تفيد مؤشرات عدة انه لا شيء يظهر ان سياسة جديدة تحركها ارادة حقيقية للتغيير ظهرت على صعيد المشهد الاعلامي المغربي، خصوصاً الاعلام الرسمي، بعد مرور اكثر من عشرة اشهر على تشكيل الحكومة. استمر النمط الاخباري ذاته في النبرة الدعاوية. أما الوجوه الاعلامية فما زالت تذكر بكل ما كانت تحتج عليه الاحزاب المشاركة في الحكومة قبل تحملها المسؤولية... الخ، وكأن الأمر يتعلق بعملية تصالح موضوعي مع ما كان سابقاً موضوع مؤاخذة واحتجاج، أو ان التغيير شعار يصعب تحمل مسؤولية تنفيذه في واقع يفرز مقاومات وعراقيل لا حصر لها. ولم يتردد وزير الاتصال، في يوم تسلمه السلطة، من القول ان الاعلام المغربي سيصبح اعلاماً للجهر بالحقيقية. وطوال هذه الشهور المنقضية من عمر الحكومة بدأ يظهر للمراقبين والمواطنين حجم الفارق بين اعلان المبادئ وبين القدرة الفعلية على تحويل الاعلام الرسمي الى وسائل حقيقية لتنوير المغاربة وتثقيفهم وتوعيتهم. بل وحين يسمع المرء ما يرد على لسان المسؤول الأول عن الاعلام عند حديثه عن قطاعه يندهش للنبرة التبريرية العالية: "كل المرافق تتحرك بكيفية مرضية" كما صرح بذلك وزير الاتصال في مناسبة الاحتفال باليوم الوطني للاعلام، معتبراً ان تغييرات ايجابية جرت على صعيد المكتب المغربي لحقوق التأليف، وفي وكالة المغرب العربي للانباء، وفي قطاع السينما، كما تشهد "جريدة الانباء" وهي جريدة رسمية شاحبة انطلاقة جديدة... الخ. يقال هذا الكلام في اليوم الذي احتفل فيه الصحافيون باليوم الوطني للاعلام بحمل شارة الاحتجاج على أوضاعهم المهنية والمادية والمعنوية، وقبل اسابيع قليلة من اعلان عمال "القناة الثانية" إضراباً تحذيرياً للتعبير عن التذمر العام بسبب ما تتعرض له القناة من تراجع وتسيب في التدبير. أما الإذاعة والتلفزيون المغربي فللحكومة الحالية معها، حسب ما يظهر، مشاكل لا حصر لها. فهي تابعة لوزير الاتصال بمقتضى القانون، لكن ادارتها مرتبطة بوزارة الداخلية، الأمر الذي يستبعد أي جهد مهني أو اجتهادي تحريري، أو يسمح بإبراز التعددية السياسية والثقافية التي تشهدها البلاد. والظاهر ان المسألة لا تعود الى هذا الوزير أو ذاك، وانما بدأ يتأكد، يوماً بعد يوم، ان الحكومة الحالية تعاني من أزمة قرار. اذ كيف يفهم، في ضوء شعارات "حسن التدبير" و"التغيير" و"التناوب"... الخ، وبعد مرور اكثر من عشرة أشهر على تحمل المسؤولية "التنفيذية"، ان قرارات من طبيعة رمزية وذات دلالات سياسية عميقة، وغير مكلفة مالياً، لم تتمكن هذه الحكومة من الاقدام عليها؟ اذا كان الأمر يجري في مجال الاعلام على هذا النحو فما بالك بالقطاعات الاستراتيجية والمجالات التي تتطلب قرارات قاسية احياناً؟ ومع ذلك تتعين الإشارة الى ان أحزاب الحكومة، لا سيما أحزاب "الكتلة الديموقراطية"، لعبت في السنين الأخيرة دوراً كبيراً في الربط بين العملية الديموقراطية وتطور الصحافة والاعلام، وناضلت من أجل احترام الحقوق العامة للانسان، وطالبت الاعتناء بالمشهد الاعلامي الوطني، لأنه يؤشر على صدقية الممارسة الديموقراطية. بل ان وزراء ما زالوا، الى الآن، متشبثين بإدارتهم لصحف يومية، منهم الوزير الأول عبدالرحمن اليوسفي الاتحاد الاشتراكي، محمد اليازغي ليبيراسيون اسماعيل العلوي البيان بالعربية والفرنسية، التهامي الخياري المنعطف، محمد أوجار الميثاق الوطني... ويقرأ المرء، يومياً، افتتاحيات "معارضة" ومقالات احتجاجية الى جانب أخبار دعاوية وتغطيات تبريرية لأنشطة وزارية، الى درجة يحار المرء في التمييز بين المسؤول الصحافي "المعارض" والوزير التنفيذي المسؤول عن العمل الحكومي. وهو أمر يخلق التباساً كبيراً لدى الرأي العام بين المسؤول الحكومي وبين المسؤول الاداري عن صحيفة تنطق بخطاب "اعتراضي". ويعتبر المهتمون بالشأن المغربي ان لا أحد كان يتوقع من "حكومة التناوب" ان تخلق معجزات، نظراً للاستحقاقات العديدة التي تواجهها، وان تحدث التغيير بعد تراكم وتفاقم العوامل الكابحة للاصلاح. لكن تشكيل هذه الحكومة اطلق آمالاً عريضة جعلت الناس تنتظر اتخاذ قرارات ملموسة، وتغييرات في النمط السياسي للعمل الحكومي، واسلوباً مختلفاً لأخبار الرأي العام وتشجيع الشفافية وحرية الاجتهاد. فلم يعد مقبولاً من الذين ساهموا في اقرار مبادئ حقوق الانسان وناضلوا من أجل الحرية والديموقراطية ان يتصالحوا مع منطق الدعاية السائد واساليب التعتيم المتبعة. صحيح ان هناك هوامش لحرية القول في الصحافة المكتوبة، لكن وسائل الاعلام الرسمية تحتاج الى "دمقرطة" حقيقية تعبر عما يعتمل داخل المجتمع السياسي والمدني من توجهات ومواقف وآراء. اذ في بلد يشهد تجربة سياسية مميزة يفترض في اعلامه الرسمي، والخاص كذلك، مواكبة حركية هذه التجربة واسنادها بما يلزم من التحليل والنقد، سيما وان وسائل الاعلام الرسمية لا تمثل مظهراً من مظاهر الدولة فقط بل عليها التفكير في المصلحة العامة كأولوية محددة لاختياراتها وانماط عملها. والخوف من استمرار الوضع الراهن هو ما حدا بالنقابة الوطنية للصحافة التفكير في انشاء منتدى للدفاع عن "دمقرطة" وسائل الإعلام الرسمية. في المقابل نجد حركية خاصة على صعيد الصحافة المكتوبة في وقت تستمر الصحف الحزبية في الصدور، باللغتين العربية والفرنسية، ويشهد الكل على تخلفها وضعف أدائها التحريري والاعلامي، سواء من طرف أصحابها أو من المراقبين الخارجيين، الى درجة ان العاهل المغربي طالب أمام البرلمان في تشرين الأول اكتوبر الماضي، الرفع من مستواها والاهتمام بضرورة بذل الجهود لخلق صحافة تتلاءم مع مقتضيات العمل الصحافي العصري. وفي مجال الصحافة المستقلة، شهدت هذه السنة بروز عناوين جديدة بالعربية والفرنسية، اسبوعية في معظمها. فتعززت اليوميات العربية بإصدار صحيفة "الأحداث المغربية" يديرها محم البريني، وهو مدير سابق لصحيفة "الاتحاد الاشتراكي" وأحد ضحايا الصراع، داخل حزب الاتحاد الاشتراكي، للسيطرة على صحافة الحزب. انشأ هذه الصحيفة مع مجموعة من الاتحاديين الحاليين والسابقين، للتعبير عن مواقف معارضة أحياناً للنهج الحكومي الذي يقوده عبدالرحمن اليوسفي. كما نزلت الى السوق اسبوعية عربية جديدة بعنوان "الصحيفة الجديدة" تصدرها المؤسسة التي أطلقت جريدة "لو جورنال" قبل سنة. اضافة الى عناوين لصحف اسبوعية حزبية مثل "صوت الوسط" لافوا دي سانتر و"المنتدى الليبرالي" لوفوروم ليبرال و"الزمن الحاضر" لوطون بريزان... الخ. ويذكر ان الاسبوعيات الصادرة بالفرنسية تتميز عموماً بتركيزها على الهموم الاقتصادية أو السياسات المرتبطة بشؤون المال والاعمال، ومتابعة ما هو بارز في الاحداث السياسية ونشر تحقيقات وملفات موضوعاتية، وتتسم من جهة اخرى باحترافية ظاهرة تتفاوت من منبر الى آخر. لكن استقلاليتها عن الاحزاب، واعتمادها على نمط التدبير العصري وعلى الإشهار جعل منها أدوات اعلامية حاضرة، بقوة، في المشهد الصحافي. وتزداد مهنيتها كلما ازدادت حدة المنافسة بينها، الى درجة ان صحيفة اطمأنت الى مداخيلها المادية، وبدأت تصدر خمس مرات في الاسبوع كما هو شأن صحيفة "الاقتصادي" ليكونوميست. وبقدر ما تتقدم الصحف الحزبية اليومية الى القارئ في شحوبها وضعفها وتكرار لغتها ومواقفها، تتحرك الصحف المستقلة، سيما المحررة بالفرنسية منها، لتشكل تحدياً فعلياً للصحافة المرتهنة لحسابات الاحزاب. لا شك في ان لهذه الصحافة ضرورتها في المرحلة الحالية من تطور التجربة السياسية المغربية، لكن الرفع من مستواها أصبح شرطاً لا مناص منه. وتتمثل المشكلة في البون الشاسع في الأداء بين وسائل الاعلام الرسمي الذي تشرف عليه، نظرياً، حكومة التناوب، والصحف الحزبية الغارقة في اعتباراتها السياسية وحاجاتها المادية، وبين الاسبوعيات المستقلة التي بدأت تتحول، شيئاً فشيئاً الى مصادر اعلامية حقيقية لشرائح واسعة من النخبة والمهتمين. اما الأوساط المتوسطة والضعيفة المستوى، فلها ما شاءت من "صحف الرصيف"، اذ تسحب مئات الآلاف من النسخ، لأنها تعتمد على الإشاعة والإثارة والمواضيع الفضائحية. ومع ان الوعي السياسي بأهمية تطوير المجال الاعلامي حاضر لدى المسؤولين الحكوميين، واقرارهم بحقوق المغربي في الخبر النزيه والسليم وفي التوعية والثقافة وفي إبداء الرأي، الا ان نمط تسييرهم لهذا القطاع يكشف عن معضلة كبرى تتمثل في قدرة "حكومة التناوب" على اتخاذ قرارات تتماشى مع مبررات التناوب من أجل "التغيير" والانصات لانتظارات من ما زال يعول على انجاح هذه التجربة السياسية العربية.