مع شاكر حسن آل سعيد الرسام العراقي الكبير، الذي عاش تحولات الحداثة الفنية، كان، من جهته فاتحاً ومخترعاً يلجأ العالم المرئي الى خفته. مقترحاً أبعاداً ذهنية لتوضيح غموضه وهو غموض حياة وليس غموض دلالة. لذلك فإن آل سعيد يسعى الى ازاحة الشكل عيانياً والى تكريس بعده الذهني، كونه أثراً لدلالة ما. النظر الى العالم الخارجي صار بالنسبة اليه بمثابة تمرين روحي. وعليك وأنت معه أن تتخلى عن عادات كثيرة: قد يأتيك الجمال مفاجئاً من جهة غير متوقعة. يتلألأ من بقعة وحل وقد يومض من صفيحة خرّمها الصدأ وقد يرقد في شق على جدار. ضرورة الفنان تؤكدها حاجة مستترة الى نفض الغبار عن الشيء المهمل ليسطع الجمال الكامن... وآل سعيد لا يجد ضالته إلا في الإشارة التي تكون أحياناً عابرة الى هذا السبات. فالجمال النائم هو ما يثيره ويدعوه الى الاستغراق التأملي مروراً بالعبادة. حيث تندمج آليات السلوك الإنساني كلها، الواعية منها وغير الواعية على السواء في عجينة التسبيح ودورة الذكر، كائن يستعذب خضوعه لكينونته ومخلوق مفرط في مخلوقيته. وطأة الزمن لا تزعجه احتفل قبل أيام، في الدوحة، بعيد ميلاده الرابع والسبعين فهو، منذ سنوات لم يعد يرى من الناس سوى أشباح ومن الطبيعة سوى ظلال. فعينه التي ترى مخبئة في أعماق سريرته. ومصفاته البصرية لا تداعبها سوى المرئيات المهملة، الفاسدة، الراكدة، المتداعية، المؤسفة، المختبئة والمتراجعة، يريك بندم وبيدين راجفتين لقيته، وهناك تواطؤ ضمني بينكما: هو يعرف أنك ترى ما لا يراه، وأنت تعرف أنه يرى ما لا تراه، على الرغم من أنكما تنظران الى الشيء ذاته. ولكن، هل تصدق هذه الكذبة؟ إنما يخدعك الرسام بإمهال بصيرتك حتى تصحو، وإذا طال نومها، فإنه يغلفكما بإهماله. كلامه القديم بصدد التلقي، خبرة واعادة صياغة وابتكار نوع حياة، يلقيه الآن، لكن كمن يحاول أن يتذكر أغنية قديمة، شطب النسيان جزءاً من كلماتها. لم يبق صامداً إلا الدعاء الذي يلقيه بلعثمة. الآن، بعد أكثر من خمسين سنة من الرسم أو من مفارقته، هو الآن أشبه بلقاه المهدمة. الجزء الغاطس منه يوحي، لكن بألم، وأسى شفيف. كل حروبه كانت سرية، إلا حرباً واحدة كانت معلنة: حربه على الرسم انحيازاً ل"اللارسم". لكن، أين يكمن الوعد؟ في الحرية التي تفلت لشدة افراط، أم في الجمال الذي يتصيده اليقين. هناك مكيدة صنعها هذا الرسام، من أجل أن يكون رساماً بامتياز تخليه عن الرسم. وهو في ذلك لا ينشد التفرد، فحسب، بل الفرار أيضاً. فما يضمه يثنيه عن عزمه، على الرغم من أن فكرة الزعامة الفنية ظلت هاجسه الملح منذ لحظة وقوفه، قارئاً للبيان المتمرد الذي كتبه لجماعة بغداد للفن الحديث عام 1952. الأمر الذي دفعه الى التمسك طوال ثلاثة عقود بتجمع وهمي اسمه البعد الواحد. كان مؤسسه وزعيمه وعضوه الثابت الوحيد. أما الأعضاء الآخرون فكانوا نزلاء عرباته المتحركة. وبهذا ضمن آل سعيد شرطيّ فراره: تجميعاً لا يضم أحداً سواه، ومفهوماً فنياً مفتوحاً يستجيب لكل تحول من تحولاته. كان البعد الواحد شاكر حسن آل سعيد بكل تحولات قلقه الوجودي وذرائعيته. مؤسسته الخيالية التي يهدد بها طواحين الهواء، كما لو أنه دون كيخوته آخر القرن. إذ ينقل خطواته ببطء، حيرته تمشي به، ومعه. مستسلماً لها ينبئك بالواقعة الأشد يأساً" "لم يعد بإمكاني أن أرسم". غرناطته، لم يعد فضاؤها في متناول عينيه. عبدالله الصغير هذا، شيخ الرسامين العرب بامتياز حداثته، يعترف بتكتم بأن جسده لم يعد مؤهلاً لاكتساب عادات الرسام، الذي صار يمتحنه ذهنياً. "هذا المقيم في رأسي" تصلك شكواه بصوت، تعبه يشي بتخاذله. ما فعله بالرسم يرتد عليه بتهكم مرير. قبله كان الرسم نعمة جسد وخيلاء بصرية، معه صار تيار الجماليات يباشر نزهته الخلوية في مناطق لا ترى بالعين المجردة. شساعتها لا تلين، غموضها المرح لا يستعرض وضوحه إلا من خلال علم الجفر، أرقاماً وحروفاً، قراءتها تستر أكثر مما تكشف، وهكذا غابت اللوحة بعد أن أقامت معجزتها على فكرة غياب الرسام، المكيدة هنا اكتملت دورتها. والغياب صار كلياً. ومع ذلك فإن آل سعيد يتماهى مع هذا الغياب، ولا ينكره، بل أراه يسترسل فيه كما كان يفعل مع حضوره، والفرق، أنه، اليوم أشد صمتاً مما كان عليه في أي يوم من حياته التي ملأها صخباً استفهامياً، هل يتذكر شيئاً من بيانه التأملي الذي كتبه عام 1966 وهو الذي صار يشتكي من نسيانه مقاطع من صلواته اليومية؟ غير أنه في الوقت نفسه يستأنف حديثاً انقطع بيننا قبل يومين، حقيقة أن النسيان هو ما ينبغي أن يتمرن الرسام عليه أكثر من أي شيء سواه، حتى التقنيات بإمكان النسيان أن يوجهها. لكن، أن يعترف الرسام بعجزه آزاء النسيان، ذلك قدر مختلف. في ما مضى كان لا يهمه أن يتثبت من قدرة لوحاته على مقاومة الزمن بكل تحولاته العدوانية، بل انه كان يستجيب للزوال بما يستعمل من مواد قابلة للتلف السريع. ورق أشبه بورق الصحف وأصباغ مصنوعة من مواد كيمائية، أخشاب منخورة، كان كمن يمنح الزوال غداء. "كل من عليها فان"، واللوحات لن تطعم ذكرى ولن تستأنف ألماً راحلاً، ولأنه يرى الرسم منفى مرتجلاً، فإن فراره الى الكتابة كان بمثابة العودة الى البيت، في كل أسفاره كان يؤجل فعل الرسم ويكتب دفاتر كاملة، يتحاشى الكتابة عن الفن، يكتب فراره الى اللاشيء، الى ما لا يرى، ما لا يلمس، تبلغه الجمل بلا كلمات، يعبئها، كما يفعل صانع العطور الذي يكتشف فجأة أن أمامه قنينة ما تزال فارغة. موسيقى الكلام هي التي تعطيه جرأة تفكيك الكلمات. كتبه، يترك نسخاً مصورة منها في المدينة التي كتبت فيها، وبسببها، ألم تكتب هذه المرة...؟ ينظر إليّ بإهمال، ويقول: "انني أصلي". قطع عليّ الطريق. غير أن حزنه وشروده وصرامته وعزوفه، كل ذلك لم يكن مبعث تسلية بالنسبة لي. لأول مرة، منذ بدء صداقتنا منذ أكثر من عشرين سنة يفرض آل سعيد على نفسه وعليّ جواً من الحداد. لقد كان افتراضي القديم صحيحاً إذاً، فما دام هذا الرسام قادراً على اللعب وراغباً فيه فإن إقباله على الرسم والكتابة لا حدود له. أخشى أن أقول أنه طوال خمسين سنة من الوجود الخلافي كان يتسلى ويلعب، لا يتكلم: تعليقاً، لا يفقه أميته ازاء ما يلقى أمامه من أحاديث مازحة. يتذكر بارتباك واضح جمله الغامضة ويسعى الى تركيب مقطع كلامي منها، يفشل فيذهب الى مقولاته المطلقة كالسهم، وهي مقولات مستعادة من غيابه الجلي. تذكره بمرحلة من مراحل تطور أسلوبه، فيرد عليك: "كنت كذلك". مؤكداً على هذه أو "كنتُ". وهو كمن يستعرض تعافيه، لقد شفى من الرسم والكتابة معاً. يتماهى مع خفائه، فلا تراه في ما يرسم ولا تسمعه في ما يقول. هو اخر، ضل طريقه ووصل الينا متذرعاً بسلامه. موقفه السلبي الناعم، حيث يسعى وراء تخليه. "كنت كذلك". الماضي يوتّره ولا تسليه الذكرى. بلغة نادمة تغلب عليها اللعثمات يوجه خطابه الى ذلك الآخر من خلالنا، الآخر الذي يعنينا، والذي يكاد أن يمحى. الرسوم تذكرنا به. هو الآن، إذاً، لا يليق به سوى السكن في المتاحف، هناك غوايته أو قل غواياته الكثيرة ما تزال ممكنة. بغدادياته المقنّعة بنحيب القرى، جدرانه الممعنة في تآكلها، حروفه التي تفر من مصيرها البلاغي. أوفاقه التي تمتحن سحرها من جهة فقرها. اشاراته العابرة التي تصر على أن تمكث في معنى زوالها. هو الآن اخر، اخر لا يرى من ماضيه إلا أوهاماً، ولذلك فإنه لا يرغب في أن تنظر الى الجهة التي ينظر اليها، ولا يكفيه أن يهملك خارج محارقه المغلقة. كانت رسومه دائماً مرآة لتحولاته الروحية. انها تدل عليه، ففي التسعينات، وقد اختلطت الحقائق، لجأ الى اللوحة المزدوجة. اللوحة التي ترى من جهتين متقابلتين. كان الضوء عنصراً أساساً في تشكيل هذه اللوحة. فعن طريقة تختلط تكوينات سطحين، الوجه والقفا، هذه الحيلة أنهت مفهوم السطح المرسوم، وأعادت لفعل المشاهدة مكانته المستقلة عن النظر المباشر. فهو يختص الآن بما هو خفي أيضاً، بعدها، صار آل سعيد يؤلف لوحاته من سطحين أو ثلاثة. يكشف كل سطح عن أجزاء من السطح الذي يقع تحته ويخفي أجزاء أخرى. وقد أطلق على تجربته هذه تسمية المتواليات وكان المتلقي آزاء هذه التجربة يشعر بعدم اكتمال تناوله البصري بسبب فشله في الوصول الى الأجزاء المخفية من العمل الفني، والآن، ماذا بقي بعد كل هذا اللعب الصارم والمحكم؟ "لأن جسمي لا يقوى على مشاركتي، صرتُ أرسم وأكتب في الحلم". يقولها ساهماً، وكأنه يتلو جملة يراها ماثلة في الهواء أمام عينيه نصف المغمضتين. في الدوحة، كان ضيفاً شبحياً، خفته ذاتها ما تزال ترافقه، غير أنها هذه المرة، خفة صامتة. هي خفة انطواء وعزلة. الرجل الذي كان يقلقه وضوح أفكاره ولا يخفي انزعاجه إذا ما رأى على وجوه الآخرين علامة تدل على إدراكهم نياته إذ كان غموضه جارحاً كما الدبابيس على ظهر القنفذ، هذا الرجل ذاته يبدو اليوم ملتهماً، خفياً، لا يرى منه إلا كياناً عضوياً هزيلاً، لا ينتظر البلاهة أو الدهشة في عيون الآخرين، بل لا يستغرقه النظر إلا للحظات ليعود بعدها ساكناً الى أعماقه. كان آل سعيد قد قطع صلة الرسم بأي أصل تصويري، مع أنه لم ينفِ إلا ضمنياً صلة رسومه بأصول مرسومة، مثال ذلك صلته الملتبسة بالإسباني تابيس، غير أن مفهوم التنصيص وقد استهواه وفر له حيلة الدفاع عن أفعاله. فرسومه التي هي تنصيص على نص ليست مدينة له إلا بمقدار ما يكون هذا النص مديناً للنص الذي سبقه. وهكذا يقودنا الى متاهة، رجاؤه الوحيد فيها أن ليس هناك وجود لنص أصلي. وها هو اليوم في رسوم الدوحة يستعيد رسومه السابقة لينصص عليها، بحثاً عما فلت منه من شرارات الجمال وحورياته.