منذ سنوات اخذت تصعد في سماء الدراما العربية ظاهرة جديدة تجسدت في المخرج السوري نجدة اسماعيل انزور... ظاهرة قوامها الاساسي الاشتغال ضمن الحد الأعلى الذي يسمح للصورة ان تحتل موقعاً متقدماً في المشهد الدرامي، ولو على حساب عناصر اخرى. كان نجدة يعمل في رسم اللقطة كما يرسم الرسام لوحته، فيقدم الى المشاهد لقطة نظيفة، غنية بالألوان والحركة. ظل يندفع متوغلاً في هذا الاشتغال، اميناً لرؤيته ولرغبته في التجديد وفي تكسير الأطر التقليدية التي تملأ فضاء الدراما التلفزيونية العربية. خاض الكثير من المعارك الصغيرة هنا وهناك، لكنه ظل اميناً لأعماله ولطاقته الابداعية، ولم يلتفت كثيراً الى الاتهامات الجارحة التي انهالت، ولا تزال تنهال عليه، باسم عدم الواقعية حيناً، وعدم الالتزام بالقضايا الوطنية حيناً آخر. وكان ردّه الأساسي في تقديم المزيد من الأعمال التي تكرس رؤيته وترسخ نهجه الذي اصبح يشكل تياراً لا ينكر احد تأثيره في جيل من المخرجين العرب. ومهما اختلف بعضهم مع هذا النهج فان الغالبية تعترف له بمشروعية المحاولة والاجتهاد من اجل التغيير والتجديد، حتى وإن شابت مشروعه ثغرة هنا وخلل هناك، فما من عمل كامل يرضى عنه الجميع. في هذا الحوار الذي جرى وسط انهماك المخرج في تصوير ومونتاج المشاهد الاخيرة من "الكواسر"، ابتعدنا عن كل المماحكات والاتهامات، وشرعنا في الدخول الى عمق المشروع الذي يشكل هاجس وطموح المخرج المغامر الحالم بثورة على كل التقاليد، وتعرفنا الى العناصر الأساسية في مشروعه، والمحاور والمراحل والعلاقات التي يقوم عليها، وتشكل رؤيته، وتلقي الضوء على مسيرته. هنا نص الحوار الذي يظل في حاجة الى الغوص اعمق عبر حوارات أخرى: يرتكز عملك - الى حد كبير - على تأكيد دور الصورة وحضورها الطاغي على دور وحضور الكلمة. وفي زمن يزدحم بالقضايا والهموم، ويحتاج العربي الى من يوقظ وعيه على القضايا الأساسية.. كيف تبرر هذا الاهتمام بالصورة على حساب الكلمة؟ - الصورة ستحتل، في المستقبل، المركز الأول، وسيكون لها شأن كبير. أقول ذلك وأنا أرى الصورة الآن تلقى كل هذا الاهتمام الواسع والمتابعة الدقيقة، وكذلك القدرة الهائلة على التوصيل. انظر الآن الى نشرات الاخبار، ولاحظ حجم الدور المعطى للصورة، ستجد ان الصورة تحتل حيزاً كبيراً، وتجد ان صورة واحدة تغني عن كمية كبيرة من الكلمات، ويستطيع المشاهد ان يستوعب الرسالة التي تحملها. وفي عالم الاتصالات اليوم تستطيع ملاحظة دور الصورة. لم يعد ثمة مجال للخطابات والشعارات. الجمهور لم يعد يرضى بذلك. هل تعتقد انه سيأتي يوم ينتهي فيه دور الكلمة وضرورتها؟ - لا شيء ينتهي. ستظل هناك حاجة الى الكلمة المكثفة العميقة. سيتقلص دورها لمصلحة اتساع مساحة الصورة، وسيكون من الواجب اختزال الكلام وتخليصه من الزوائد ليكون نقياً وواضحاً ومقتضباً، وبتعابير ذات تركيز عال. لا داعي للحوارات الطويلة. الجمهور تعب من هذا النمط من الأعمال. جماليات الكادر ثمة من يرى انك تفصل في عملك الشكل عن المضمون، وتستخدم الجماليات من دون مبرر؟ - ليس صحيحاً... فالتشكيل والحس الجمالي عندي جزء من العملية الفنية، ولا تأتي على حساب المضمون. والكادر جميل لأنه يجب ان يكون جميلاً، سواء اكان منسجماً مع الموضوع ام لم يكن. في البداية كنت اهتم بالجماليات كإضافة الى العمل، اما الآن فقد صارت التشكيلات الجمالية جزءاً من العمل. لا استطيع ان اصنع لقطة غير جميلة أو غير مرسومة بدقة. المسألة ترتبط بالأسلوب. كيف يمكن توظيف الجماليات هذه في خدمة العمل، وكيف ترسم العلاقة بينها والموضوع؟ - لا أرى فصلاً بين الأمرين. الكادر الجميل هو جزء من الموضوع وليس خارجاً عنه. هذا هو التوظيف الصحيح للرؤية الفنية والتشكيلية، وهنا تكمن الثورة على الاشكال التقليدية. وأكبر دليل على نجاح هذا الاسلوب هو ما تراه من تقليد لأسلوبي في اعمال الكثيرين. ماذا يعني هذا التقليد؟ هل يمنح شعوراً سلبياً ام ايجابياً؟ انا أشعر انه نجح فقلدوه. هل تعتقد انك تؤسس مدرسة جديدة في الدراما؟ - ربما، فقد عملت مطوّلا في وضع الأساسات لأسلوب ورؤية خاصين، وماض في هذا الاتجاه، ولا بد من المتابعة. طبعاً... الأمر يتعلق بظروف العمل اولاً، وبطريقة ادارتي لمشروعي ثانياً، وبتعامل المنتجين واستيعابهم وتفهمهم لما نقوم به ثالثاً، ولكنه يتعلق - اساساً - في متابعة ودعم المشاهدين لهذه الأعمال. فإذا ظل الجمهور معي... اعني مع أعمالي، فسأظل اتخطى الحواجز والعقبات والمتاعب لتقديم الأفضل ولتطوير عملي. في اي اتجاه تسعى الآن لتطوير هذا المشروع، وكيف؟ - أحاول ذلك من خلال اختيار وانتقاء المواضيع التي تلائم رؤيتي. الموضوع الذي يعتمد - كلياً - على الحوار لا يلائم مشروعي. لنتوقف عند تعيينك لهذا المشروع، بدءاً من اختيار النص والممثل حتى الانجاز؟ - بدءاً، لم اضع هذا المشروع في نقاط ولم اطرحه على أحد. ما زلت اعمل ضمن رؤية ديكتاتورية الى عملي. لا استطيع ان اطلع عليه وأشرك فيه الا من لديه اضافة حقيقية اليه. انني في مرحلة اثبات الوجود، وهناك عناصر ضرورية للعمل. من العناصر الفذة والمؤثرة في هذا المشروع احمد معلاّ مهندس الديكور، فهو استطاع ان يدرك ابعاد بحثي، وراح يعمل في الاتجاه نفسه، فاستطاع ان يجسد رؤيتي من خلال تصميم الديكور الملائم للموقع، خصوصاً في تصميم بيوت ذات هوية مميزة تلائم المكان - الطبيعة والقبيلة... وهنا اود الاشارة الى اننا سنترك هذه البيوت في الموقع الذي سيحمل اسم الكواسر، وليصبح موقعاً سياحياً مفتوحاً امام الناس، بهدف خلق ذاكرة للأعمال التلفزيونية. وقد بدأ الاهتمام بهذا الامر حين اطلقت محافظة اللاذقية اسم "الجوارح" على المنطقة التي جرى تصوير المسلسل فيها. كما تحوّل موقع تصوير "نهاية رجل شجاع" الى موقع سياحي ايضاً.. أين تجد موقعاً معروفاً بأنه موقع تصوير مسلسل عربي؟ ولماذا اعمالي أنا؟ السبب هو في ارتباط اعمالي بالبيئة، ولتجسيدها الواقع الجميل الذي يعيش كحلم داخل كل منا. حين يأتي الناس لمشاهدة هذه المواقع، سيحبون المكان اكثر. سيرون كم هي جميلة بلادنا. لهذا المشروع - كما ترى - بعد وطني يقوم بتعميق حس الانتماء الى الأرض والوطن. انه اعادة بناء - خارج الايديولوجيا - لتمسّك الاجيال الجديدة بالأرض من خلال هذه الصورة الجديدة. أهذا هو البعد الوطني للمشروع؟ - نعم. وهذا يؤكد حضور المكان في اعمالي، وعملي هو الوحيد - بين الأعمال الدرامية - الذي فيه مكان. مكان غير محدد، لزمان غير معيّن؟ - بالضبط، لأنه يعني الوطن كله، وطننا كلنا. وكذلك الزمان، فأنا حين اشتغل على زمن مفترض، فانني اعمل على احيائه ليس كفترة تاريخية محددة، بل كقيم يمكن اسقاطها على الماضي والحاضر والمستقبل. ليس الزمان ولا المكان ما يشغلك اذن، بل القيم...؟ - مهم أن تعمل داخل الزمان والمكان، فمن يعمل خارجها لا يكون موجوداً او فاعلاً. انا اسعى الى تقديم قضية تهم الناس، ورفع مستوى ذائقة المشاهدة الذائقة البصرية والتلقي. وأنت تعلم انه عندما يعرض لي مسلسل فانه يفرض ما يشبه حظر التجول، لماذا؟ لأنني أقدم افضل ما لدي ضمن حدود الممكن والظروف، وحتى اظل على اتصال مع الجمهور كي نصعد السلم معاً، درجة درجة. كيف ترى الى ما انجزته حتى الآن؟ - بصراحة، لم اكن اعتقد انني يمكن ان انجز هذا الانجاز في هذه الفترة القصيرة. فخلال سنوات قليلة صارت لديّ اساسات متينة. وما ساعدني في الأساس هو تقبل الناس لأعمالي. لذلك لم اعد اخشى المنتج او المحطة. فثمة جمهور ينتظر العمل ويحبه. ولو اخذنا "الكواسر" الذي جاء بعد "الجوارح" بأربع سنوات... فتجد - حتى في رأي الناس - ان "الكواسر" افضل ومتطور عن "الجوارح". ما الجديد فيه؟ - الجديد هو في المزيد من احترام عقل المشاهد. لقد بدأت اعطي اهتماماً اكبر لعمليات المونتاج. وفي رأيي ان هذه العمليات اهم ما في العمل. والمخرج الذي ليست لديه موهبة التوليف، أو لا يملك هذه الموهبة في اثناء التصوير، لا يستطيع تقديم جديد. يمكنك تصوير مخرج يصور مشاهد ولا يستطيع توليفها. لذا، اعتقد ان توليفة "الكواسر" هي الارقى. ثم انني بدأت - هنا - اتخلص من عناصر الابهار الشكلي كالألوان الصارخة، واستبدلت بها الألوان الشفيفة. والطبيعة هنا صارت جزءاً من المناخ والمشهد. هذا على صعيد التقنيات والشكل، اما الموضوع، فهل هو نفسه؟ - تقريباً. الموضوع الأساسي عندي هو الانسان، والعلاقات الانسانية... والدرامية طبعاً. ثمة تركيز على بساطة الخطاب الموجه الى الناس وكثافته. العمل الذي يعتمد الصعوبة والتنظير... عمل نخبة لا يصل الى الناس، ولا يعيش طويلاً. ما يعيش هو ما يحسّه المشاهد، من دون حاجة الى ادامة التفكير. ذاكرة بصرية دعنا نعود الى مصادر تشكيل ذاكرتك البصرية و... فيلم "تحت سماء دمشق" الصامت الذي انجزه والدك اسماعيل انزور في الثلاثينات. وما تأثيره عليك؟ - أولاً، عرفت السينما منذ وقت مبكر. كنت اذهب يومياً لمشاهدة الأفلام. كانت السينما هي تسليتنا الوحيدة تقريباً. اما عن فيلم والدي، فقد كان تأثيره فيّ كبيراً، وربما كان الأساس في رسم توجهاتي. لقد جاء هذا الفيلم في الثلاثينات ليوصل قضية. وعلى مدى ساعة ونصف الساعة تستطيع ان تشاهد - بلا أي كلمة - صوراً تحتشد بالجماليات التي ليس من السهل الوصول اليها حتى الآن. كان عليه ان يحمّل الصورة كل المعاني والأفكار... بمساعدة الموسيقى وحوار الصور الصامت. من هنا، بدأت أتلمس خطاي، وجئت الى العمل التلفزيوني محتشداً بمخزون بصري هائل. وكان اول عمل "نزهة على الرمال" يعتمد على الصورة، فلم يجرؤ على انتاجه سوى أنا والمركز العربي في عمان. وحصد جائزة النخلة البرونزية في مهرجان بغداد العالمي للأعمال التلفزيونية. وفي المهرجان نفسه حصد "المناهل" جائزة التصوير على اغنيتين قمت أنا بتصويرهما. لاحظت اهمية الصورة... فبدأت التركيز عليها. ثم بدأت ادخل التصوير الخارجي على حساب تصوير الاستوديو... وكان لا بد من مشروع افرغ طاقتي فيه... وهو الآن كما ترى! ألم تواجه عقبات؟ - أبداً. هناك تجاوب كبير من الجمهور، منذ البداية، فتح لي الطريق. صار المنتج يلاحقك ويدفع لك ما تريد. انا الآن المخرج الأغلى سعراً، والأعلى في موازنات الانتاج. ونجاح اعمالي هو السبب. عملي يتم تسويقه قبل ان اصوّر فيه اي مشهد. وهذا لا يحدث حتى في الأعمال الدرامية المصرية. ولكن، هل تحصل على الموازنة التي تتيح لك العمل بارتياح وبالمستوى الأعلى؟ - لو حصل هذا فسوف نتخطى الحاجز العربي ونصنع اعمالاً موجهة للعالم. ولكن على مستوى العالم العربي نقدم الافضل. أي انك تعمل تحت سقف ظروف الانتاج العربي؟ - طبعاً، ولو اعطيت امكانات اكبر، لقدمت ما هو ارقى. وبهذه الامكانات المتاحة لا استطيع مخاطبة العالم.. لأن هناك اختلافاً بين العالم العربي والغربي من حيث الرؤية والتفكير والثقافة البصرية. وأخيراً، انا اذكر انك بدأت سينمائياً، من خلال فيلم "حكاية شرقية"... فأين صار مشروعك السينمائي... ومتى ستعود الى السينما؟ - سأعود قريباً جداً. الآن، اعتبر انني مهدت الطريق لهذه العودة، من خلال الانجازات على صعيد الصورة والتشكيل والخروج بالكاميرا في ظروف مختلفة. وأجد لدي ما اضيفه الى السينما العربية. لديّ مشاريع عدة ابرزها: عمل عن جبران خليل جبران يتناول مقطعاً من حياته في الاغتراب. وعمل عن "الياطر" لحنا مينه. وعمل ثالث من تأليف الروائي زياد قاسم هو "صباح الخير ديموقراطية" يعالج هموماً وقضايا عربية بأسلوب ساخر ورؤية فانتازية.