أثارت العمليات الجوية المطولة لحلف شمال الاطلسي على يوغوسلافيا جدلاً واسعاً، سواء في مجال عجزها عن إرغام بلغراد على الاستسلام أو اخفاقها في تحقيق الهدف المعلن عنها في اطار انهاء العنف الصربي ضد الالبان وتوفير الأمن والاستقرار في اقليم كوسوفو. جميل روفائيل يلقي الأضواء: تعمد قادة حلف شمال الاطلسي ودوله المشاركة بصورة رئيسية في الضربات الجوية منذ بدئها في 24 آذار مارس الماضي، عبر الكثافة الاعلامية، على التأكيد بأن غارات الصواريخ والقنابل "ناجحة في إصابة أهدافها وان القصف قادر على إلحاق الهزيمة بالقدرات العسكرية اليوغوسلافية وارغام الصرب على الالتزام بشروط الحلف الخاصة بخطة السلام في كوسوفو". الا ان وقائع الايام المتتالية اثبتت مبالغة الأقوال في حقيقة الافعال، وان حسابات "النصر المبين لأعظم قوة عسكرية في عالم اليوم" اكتنفها الكثير من التداعي الى حد الولوج في شرك مأزق، صار التخلص منه، يمثل مشكلة بحد ذاتها، في مجال اظهار وحدة الدول الغربية وايجاد مخرج يكفل حفاظ ماء الوجه على الأقل. وأخذت الضربات الاطلسية، مع مرور الأيام واستمرار "التحدي الصربي" تبتعد عن الخطط المعلنة عنها، اذ توقف الحديث عن تتابع المراحل، وصارت الضربات تستهدف المواقع السهلة في الاصطياد قبل الأهمية النوعية، وتراوحت بين مصانع متنوعة ومؤسسات البنية التحتية والمنشآت النفطية والجسور وطرق المواصلات ووصولاً الى "الاخطاء" في قصف منازل السكان وقوافل النازحين وحافلات النقل العام والقطارات وحتى المقابر، وهو ما دخل في نوعية من الحقد والتشفي، بعدما برز أذاه موجهاً الى التطور المدني بمقاصد واضحة، فأثار نقمة شعبية على الدول الاطلسية، وتقاربا صربياً عاماً من قيادة الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش "انطلاقاً من المبادئ الصربية المتوارثة في مشاعر الدفاع عن الأرض القومية التي يشكل اقليم كوسوفو موضع القلب فيها". وفي مواجهة "للتعنت الصربي" ركزت الضربات لبعض الوقت على مناطق الاقليات العرقية، حيث جمهورية الجبل الأسود جنوب غربي يوغوسلافيا وتجمعات المجريين والكروات في منطقة فويفودينا - شمال صربيا والمسلمين في بلديات السنجاق - جنوب غربي صربيا والبلغار شرق صربيا. لكن لم تتحرك الانتفاضة التي توقعها الغربيون في اشاعة الفوضى، باستثناء احتجاجات عفوية على إرسال الجنود المنتمين اليها الى كوسوفو، سرعان ما هدأت، لأن هذه الأقليات ليست منظمة بالشكل الذي يؤدي الى تحرك جماهيري واسع، اضافة الى ضعفها في مواجهة الصرب وخشيتها من التعرض لانتقام عنيف. واللافت ان الحلف لم يركز في الشهر الأول من ضرباته على اقليم كوسوفو، وهو ما أتاح المجال للصرب كي يواصلوا عملياتهم الرامية الى انهاء الثقل الألباني في الاقليم، من خلال إرغام السكان الألبان، خصوصاً في المناطق الشمالية والغربية، على النزوح الى الدول المجاورة، اسوة بما حصل في البوسنة، حيث لا يزال يوجد خارجها نحو ثلاثة أرباع مليون مسلم، أي أكثر من نصف عدد الذين غادروا منهم أثناء الحرب، وهو ما يمكن ان يحدث في كوسوفو ايضاً، اذ يتوقع ان يتخلى قسم كبير من الألبان عن العودة نتيجة ردة الفعل النفسية الحاصلة عندهم وتوفر الاحوال المريحة لهم نسبياً في الدول الأوروبية وغيرها، اضافة الى العراقيل التي سيواجهها اللاجئون العائدون بسبب ان القوات العسكرية الصربية صادرت كافة الوثائق التي كان يحملها النازحون. ويجمع المراقبون للأوضاع المحلية في يوغوسلافيا على ان نتيجة الضربات الاطلسية على الأهداف العسكرية، ضئيلة جداً مقارنة مع الخسائر التي لحقت بالمنشآت الصناعية والخدمية، وذلك لأن السلطات اليوغوسلافية كانت انشأت منذ عهد تيتو مخابئ في الجبال والغابات لكافة الاستخدامات العسكرية من مطارات ومصانع ومستودعات وقاعات للجنود، وتم اخلاء المباني والمطارات المكشوفة الخاصة بالأمور العسكرية قبل وقت مناسب، من كل ما يمكن نقله منها، ولذا فإن غالبية ما أحرق في مواقعه كان مباني شبه فارغة واشكالاً تمويهية من أخشاب وحديد ومواد بلاستيكية وحجرية. ويؤكد هذا الاعتقاد، تكرار القصف على موقع واحد مرات عدة، كما هي الحال مع مطار باتانيتسا العسكري 15 كم شمال غربي بلغراد الذي قصف - حتى اعداد هذا الموضوع - 26 مرة وبمعدل أربعة صواريخ في كل غارة، على رغم ان بيانات الحلف الاطلسي أعلنت تدمير منشآته ومحتوياته منذ الضربة الأولى. والمعروف ان هذه المنطقة تضم - اضافة الى المطار المكشوف - مطاراً متكاملاً في جوف الأرض. فاستهداف المكان ذاته ما يشير الى ان صواريخ "توماهوك" وغيرها ظلت عاجزة عن الوصول الى الهدف المقصود. وينطبق الأمر نفسه على محطة الرادار الرئيسية الخاصة ببلغراد والتي موقعها في راكوفيتسا جنوبالمدينة التي لم تصبها أي قذيفة بصورة مباشرة، على رغم قصفها لأكثر من عشر مرات، لأنها محمية بشكل متكامل صناعياً وجغرافياً. وتنبغي الإشارة الى ان الطائرات المدنية اليوغوسلافية نقلت الى مقدونيا واليونان وليبيا ودول اخرى كانت في رحلات اليها، وظلت فيها عند بدء الضربات الجوية. وكانت تهيأت لي فرصة قبل ثماني سنوات لمشاهدة جانب من مصنع للأسلحة في كهف بجبل قرب مدينة "أوجيتسا" 240 كلم جنوب غربي بلغراد حيث سمح لي بالدخول مسافة 200 متر وقيل انه يمتد لأكثر من 500 متر، وعلمت ان غالبية المصانع التسليحية المهمة مقامة بهذا الشكل الذي يستحيل تدميره. وليس خافياً ان الطبيعة الجغرافية الصعبة المسالك ليوغوسلافيا، وخصوصاً في اقليم كوسوفو، هي التي جعلت دول الحلف الاطلسي تتجنب التدخل البري. وتفيد المعلومات ان الصرب حشدوا نحو 200 ألف مسلح بين جندي وشرطي وعناصر ميليشيات ومتطوعين في الاقليم، تتسلح مجموعات منهم بمدافع مضادة للطائرات من النوع الذي يمكن حمله بسهولة، كما أنه تم توزيع الأسلحة على أنحاء الاقليم ووضعها في اعشاش يصعب كشفها، بحيث صرح قائد القوات اليوغوسلافية في الاقليم "يا مرحبا بمروحيات أباتشي متى شاءت تنفيذ ما يطلب منها".