فراق تلك السنوات. فجأة سمعت صوته يصرخ: "هنا، هنا" رأيت يديه تلوحان فوق الرؤوس.