جاءت الممثلة التونسية جليلة بكار الى بيروت تبحث عن عايدة التي لم ترها في زيارتها السابقة للعاصمة البيروتية حين ارتدت "قناع" الممثلة في فاميليا وعشاق المقهى المهجور. أرادت جليلة بكار ان توجه تحية الى فلسطين. ولما كانت ابنة المسرح، ولما كانت تتقن لغته بامتياز جاءت الرسالة ممسرحة. تدرك بكار تماماً حدود عملها "البحث عن عايدة"، فهي لم تقدمه لابراز قدرات تمثيلية تمتلكها فعلاً ولا تريد ان ينظر اليها المشاهد من تلك الزاوية أصلاً. فما يهمها فعلاً هو ايصال الرسالة. تلك الرسالة التي دفعتها للقبول بأن تظهر منفردة على المسرح وهذا ما لا تحبذه اساساً. ولأن القضية هي قضية فلسطين، ولأن المناسبة خاصة جداً ترى بكار ان الخطاب المباشر ضروري ومقبول على خشبة المسرح. حول هذا الموضوع كان لنا هذا الحوار مع الممثلة التونسية جليلة بكار التي كانت قدّمت عرضها المونودرامي "البحث عن عايدة" في مسرح بيروت، وسوف تعيد تقديمها في تونس في الأيام المقبلة. من "فاميليا" و"عشاق المقهى المهجور"، هاتين المسرحيتين اللتين تعرّف الجمهور اللبناني من خلالهما على الممثلة جليلة بكار الى "البحث عن عايدة"، ومن العمل الجماعي ضمن فرقة المسرح الجديد الى الظهور المنفرد، كيف تفسرين هذه الإطلالة المختلفة، وكيف كانت التجربة؟ - التجربة جديدة في كلّ النواحي. انها المرة الأولى التي أكتب فيها النص بمفردي، وهو أول نص أقدمه يجمع بين العامية التونسية والعربية الفصحى. كما انها المرة الأولى التي اقدم فيها العرض الأول من العمل خارج تونس. كل التجربة اذاً كانت جديدة بالنسبة لي. عدا عن كون هذا العمل خاصاً جداً وهو مرتبط بمناسبة مرور خمسين عاماً على النكبة. على أي حال، لم يكن القصد ان اقدم عملاً مونودرامياً، و"البحث عن عايدة" ليست كذلك أصلاً. كل ما في الأمر أنّ الياس خوري طلب مني حين التقيته في تونس في تشرين الأول اوكتوبر الماضي ان اقدم العمل الذي أريد وأحب في مناسبة مرور خمسين عاماً على النكبة. في بادىء الأمر فكرت ان اختار نصاً يحكي عن فلسطين، عن الاستعمار، عن نضال الشعب الفلسطيني... الى حين سألت نفسي لماذا لا أحكي عن علاقتي أنا بفلسطين. كيف عشت حالة فلسطين وكيف تقبلت النكبة في السنوات الأولى من عمري. تلك كانت الانطلاقة، وكان عنوانها فلسطين - نظرة تونس الى المأساة. واستكملت العمل بالتواريخ والمراحل التي عشناها، وكيف واكبنا القضية الفلسطينية وتفاعلنا معها في مختلف مراحلها. وفي أثناء كتابة النص، كنت كلما أفكر بفلسطين أقول لو حصل هذا الشيء في تونس كيف كنا سنعيشه. اذا اخرجوني من منزلي... طردوني.... قتلوا أبي.... أخي... ابن عمي... اذا كنت فلسطينية كيف كنت سأعيش المأساة؟ وعايدة من تكون إذاً؟ - في نظرة تونس الى فلسطين، فكرت بشخصية أخرى وتحديداً شخصية فلسطينية. رسمت اطارها كما لو كنت تعرفت عليها فعلاً. علماً انها شخصية خيالية. غير أني كنت أشعر دوماً انها موجودة، تسكنني من الداخل. تقيم في أحلامي. كان هذا منطلقاً آخر للعمل، قرأت كثيراً وأجريت مقابلات وشاهدت افلاماً وثائقية الى حين اكتملت مسيرة تلك الشخصية الخيالية - الحية في داخلي. عايدة، شخصية أخاطبها في الغيب، لكنها موجودة حقيقة في داخلي. انها تمثل اي امرأة فلسطينية، أو ربما نساء فلسطينيات عدّة. وماذا عن اطلالتك منفردة على المسرح؟ هل نتوقع من جليلة بكار مزيداً من الأعمال المونودرامية؟ - أنا لا أحب المونودرام ولا أحبذ فكرة أن يكون الممثل وحده هكذا على الخشبة. وأشعر، على المستوى الشخصي، ان لديّ حاجة ان تشاركني شخصية أخرى الوقوف على المسرح. احتاج لنظرة هذا الشخص، لوجوده حتى اتفاعل معه. ذلك ان العلاقة في المسرح برأيي، ثلاثية وليست أحادية أم ثنائية. وقوامها الممثلين في ما بينهم اثنين على الأقل ومن ثم علاقتهم بالجمهور. أما في ما خص هذا العمل تحديداً، أي "البحث عن عايدة"، كانت المناسبة بالنسبة لي أهم من كل شيء. هذا عمل متواضع جداً قدمته في مناسبة تعنيني كثيراً. لذا، لم أود أن أفكر كثيراً أو أتخوف اكثر مما يلزم. قلت لنفسي سأقدم العمل وأقول ما عندي بصراحة وأعكس المشاعر التي تجتاحني... ولن أركز على صعوبة العمل أو اوليها اهمية. المهم بالنسبة لي كان ايصال رسالة محددة، وكل ما يعنيني ان تصل هذه الرسالة فعلاً. وأود ان أوضح هنا ان النص ليس في الأصل مسرحياً حتى أعيش شخصية مسرحية اختفي وراءها. انها نوع من المخاطبة، أكثر مما هي تمثيل بالمعنى العادي للكلمة. إذاً لن تخوضي التجربة ثانية؟ - لا، أبداً. انها المناسبة التي فرضت نفسها هنا، وهي تهمني الى الحد الذي جعلني اظهر منفردة على المسرح. الا اني لن اخوض التجربة ثانية. قلت في "البحث عن عايدة" انك جئت هذه المرة من دون قناع. هل تعتبرين ان ظهورك على المسرح عموماً هو ظهور مقنع، علماً ان المسرح هو فضاء تنكشف فيه الذات؟ - تماماً، ولكن اعتقد ان المسرح هو مكان لارتداء القناع ولإزالته من ثم. انه الحيز الذي نكشف فيه عن ذاتنا. وهكذا تقوم أساساً كل أعمالنا المسرحية. وأخص بالذكر مسرحية "لام" التي قدمت بعد يومين من قدوم باخرة الفلسطينيين الى تونس عام 1982، ومسرحية "عرب" التي عرضت قبل بدء الانتفاضة بأشهر. اننا نحكي عن الشرق بصفة عامة بدءاً بفلسطين ومروراً بلبنان والعراق ووصولاً الى تونس. المسرح هو المكان الذي نفجر فيه ما نختزن في داخلنا. في "البحث عن عايدة"، اقول خطاباً حقيقياً. ولا ألجأ الى شخصية أخرى اختفي خلفها، اي ليس هناك فاصل وان شكلي بيني وبين المشهد. جئت كما نقول في تونس، "عريانة". حددت تونس، المكان الذي جئت منه، وبيروتالمدينة التي جئت اليها، وعايدة المرأة التي تبحثين عنها، وكذلك فلسطين، غير انك لم تحددي هويتك، فمن أنت؟ لم تقولي مرة واحدة أنا جليلة بكار، لماذا؟ - كانت مشكلة بالنسبة اليّ. وكان المخرج الفاضل الجعايبي يقول لي دوماً قولي انا جليلة بكار. غير اني لم استطع. كنت أجدها ثقيلة. لم تكن لتخرج من فمي بهذه البساطة. فاعتبرت ان بامكاني تجاوز هذا التحديد. لكن من دون أدنى شك كنت أنا جليلة بكار التي تبحث عن عايدة. س - ألم يكن ممكناً ان يتخذ العمل شكلاً مغايراً لما رأيناه على المسرح، ما دمت لا تحبين المونودرام؟ - كان ذلك ممكناً بالطبع. لكن ضيق الوقت لم يكن لصالحنا. ولو كنت املك متسعاً من الوقت، لفكرت على الأرجح في عمل مسرحي من نوع آخر. ذلك ان "البحث عن عايدة" ليست مسرحية بقدر ما هي خطاب ممسرح. في المناسبة، هل تعتقدين ان المسرح لا يزال يحتمل نصاً خطابياً، وهل من الممكن ان نوصل عبر المسرح رسالة خطابية؟ - في بعض المناسبات المحددة جداً، يصبح الأمر ممكناً. صحيح أن المسألة صعبة، ولكني اعتقد ان هناك نوعاً من الظروف الخاصة تفرض ان يتجرد المسرح من أشيائه ويسير كالسهم للخطاب المباشر. جليلة بكار التي اعتدنا عليها في حركة دائمة على المسرح، وفي قدرة استثنائية على استغلال كل تفصيل في جسدها وتحويله كتلة معبّرة، كيف شعرت بجسدها على المسرح الذي كان شبه معطل. وكان للصوت وتعابير الوجه الوظيفة الأساسية في ايصال الرسالة؟ - الحركة على المسرح مهما كانت صعبة تخفف عادة من توتر الممثل. تجعله اكثر خفة وحرية، تحرره. وتجعل علاقته بالآخر أكان ممثلاً أم متفرجاً اكثر ليونة وسلاسة. لذا، كانت قلة الحركة تعني بالنسبة لي ساعة كاملة من التوتر. كان الوضع أشبه بخيط رفيع نرمي به الى الجمهور وعلينا ان نعاود سحبه من دون ان نجعله يتكسر. وتلك مسألة في غاية الصعوبة. ان تحافظي على انتباه الجمهور وان لا تدعيه يفلت منك. لا أنكر أني كنت خائفة جداً لحظة دخولي المسرح واحتجت لبعض الدقائق لأستعيد تماسكي. لم تخيفك فكرة عدم تقبل الجمهور للعمل الذي تقدمين، خصوصاً وان اطلالتيك في "فاميليا" و"عشاق المقهى المهجور" لا تزال اصداؤهما تتردد في بيروت وبين الجمهور اللبناني؟ - ما خفته فعلاً أن يظن الجمهور ان ما اقدمه هو عمل مسرحي فعلي. بمعنى آخر، ما أخافني هو ما كان يتوقعه الجمهور مني، وليس ما أنا في صدد تقديمه. وأقولها صراحة، لو كان هذا العمل مسرحية بكل ما يفترض المسرح من ديكور وخدمة مسرحية أوسع، ولم يصل الدور الذي أؤديه، لكنت حزنت فعلاً. اما هنا، فأنا اقدم عملاً بصدق كبير. وكل ما اتمناه ان تصل هذه الرسالة تحديداً. كيف وضعت الرؤية الاخراجية لهذا العمل الذي لا تعتبرينه مسرحاً وخصوصاً أنّ التركيز كان على المساحة الخالية وعلى طغيان اللون الأسود؟ - في الأصل انا احببت ان تكون الأشياء واضحة، نظيفة. لم أكن أريد الزركشة. تماماً كما نرى حين نقفل أعيننا لنتذكر شيئاً ما، ماذا نرى؟ خطوط مستقيمة... والفاضل الجعايبي ركز في عمله هذا على الخطوط الواضحة في الضوء، وفي الستارة التي تفتح وتقفل كما في الطاولة والكرسي. اي ان الأشياء التي اختارها كانت بسيطة وذلك بغية ابراز الخطاب الذي يحمله النصّ.