قال الطفل وائل في براءة والابتسامة تملأ وجهه: «لم أعد في حاجة لهذه الكتب فقد انتقلت للسنة الرابعة، وسأتركها هنا حتى يستفيد منها طفل آخر...». ومع الكتب جلب وائل أيضاً محفظته وبعض الأدوات التي لا تزال في حالة جيّدة. وائل لم يكن الوحيد الذي زار هذا الفضاء الذي فتحته إحدى المنظمات الخيرية في مدينة صفاقس (جنوب) لتجميع ما أمكن من كتب وأدوات مدرسية مستعملة لم يعد التلامذة في حاجة إليها، وذلك بقصد ترتيبها واختيار الجيّد منها لتوزيعه على أبناء العائلات الفقيرة. ولم تكن صفاقسالمدينة الوحيدة التي انخرطت في هذا المدّ التضامني، بل إنّ المدن كلها شاركت في دعم هذه الجهود التي لا تعتبر جديدة على المجتمع التونسي، فقد تعودت الأسر في نهاية كل عام دراسي أن تجمع ما سلِمَ من كتبٍ وموادَّ مدرسية وكراريس أيضاً وتسلّمها إما مباشرة إلى عائلة فقيرة وإما إلى جمعيّات ومنظّمات تُعنى بالشأن الاجتماعي كي تصل إلى من هم في حاجة إليها. وتقول سعيدة وهي أم لأربعة أطفال، نزحت منذ عامين من إحدى القرى الداخلية في اتجاه مدينة المنستير الساحلية: «لا يمكنني أن أوفر كل ما يطلبه أبنائي الأربعة حتى لو عملت ليلاً ونهاراً، زوجي عاطل من العمل منذ سنوات وأنا أعمل في البيوت معينة منزليّة وما أتقاضاه لا يكفي عائلتي، لذلك قصدت إحدى الجمعيات كي أحصل على بعض المساعدات سواء المالية أم في شكل أدوات وكتب وحقائب، وقد تكفلت الجمعية باثنين من أبنائي، قيما تكفّلت العائلة التي أعمل عندها بالآخرَين». وتتابع: «ومع ذلك لا يزال أمامي مشوار طويل على امتداد السنة الدراسية إذ سيكون لزاماً عليّ شراء أدوات أخرى قد تتلف وربما كراسات وغيرها». في المكان ذاته كانت ناجية تبكي في صمت، ثلاثة أطفال أصغرهم يدرس في الصف الخامس ابتدائي وبنت في الخامس ثانوي وأخرى في البكالوريا، وهي لا تكاد تجد مالاً لتكفيهم طلباتهم. ولم تتمكن الجمعية إلاّ من التكفّل باثنين فقط، وبقيت البنت الكبرى من دون لوازم دراسة. ثمّة من وجّهها إلى أحد الميسورين في المدينة مع توصية، لكنها قالت أنّه لم يعطها ما يكفي. لذلك عادت إلى مقر الجمعيّة كي تحاول من جديد. وفي مدينة قصر هلال الساحلية، قامت منظمة تُعنى بالطفولة بدور مهمّ في جمع ما أمكن من كتب وأدوات مدرسية وحقائب. لكنّ المشكل كما قال المشرف على المنظمة أنّ «عدد الطلبات فاق بكثير الكميّات المتوافرة، وهذا يمثّل مشكلاً حقيقيّاً أمامنا إذ سنكون في حرج كبير أمام من عوّلوا علينا وانتظروا أن نلبي حاجاتهم». ويضيف: «لذلك حاولنا ألاّ نعتمد فقط على التبرعات بل سعينا للاتصال برجال أعمال وميسورين قصد الفوز بأكبر كميّة ممكنة نوزعها على كلّ من هو في حاجة إليها». والأمر ذاته تكرر في ضاحية المنزه شمال العاصمة حيث نظم مكتب محلّي للمتقاعدين حملة لجمع ما أمكن من الكتب المدرسية والجامعية والمراجع، بغرض إعادة توزيعها على أبناء العائلات المعوزة. ولم يقتصر دور الجمعيات والمنظمات على هذه المهمة بل تجاوزها إلى جمع الملابس والأحذية أيضاً. وكان حوالى مليوني تلميذ وتلميذة عادوا إلى مقاعد الدراسة (18 أيلول/سبتمبر) في أكثر من 6 آلاف مؤسسة تربوية، تضم أكثر من 36 ألف فصل، يدرّسهم 57 ألف معلّم و76 ألف أستاذ. وتقدر تكلفة التلميذ في المرحلة الابتدائية بنحو 100 دينار (700 دولار) في مقابل 1500 دينار لتلميذ الثانوي. وقدرت كلفة التجهيزات ب 55 مليون دينار، أما عدد الكتب المدرسية فجاوز 370 عنواناً تنشر في نحو 12 مليون نسخة. هكذا شهدت مناطق البلاد مداً تضامنياً غير مسبوق على رغم أنّ عمليات التبرع ليست جديدة على التونسيين لكنّها اكتست هذا العام بعداً آخر، إذ كانت تطوعيّة وبرغبة من الناس وليس من خلال أوامر يصدرها النظام على غرار ما كان يحدث سابقاً فيجد التونسي نفسه يقوم بعمليّات إنسانية على مضض ومن دون رغبة صادقة منه، لأنه يعلم مسبقاً أن جزءاً مهماً ممّا يتبرّع به سيذهب لحسابات أفراد في عائلة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وعائلة زوجته (ليلى الطرابلسي) وجيوب متنفّذين في النظام.