اذا جاز ان نتحدث عن بداية حلبية في السينما السورية، وعن مساهمة ابناء حلب في هذه السينما، تأليفاً واخراجاً وتمثيلاً وانتاجاً وصالات عرض، فالى أي حد ممكن القول بوجود سينما حلبية؟ نطرح هذا السؤال بين يدي ندوة "السينما في حلب" التي نظمتها مديرية الثقافة بين 19 و23 نيسان ابريل الماضي. شهدت التظاهرة عروضاً لأفلام خمسة، ومناقشات تجاوزت الافلام المعروضة، والمحاور المحددة، لتتناول اشكاليات السينما السورية عموماً، وأزمتها وواقعها والحلول المقترحة. وكان عدد الحضور اكبر من مستوى المشاركة والمناقشات التي خاضها عدد من الكتاب والفنانين البارزين. ففيما رأينا صالة المركز الثقافي العربي تكتظ بالمشاهدين، كنا نشعر بالخذلان من المستوى المتدني للمناقشات المشتتة وغير المركزة، وبسبب وقوفها عند العموميات غالباً، او المعلومات التاريخية والوثائقية اكثر من الاهتمام بالعناصر الجمالية، وخصوصاً في مناقشة فيلم "تحت سماء دمشق" للمخرج اسماعيل أنزور، من انتاج شركة "هليوس فيلم" التي أسسها رشيد جلال مع عدد من الأثرياء، بعد اختلافه مع "حرمون فيلم"، عام 1931. ومع ان الكثيرين ممن كتبوا عن بدايات السينما السورية اعتبروا "المتهم البريء" الفيلم الأول 1928، فان هذا الفيلم جاء - حسب ما يروي مخرجه وكاتبه والممثل فيه، أيوب بدري - نتيجة تفكير بدري وأصحابه بصناعة فيلم من دون ان تكون لديه او لديهم اية مواهب او خبرة في السينما. وحسب هيثم حقي فان "الرائد الأول" للسينما في سورية شخص لا علاقة له بالفن على الاطلاق". كتاب "بين السينما والتلفزيون". وعليه يمكن القول ان فيلم انزور "تحت سماء دمشق" 1931 هو الأول عندما نأخذ في الاعتبار المستوى والجدية التي لا بد منها في النظر الى أي عمل فني، حتى لو كان من البدايات، اذ لا يمكن صرف النظر عن الحد الأدنى. "تحت سماء دمشق" فيلم صامت، تتحرك فيه شفاه الممثلين من دون ان نسمعهم، وبدلاً من ذلك نقرأ، بعد ان تمر الصورة، ما قاله واحدهم للآخر، مع ملاحظة اساسية هي ان الكثير من المشاهد لا تحتاج الى شرح او توضيح، ولهذا فان حجم النص المكتوب كان قليلاً ومكثفاً وشديد الاختزال. فمنذ البداية، كان في امكان المشاهد ان يتوقع ان والد صبحية يطلب منها أمراً ما يتجادلان بشأنه ثم تبدي موافقتها، فيتصل الأب الثري بالدكتور كانت ترد حيناً: الدقتوز، واحياناً اخرى: الدكتور الشاب ليبلغه ان ابنته وافقت على الخطوبة. ومنذ البداية يلفت انتباهنا هذا الاهتمام بالصورة، على رغم حركة الكاميرا البدائية ضمن التقنيات المتوفرة، وعلى رغم ان النسخة تعاني من تشوّهات بأثر الزمن، ثم نلتفت الى لغة سينمائية تتجاوز زمنها العربي وان لم ترقَ الى مستوى السينما العالمية آنذاك، لأنها لم تمتلك تقنياتها وامكاناتها. قصة الفيلم تعتمد بنية سردية تقليدية اذ تبدأ بقيام العلاقة والخطوبة بين صبحية والدكتور، ونرى العلاقة وهي تتطور، ثم يدخل عنصر غريب رجل يعمل على ابتزاز صبحية وتظل تدفع له، ويعلم الخطيب فيشك بخطيبته وينفصل عنها، الى ان يُقتل الرجل الذي نكتشف انه ليس سوى شقيق لصبحية، وهي ليست سوى بنت يتيمة وفقيرة تبناها الرجل الثري.. فيعود الدكتور الى خطيبته! تعالج القصة موضوع الغيرة عند الرجل والمرأة. فالدكتور يغار على خطيبته فينفصل عنها. والراقصة التي تحب علي شقيق صبحية تغار عليه من اخته لأنها تظن انه يخونها معها فتقتله. لكن هذه المعالجة تشتمل على رؤية الى فئة من المجتمع السوري في تلك المرحلة، فتنظر الى الأثرياء وقصورهم وسياراتهم وطبيعة حياتهم، وسهراتهم، والى الفقير الذي يتورط في علاقة مع راقصة. هذا على مستوى القصة المنطوقة. اما الكاميرا فتدور في احياء دمشق القديمة، وفي الكابريه وإبراز عالم الراقصات، وتنتقل الى قصر الأمير سعيد الجزائري وحديقته في دُمَّر، وتعود الى سكة حديد الحجاز وقطارها القديم، وسواها. ولا تتورع كاميرا المصوّر الايطالي جوردانو يتساءل هيثم حقي ان كان هو جوردانو بيدوني الذي يُنسب اليه اخراج الفيلم اللبناني الأول "مغامرات الياس الحبروك" 1929، لا تتورع عن اقتحام الغابات، والتوجه نحو السماء بتشكيلاتها الغيمية، والذهاب الى الطبيعة من زوايا عدة تظهر جمالياتها المختلفة. واذا كانت قصة الفيلم تنطوي على معالجة ساذجة من حيث البنية والرؤية والحبكة، فان العناصر الفنية الاخرى ليست ساذجة أبداً. بل ان التمثيل وأداء الممثلين جاء طبيعياً اكثر من المتوقع نسبة الى تلك المرحلة. وهناك ديكورات تتلاءم مع اجواء العمل وطبيعته: وتمنح تلك المسحة الرومانسية التي يحتاجها أداء الممثلين، هذا الأداء العفوي والمتّسم بحضور قدر من الحركة والتعبير بالوجه والأيدي. ان قراءة مدققة لجماليات الفيلم، ولرؤيته الاخراجية خصوصاً، تكشف عن رؤية متقدمة على صعيد اختيار الزوايا والكادرات وحجمها، وتشكيل المشهد عبر عملية تقطيع واعادة بناء وتركيب للقطات وللمشاهد ضمن سياق يتناغم مع السرد ولا يكتفي بمنطوق الحكاية، إذ تسعى العين الى التقاط عناصر الواقع برؤية اختزالية حيناً، ورمزية حيناً آخر. فهناك لقطات لناس على دراجات هوائية ولقطات لناس في سيارات فاخرة. وفي موازاة المشاهد التي تصور مشاعر الحبيبين، هناك تكرار لمشهد الطيور المتحابة على غصن الشجرة. وفي مقابل اللقطة الواسعة هناك اللقطة الضيقة. تطوف الكاميرا في المكان وتبرز تفاصيله حيناً، وتكتفي بنظرة بانورامية حيناً. وتظل تنتقل بين ساحة المرجة وشارع بغداد والغوطة ودُمَّر، فتعطينا صورة عن دمشق مطلع الثلاثينيات، صورة تشمل الكثير من مظاهر الحياة اليومية، لكنها لا تغرق في تفاصيلها. "تحت سماء دمشق" يفتح الطريق لسينما كان يمكن ان تكون متطورة لو ان الظروف سنحت لمتابعة هذه الخطوة. لكن الظروف التي أحاطت بالفيلم وانتاجه وعرضه لم تكن في مصلحته. فقد تزامن عرضه مع عرض فيلم مصري ناطق وغنائي يشترك في تمثيله ممثلات فرنسيات. فهل كان يمكن - كما يتساءل هيثم حقي "لفيلم صامت ان يصمد أمام هذا الفيلم انشودة الفؤاد المليء بالأغاني والحسناوات". وبعد شهرين من تعود الجمهور على الأفلام الناطقة في صالة العباسية، قام أصحاب الفيلم بإنتقاء اسطوانات موسيقى عربية يمكن ان تذاع مع الفيلم، لكن السلطات الفرنسية اوقفت عرض الفيلم بحجة ان صانعيه لم يدفعوا حقوق التأليف الموسيقي، وطالبتهم بدفع تعويضات، جعلت الفيلم يخسر حوالي ثلاثمة ليرة ذهبية عثمانية تقاسمها الشركاء بالتساوي. وانفض الشركاء المنتجون، وأصيب المخرج بالاحباط، فما عاد الى التصوير الا حين أسس مع رشيد جلال اول استوديو في الجيش. وأنجز اسماعيل انزور في الخمسينات عدداً من الأفلام الوثائقية للجيش. كان انزور، كما يروي المقرَّبون منه، شاباً مغامراً، فهو بعد ان درس الهندسة الزراعية في اسطنبول، سافر الى فيينا لدراسة الاخراج، وعمل مساعد مخرج مع التركي أرطغرل محسن. وبعد المصير الذي لقيه فيلمه، عاد ليعمل في الزراعة وتجارة الدواء. ثم التحق بالجيش الكلية الحربية في حمص عام 1946 وأصبح آمر فصيلة خيالة وشارك في معارك 1948 في فلسطين وفيها استشهد أخوه جواد. وكان اسماعيل انزور 1903 - 1981، يتكلم سبع لغات أهمها الألمانية والفرنسية والتركية.. الخ. سبق لوزارة الثقافة، عام 1978، ولمناسبة اليوبيل الذهبي للسينما السورية، تكريم عدد من الرواد، كان على رأسهم اسماعيل أنزور. وها هو التكريم الثاني يأتيه من مدينة حلب. وفي هذه المناسبة، قال نجله المخرج المعروف نجدة أنزور ان هذا التكريم يأتي في الوقت الذي بدأت الدراما السورية تشهد ثورة حقيقية تستلهم روح الرائد الأول اسماعيل انزور، وتسعى الى تحقيق ما لم يستطع تحقيقه آنذاك لأسباب موضوعية ترتبط بالظروف والامكانات. واعتبر نجدة البداية التي أطلقها والده مطلع الثلاثينيات المدرسة الأولى التي تعلم فيها كيف تكون الصورة قادرة على التعبير. وفي هذا العمل حافز كبير للجيل الجديد كي يقتدي بالرواد ويقدم أفضل ما لديه حتى ننقل أعمالنا الى المستوى العالمي. يذكر ان "تحت سماء دمشق" سيكون احد الأفلام السورية المشاركة في "مهرجان القارات الثلاث" في دورته المقبلة، بناء على مشاهدة مدير المهرجان فيليب غلادوف واختياره.