غريب حال المثقف العراقي. ما لم يكن يفعله في رخاء أيامه، صار يفعله في أعظم أيامه عسراً. وما كان عزيزاً عليه يوم كان العالم كله بشرقه وغربه مفتوحاً عليه، واضعاً تقنياته بين يديه، صار اليوم يسيراً وان بأكثر التقنيات بدائية. فامتلاك التقنية صار اليوم تهمة يحتاج العراقي، أي عراقي، الى عشرات السنين لكي ينال قرار براءة نياته ازاءها. جريدة بثماني صفحات، صدرت حديثاً، هي التي جعلتني أقف عند لحظة المفارقة الغريبة هذه. "علامات" هي حدث الشارع الثقافي، ليس لأنها أول جريدة من نوعها في تأريخ الثقافة العراقية فحسب، بل لأنها تمثل حدثاً. فرادته تكمن في نوع المسؤولية المستحدثة التي تقع على عاتق المثقف العراقي، أول مرة، بمثل هذا الوضوح والدقة، أيضاً ف"علامات" هذه هي جريدة، نصف شهرية، مستقلة، تعنى بشؤون الثقافة العراقية وبالأخص الأدب. مغامرة جديدة من نوعها، لكنها تظهر ثقة عظيمة بقارىء متخيل، صار المثقفون العراقيون ينظرون اليه من جهة الاحباط. وكان ذلك أول تنويعات معادلتهم المعترضة، أما أهمها فقد انصب على رأس مديرها، الذي هو خضير ميري. حيث زعم البعض أنه يمثل اختياراً خاطئاً، في حين اعتبره البعض الآخر نكرة في حياة الثقافة العراقية شارحين أوهامه وما خالط سلوكه الشخصي من تنقلات مريبة خارج الثقافة، والحقيقة، فإن ميري هذا كان قد كتب ونشر عدداً من المقالات الغامضة في الصحافة العراقية، يدخل معظمها في نطاق فلسفة الأدب. وعلى المستوى الشخصي، فإن شخصيته محيّرة حقاً، ذلك لأنها خليط من الفلاسفة الجدد وراسبوتين. وهو ما انعكس نسبياً على طبيعة العدد الأول من الجريدة، حيث الاستفزاز لا يرافقه التشنج، وحيث الرضا يخفي نوعاً من الاستدعاء والترغيب. ومع ذلك ف"علامات" التي يرأس تحريرها فاروق سلوم لم تخفِ انحيازها الى جيل الشعراء الجدد، حيث قدمت لقاءين منفصلين مع اثنين من صانعي الحال الشعري في العراق بكل تناقضاته: الأول، عبد الزهرة زكي، الذي يظهر أساه لما أصاب الحداثة الشعرية العربية من ترهل وركود وانكسار. والثاني: رعد بندر، الذي يكتب وفق الشكل العروضي التقليدي، ولم يكن هذا اللقاء إلا جزءاً عرضياً من حملة هذا الشاعر الانتخابية، لكن بما يخدم اغراض الجريدة: إظهار وفضح عيوب الانتخابات القادمة للهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء في العراق، وبندر ليس غريباً عن هذه المعارك، لقد خاضها منتصراً، في وقت سابق، حيث استطاع أن يترأس اتحاد الأدباء في العراق لدورتين، وهو الوحيد من بين الأدباء الرسميين من نال حظوة اللقاء بشاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري في خواتم حياته، والجواهري كما هو معروف ظل رئيساً رمزياً لاتحاد الأدباء ما دام حياً. وهذا ما انتهت اليه إحدى الصولات الانتخابية لهذا الاتحاد. معركة الانتخابات، اليوم لا تشغل أحداً سوى المرشحين، ذلك لأن الأداء الانتخابي لم تتضح صورته بعد. فمن مرشح الاتجاه الايدلوجي السائد الى مرشح السوق بكل تحولاتها السريعة، حيث يتدخل سعر صرف الدينار العراقي بقيمة وأهمية الصوت الانتخابي، يبدو طبيعياً أن ينسحب الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد، الذي كان قد راهن على تاريخه الشعري الطويل وعلاقاته الودية بالأدباء. وان يتردد صدى المندهش، الحائر، في سلوك رعد بندر المصرّ على المضي وسط فضاء تكهرّبه الإيدلوجيا من جهة ويرطبه المال من جهة أخرى. حيث يتقابل هاني وهيب الكاتب السياسي بالشاعر لؤي حقي المزوّد بخبرة التاجر. أظن، أن الشعراء الجدد هم الذين سيقررون الى أية كفة سيميل الميزان. وقد يخذلون الجميع في واحدة من نزواتهم المتوقعة. وهذا ما يشعر المرشحون ازاءه بالخوف الحقيقي، وحين أقول الشعراء فأنا أعني ما أقول. ذلك لأنهم، عددياً، يمثلون أكثر من 90 في المئة من نسبة المشاركين في الانتخابات هذه، نسبتهم هذه ظهرت بشكل جلي في لقاء الأجيال. وهو لقاء خططوا من خلاله للايقاع بشعراء جيل الستينات، الأمر الذي انتبه اليه غير شاعر منهم، فلم يلبِّ الدعوة إلا شاعر واحد هو: خالد علي مصطفى، كان هذا الشاعر الستيني هو الوحيد الذي لم تخفه دعوة غامضة وجهها شعراء عراة من أية سلطة، سوى سلطة الشعر، وهي سلطة وهم، ولقد اكسبه حضوره بطولة استثنائية، فبعد أن قرأ شعراً، وأنصت الى شعر، قال رأيه بصراحته الجارحة المعهودة، فخالد علي مصطفى هذا الإنسان الفلسطيني، الذي لا يمكن سوى اعتباره شاعراً عراقياً، ذلك لأن جزءاً مهماً من تقنيات قصيدة الستينات في العراق كان من اختراعه، وكان واحداً من أهم منظمي اتجاه ما بعد الحداثة الأولى في العراق، كان وما يزال يرى الشعر معهوداً في لحظة لقاء عصية بين كلاسيكية نقية وحداثة متمردة. ولهذا فإنه لم يتردد في الحضور ولم يكن خائفاً. وهو لا ينظر باستخفاف الى أي حدث من هذا النوع. على الرغم من ان شعوره بالاحباط واليأس هو أكبر من الشعور المشابه لدى الشعراء الهاربين أو الممتنعين عن حضور هذا اللقاء. الذي اعاد الى الأذهان لقاء 1978 الذي أطلق شرارة الشعر السبعيني والذي كان خالد علي مصطفى واحداً من أهم نجومه أيضاً. وعلى الرغم من أن لقاء الأجيال لم يحقق مهمته في اصطياد الشعراء الستينيين بسبب امتناعهم عن المشاركة فيه، غير أنه أعاد صياغة ظاهرة الشعر على المستوى النقدي والجماهيري. لقد جلس الجمهور ساعات وهو يستمع الى الشعر نثراً، والى النقد وهو يسعى الى ارتجال قراءة مختلفة للشعر. وهذا هو ما يتمناه شعراء الموجة الجديدة، حدثاً محيّراً ومرتبكاً يرافق ظهورهم الاستعراضي. سالم الدباغ، المقاوم من جهة عصيانه ينحدر الرسام سالم الدباغ في معرضه قاعة بغداد الى جمهوره بغموض غاياته الجملية، هذا الغموض الذي يشكل لحظة خلافية تتجدد باستمرار مع كل عرض جديد من عروضه. فهذا الرسام الممعن في تجريديته يدرك ان جمهوره قلة. وهي قلة مظلومة تتلاعب بأهوائها تجريدية ذات أفق لوني تزييني وهي ذات منحى تجاري وتجريدية أخرى، يطغى عليها الزخرف المنشد الى ايقاعات الحرف العربي، وهي ذات منحى عاطفي متحذلق - والتجريديتان صارت اليوم غذاء العامة. لذلك فأن الدباغ في معرضه الحالي انما يستأنف سيرته العابسة، تجريدياً محضاً، يبحث عن مصير مختلف وسط ثقافة تسعى هي الأخرى، وفي وقت عصيب من أوقاتها، الى الهروب من قدرها التعبيري. سالم الدباغ 1941 وهو أول من عرض لوحة تجريدية متكاملة في العراق، عبّر أكثر من سواه من الرسامين عن اخلاصه لجماليات البعد الروحي الذي يستمد منه التجريد قوته. هذه الجماليات، هي اليوم، مصدر حساسية تعصى على الوصف. لا لأن آثارها لا ترى مباشرة، بل لأنها تتجاوز بشحناتها المتوترة النظر المباشر لتقيم صلة جوانية، دفينة، بالروح. لذلك فإن رسوم الدباغ غالباً ما تتحاشى الايقاعية المظهرية، بل هي أحياناً لا تقيم وزناً للتوازن المظهري في العلاقات الشكلية، بل تسعى الى هدمه، والاستخفاف به، بطريقة لا يثلمها التشنج. هذه الطريقة التي تكشف عن خيار جمالي يرى في الايقاع مفسدة لشروط حياته. تقشف مظهري يقابله بذخ عال في الحساسية. بين هذين القطبين المتقابلين ولا أقول المتنافرين، يحرّك سالم الدباغ تفاصيل عالمه. الذي هو عالم سريرته الغامضة، التي يزيدها الرسم غموضاً. غير أنه غموض آسر ومريح. ذلك لأنه يحقق مرتجىً روحياً. وبذلك يكون الرسم اشبه بالدعاء، الذي لا يزيده الاطناب في الكلام الا بعداً عن الرجاء. ضجر سالم الدباغ من النظر المباشر الى العالم دفع به الى التمسك بالنظر الى أعماق روحه، حيث ترقد خشبة خلاصه. هناك شوق دفين الى التماهي مع أي خط يتلاشى، يفنى، أو يضيع. هناك نوع من الانعتاق من رغبة التبرج. فمن ينظر الى رسوم سالم الدباغ لا يرى الا فضاء روح يضيئها الشك: شك بقدرتها على ان تصل الى ما تبتغيه، وشك في أن يكون العالم بنسيجه المرئي قد اخترع سكينته. خيار لا مرئي، صامت، هو المسؤول عن صياغة جماليات الرسم لدى هذا الرسام، درس الدباغ الرسم في بغداد ولشبونة والقاهرة. وكان عضواً مؤسساً في جماعة المجددين أولى الجماعات الفنية في الستينات. ما يزال ومنذ أكثر من ربع قرن يدرّس فن الكرافيك في معهد الفنون الجميلة ببغداد. وقد تتلمذ على يديه عدد من أهم محترفي هذا الفن، حتى أن احدهم وهو عمار سلمان، المقيم الآن في السويد، قد نال الجائزة الأولى في بينال النرويج لفن الكرافيك في احدى دوراته. والأهم في سيرة هذا الفنان حرصه الشديد على حرية فنه واستقلاله. على رغم كل الضغوط الاستثنائية التي يتعرض لها الفنان في بلد عصفت بثقافته رياح الطبقات الجديدة التي يكمن سر ثرائها في فقرها الروحي. هذا الرسام بتجريديته الصارمة، المتشدد ضد أية نزعة تزينيية، المناوىء لأي تراجع بازاء ذائقة الجمهور، إنما يشكل وجوده الآن في العراق علامة مقاومة، لا بد أن يكون لها موقعها المميز في ذاكرة شعب تتعرض قيمه الثقافية، كل لحظة، لعصف جديد. وهكذا، يكون هذا الرسام، الممتنع عن أداء دور الشاهد، شاهداً مشاركاً في صنع التأريخ من نوع مختلف. مسيو مارتينيز - شكراً ما ان افتتح المركز الثقافي الفرنسي، حتى شعر المثقفون العراقيون: أن الفرنسيين قادمون أولاً. علناً، اختاروا الثقافة. أما ما خفي من الاتصالات والاتفاقيات والعلاقات فهو أمر لا يهم المثقفين. جيرار مارتنيز مدير هذا المركز، اختير بعناية. ذلك لأنه خبير بثقافة العراقيين. لا لأنه درسها اكاديمياً، بل لأنه، بحكم الصدفة، صنع مقياساً لها وهي في المنفى. وكان واحداً من رعاتها. كيف؟ من خلال عمله السابق في المركز الثقافي الفرنسي بعمان الأردن اتيحت لمارتنيز هذا فرصة التعرف على غير رسام عراقي وكان بحساسية المثقف فيه، كمن عثر على كنز. وكانت حماسته هذه، وراء اقامة عروض تشكيلية عراقية عديدة تقف في مقدمتها معارض: شاكر حسن ال سعيد وسامر اسامة ونديم محسن. وهناك عرض نحتي غريب احتضنه المركز المذكور لا لشيء الا لغرابة فكرته، وكان منشىء هذه الفكرة نحات عراقي شاب، يقيم الآن في هولندا، هو محمد حسين عبدالله. وقد تمحور هذا العرض حول فكرة الجسد النحتي مغلفاً برسوم رسامين متباعدين في الأساليب والرؤى. إذن، جاء مارتنيز الى بغداد محملاً بخبرة من نوع خاص، استمدها من ثقافة، هي في جزء كبير منها ثقافة منفى. غير انها هيأته لمعرفة نوع الجمهور الذي خاطبته أو نشأت في حاضنته، لهذا فقد جاءت نشاطات المركز الثقافي الذي يديره في بغداد على شكل ضربات متلاحقة، متعددة الأوجه: سينمائياً وموسيقياً وتشكيلياً. فلا يخلو شهر من نشاط فرنسي مميّز ثقافياً تزحف اليه النخبة الثقافية وهي تشعر بالامتنان: اسبوع لأفلام جان مورو. وأسبوع سينمائي آخر للمرأة في السينما الفرنسية. تألقت فيه كاترين دينوف والراحلة رومي شنايدر. وهناك فرق موسيقية خفيفة الوطىء، مرحة الحضور، لوّنت بأنغامها وايقاعاتها المختلفة جدران الصالات البغدادية. البساط السحري هو اخر هذه النشاطات. وهو معرض تشكيلي، لكن من جهة غير متوقعة. فهو معرض لا يضم لوحة أو نحتاً أو قطعة خزف أو مخططات عمارة، انه يعرض بسطاً جمع بساط ولكن، أية بُسط؟ انها صور مصنوعة بالنسيج عن لوحات رسامين فرنسيين وعرب مثل شفيق عبود، محجوب بن بيلا، سلمى جريز، محمد قاسمي، جان - ميشيل البيرولا، بيير بوراليو، جيرار جاروست، اسماعيل فتاح