بالنسبة لنحو نصف مليون شخص من عشاق المغامرة والسياحة غير التقليدية يعني شهر ايار مايو انتهاء فصل الشتاء القطبي الطويل بظلمته وبرودته القاتلة وبدء موسم السياحة البحرية على امتداد الساحل الغربي لكندا وولاية آلاسكا، في واحدة من بقاع الأرض التي لا زالت تحتفظ بأسرارها وهيبتها وتحدياتها وقدرتها على الابهار. وتضم آلاسكا مخزناً هائلاً من عناصر المغامرة فهي رقعة شاسعة تبلغ مساحتها نحو مليون كلم2 وتمتد سواحلها بطول يناهز 50 الف كلم ويقع ثلثها الشمالي داخل الدائرة القطبية وتحتوي اراضيها الجنوبية على اعلى جبل وواحدة من اضخم المحميات الطبيعية في اميركا الشمالية علاوة على 3 ملايين بحيرة ومئات الأنهار الجليدية التي تغطي مساحة 50 ألف كلم2 من آلاسكا وتعتبر اكثر عناصر التشويق وأشدها اجتذاباً للسياح بسبب ما تقدمه من مشاهد فريدة بكل ما في الكلمة من معنى. وتاريخياً كانت آلاسكا موطناً للهنود الحمر وسكان المناطق المتجمدة لآلاف السنين، وفي العصر الحديث اكتشفها الرحالة الروسي "فيتوس بيرينغز" سنة 1741 وجدد الرحالة "الكساندر بارانوف" اكتشافها بعد نحو نصف قرن، وفي سنة 1804 انشأت روسيا اول حامية لها على جزيرة صغيرة تدعى "سيتكا".، ثم اضطرت الحكومة القيصرية الى بيع حاميتها ومعها آلاسكا بأكملها الى الولاياتالمتحدة في سنة 1867 وكان الثمن المعلن نحو سبعة ملايين دولار. جولة ومن المؤكد ان القيام بجولة بحرية الى آلاسكا حلم يراود الكثيرين سواء بدافع حب المغامرة والتعرف على المجهول او مجرد الاسترخاء على وسادة وثيرة في عالم ساحر بعيداً عن روتين الحياة اليومية ومشاغلها، ولكن السياحة البحرية ليست فقط وسيلة استجمام مفعمة بالاثارة بل هي ايضا واحدة من اكثر وسائل الترفيه تكلفة وخصوصية مما يجعلها مغامرة في حد ذاتها. وهذا ما يعتقده "فريد الجميل" مسؤول وكالة السفر والسياحة الكندية "فواياج ليكسوس" التابعة لمجموعة "يونيغلوب" العالمية. ولخص فريد ل"الحياة" خبرة 14 عاماً في مجال السياحة البحرية في كندا على شكل نصيحة، "نحن نتحدث هنا عن رحلات تراوح تكلفة الواحدة منها بين الفين واربعة آلاف دولار كحد أدنى للشخص الواحد وتراوح مدتها بين ثلاثة وسبعة ايام وربما تطول الى 12 يوماً وأي خطأ في الاختيار سيكون بالتأكيد مصدر احباط شديد وهدر كبير في الوقت والمال". وتبدأ مسألة الاختيار وتنتهي عرفاً بركوب السفينة، وبسبب التنوع الكبير في خدمات السياحة البحرية لن يجد السائح بديلا عن الاعتماد على الخبرات المتوفرة للوكالات السياحية، فعلى سبيل المثال تنشط في منطقة مشهورة عالمياً مثل بحر الكاريبي نحو 76 شركة سياحة بحرية ولكل منها سفنها وجولاتها ووجهاتها وخدماتها وأسعارها بحيث تبدو عملية الوصول الى الخيار المناسب ضرباً من ضروب المستحيل ما لم تكن مدعومة بخبرة متخصصة. ويجد السائح لدى وكالات السياحة في هذه الأيام منشورات متقنة تقدم الحد الأدنى مما يمكن توقعه على ظهر السفينة من خدمات وتسهيلات ولكن الوسيط السياحي الذي يتمتع بالخبرة المناسبة يعطي السائح فرصة افضل في اختيار ما ينسجم مع رغباته وموازنته سواء فيما يتعلق بتحديد مكان الجولة البحرية او انتقاء السفينة وتوقيت الرحلة ومدتها والحسومات المتوفرة وكيفية الاستفادة منها فضلا عن امور اخرى كثيرة تساهم في تحصيل اكبر قدر ممكن من المتعة وراحة البال والحيطة من المطبات. وتتبع السياحة البحرية تقاليد الجولات المنظمة من جهة ان تكلفتها تكون عادة شاملة، وهي تقدم للسائح على شكل محفظة تشتمل على نفقات التنقل من والى ميناء الركوب والاقامة الفندقية وتذكرة الرحلة والوجبات اليومية والخدمات والتسهيلات وكذلك الترفيه الذي يمكن ان يتضمن الحفلات الاستعراضية والموسيقية الضخمة، ولا يبقى على السائح سوى الاستمتاع برحلته على ظهر السفينة وفي المرافئ والمنتجعات البرية التي غالباً ما تشكل محطات رئيسية في الجولات البحرية خصوصاً منطقة الساحل الغربي لكندا وولاية آلاسكا. وتبدأ الرحلات البحرية الى المنطقة المذكورة المسماة "طريق الأنهار الجليدية" في شهر آيار وتبلغ ذروتها في شهور الصيف القطبي القصير حزيران/ يونيو - آب/ اغسطس وتستمر بمعدلات اقل في شهر ايلول سبتمبر، ويقوم بهذه الرحلات 28 سفينة تابعة ل13 شركة سياحية اشهرها مجموعة "هولاند اميركا" و"برينسيس" و"كرنفال" وتتوقع مصادر صناعة السياحة البحرية ان يرتاد المنطقة في موسم الصيف الجاري زهاء نصف مليون سائح. وتسير شركات السياحة البحرية العاملة في المنطقة انواعاً من السفن يمكن ان تترجم الى خيارات بالنسبة للسائح، فهناك السفن الضخمة التي تقدم خدمات وتسهلات راقية خمسة نجوم، وتتوفر في المقابل سفن اصغر حجماً تقدم خدمات وتسهيلات محدودة لكنها تتميز بمرونة الحركة، لا سيما في المضايق ومداخل المحطات الساحلية، ويوجد ايضا قوارب متخصصة تحمل السياح الى الخلجان والأنهار الداخلية وكذلك يخوت فخمة تجمع بين المغامرة والرفاهية. وتنطلق غالبية الرحلات البحرية من ميناء مدينة "فانكوفر" وتنتهي فيه وعليه تعتبر هذه المدينة الجميلة الواقعة على شواطئ المحيط الهادئ نقطة تجمع للمشاركين في المغامرات القطبية، وتقوم وكالات السياحة بتأمين وسيلة النقل من والى فانكوفر بالتنسيق مع شركات السياحة البحرية وشركات الطيران العالمية فضلاً عن تقديم خدمات اضافية مثل تأمين الاقامة في الفنادق، وهناك بعض الرحلات التي تنتهي في ميناء بحري يقع بالقرب من مدينة "انكوراج"، احدى المدينة الرئيسية في آلاسكا، ومن هناك تتم العودة الى فانكوفر بالطائرة. وينصح "فريد" السائح بالاستفادة من تنوع الرحلات خصوصاً ان بعض شركات السياحة البحرية مثل "هولاند أميركا" تقدم 33 نوعاً من الرحلات اشهرها جولات شاملة تجمع بين السياحة البحرية والبرية وتعتبر فرصة جيدة لمعايشة المغامرة البحرية على وسادة وثيرة في عالم بديع يلهب الخيال والاستمتاع في الوقت نفسه بمشاهد خلابة من العصر الجليدي في عالم آخر من الحياة البرية التي تحبس الأنفاس بحيويتها وروعتها وعذريتها. ولكن رغم تنوع الرحلات البحرية الا ان غالبيتها يشترك في مسار تقليدي يسير بمحاذاة الساحل الغربي لمقاطعة "بريتش كولومبيا" ثم ولاية آلاسكا ويمر عبر سلسلة شبه متصلة من المضائق والأرخبيلات ويشتمل على محطات قصيرة من بينها مدينة "جونو" عاصمة ولاية آلاسكا ومدن اخرى صغيرة مأهولة بسكانها الأصليين من الهنود الحمر وسكان المناطق المتجمدة، وتستغرق الرحلة التقليدية سبعة ايام. مرحلة أولى وفي المرحلة الأولى من الرحلة تبحر السفن السياحية في مياه هادئة محمية من امواج المحيط بالجزر لكنها تعتبر احدى المناطق المفضلة للدلافين والحيتان، والحوت الأبيض على وجه الخصوص، ومن المألوف رؤية كوكبات الدلافين في سباق مع السفن، وأجمل ما في هذه المرحلة، التي تستغرق ليلة ويوماً كاملاً من الابحار، ترصد المشاهد الطبيعية على امتداد الشواطئ والجزر المتناثرة في الجوار وهي مشاهد ساحرة عبارة عن مزيج رائع من الخلجان والجبال والغابات ومساقط المائية والطيور. وتبدأ المرحلة الثانية صباح اليوم الثالث وتستمر لمدة اربعة ايام وتشتمل على زيارات قصيرة متتابعة لعدد من المواقع والمدن التي تحكي جانباً من تاريخ المنطقة، ومن ابرز مواقع هذه المرحلة "سيتكا" المحمية الروسية القديمة ومدينتا "جحونو" و"سكاغوي" وهما اشهر محطتين على الطريق الى مناجم الذهب الاسطورية التي تم اكتشافها في المنطقة اواخر القرن الماضي. ويقطن سيتكا، وهي مدينة جميلة محاطة بالجزر، نحو ثلاثة آلاف نسمة من افراد قبيلة هندية ويوجد فيها متحف صغير يحكي تاريخ المحمية والصراع، وفي مرحلة لاحقة، التعايش بين الهنود الحمر والمستوطنين الروس، وتقام في بناء المتحف عروض يومية من الرقص الروسي، وهناك ايضا عروض فولكلورية ممتعة للتقاليد الهندية تقام في حديقة المدينة حيث يمكن مشاهدة الحرفيين الهنود مع منتوجاتهم من الحلي والمنسوجات وبعض الملابس المصنوعة من جلود أسماك السلمون، وأشهر ما يمكن مشاهدته الأعمدة ال"طوطمية" وهي اشجار ضخمة منحوتة على اشكال تجسد معتقدات الهنود. وبالمقارنة مع سيتكا تبدو جونو مدينة كبيرة نسبياً ويقطنها نحو 30 الف نسمة الا انها مدينة ساحلية وتقع ابرز معالمها السياحية في حقولها الجليدية، وتنظم الشركات السياحية جولات برية وجوية الى عدد من الانهار الجليدية وأشهرها نهر جليدي بالغ الضخامة والروعة يسمى "ميدينهول" وهو واحد من 16 نهراً جليدياً في المنطقة، ومن المعالم الاخرى في المدينة متحف بحري يضم تشكيلة كبيرة من الزوارق الهندية المعروفة باسم "كاياك". لكن السائح الذي تثيره الملحمة البشرية المسماة "حمى البحث عن الذهب" سيجد ضالته في مدينة "سكاغوي" القريبة من جونو، ورغم ان هذه المدينة الصغيرة لا يزيد تعداد سكانها على 600 نسمة الا انها تستقبل في موسم الصيف نحو 300 ألف سائح، نصفهم تقريبا من ركاب السفن السياحية، وتأتي غالبية الزوار لمعايشة حلم دفع بآلاف المغامرين الى المخاطرة بالنفس في محاولة للوصول الى الذهب عبر ممر "تشيلكوت"، احد اشد الممرات الجبلية خطورة في المنطقة القطبية. وينظم بعض شركات السياحة البحرية رحلة برية تنطلق من مدينة سكاغوي وتخترق الأراضي الكندية في الطريق الى اعماق ولاية آلاسكا وتنتهي في مدينة انكوراج 250 ألف نسمة على الساحل الجنوبي للولاية، وتمر الرحلة بمدن كبيرة من بينها عاصمة ولاية "يوكون" الكندية ومدينة "فيربانكس في آلاسكا وتشتمل على جولة واقامة في محمية طبيعية ضخمة تسمى "دينالي"، وينتقل السائح بين وسائط مواصلات خاصة من الباصات والقطارات السياحية ويعيش سلسلة من المغامرات تكمل متعة السياحة البحرية. وتأتي مرحلة الذروة لكل من الرحلتين البرية والبحرية في القيام بجولة في خليج الانهار الجليدية، ويشكل هذا الخليج جزءاً من محمية طبيعية تقع الى الجنوب من سكاغوي وتعتبر واحدة من اجمل المواقع الطبيعية على الكرة الأرضية، وترسو السفن السياحية لساعات تختلف عدتها بين شركة واخرى ولكن يمكن السائح ان يتوقع الكثير من المشاهد الرائعة على الشواطئ وفي مياه الخليج وهي مشاهد لا يمكن رؤيتها الا من على ظهر السفن. وتعتبر الانهار الجليدية التي يشاهدها السائح على الشواطئ واحدة من المظاهر الطبيعية المدهشة حقاً فهي انهار ضخمة تجمدت مياهها محتفظة بمساراتها وأمواجها في اشكال بديعة، وهناك خاصتان تسترعيان الانتباه في الانهار الجليدية وهما قدرتها على امتصاص ألوان الطيف فيما عدا اللون الأزرق الذي يكسبها مظهرا يسحر الألباب، وزحفها البطيء باتجاه مياه الخليج ونتائجه المثيرة المتمثلة في تساقط قطع ضخمة من الجليد بدوي هائل يمزق السكون القطبي. لكن في هذا العالم المرعب والمبهر في آن واحد تجد الحيوانات البحرية بيئة غنية بالأوكسجين والغذاء ويكون نصيب السائح على ظهر السفينة مشاهد رائعة للحيتان بأنواعها المختلفة والدلافين والفقمة والنسور النادرة والدببة ورصيد كبير من الذكريات.