يبدو أن الصراع على المغرب العربي الذي استمر سلمياً طوال نصف قرن استعاد ضراوته في التسعينات مع "الهجوم" الأميركي على الجزائر اذ تقدمت الولاياتالمتحدة الى رتبة الزبون الثاني والمزود الثاني للجزائر وباتت شريكاً عسكرياً لا تتهيب القوات الجزائرية من اجراء مناورات عسكرية مع جيشه بل ولا تعترض على تسليم ملف الصحراء الغربية الى وزير خارجية أميركي سابق جيمس بيكر ليكون حكماً في النزاع الذي فتحه الجيش الجزائري مع المغرب. ويمكن القول إن مشروع الشراكة الأميركية - المغاربية الذي طرحته واشنطن العام الماضي على العواصم الرئيسية في المنطقة يعكس الاصرار على مناكفة الفرنسيين في منطقة تعتبر تقليدياً من أهم مجالات نفوذهم "التاريخية". وتؤكد معلومات الأميركيين أنهم ماضون في اجتراح المشروع خلال العام الجاري خصوصاً أن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية ستيوارت أيزنستات عاد وجدد في خطاب ألقاه في 18 كانون الأول ديسمبر الماضي أمام أعضاء "نادي هانيبعل" في واشنطن التزام الادارة الأميركية بمشروع الشراكة مع بلدان المغرب العربي وأعلن أن واشنطن ستدعو وزراء من تونسوالجزائر والمغرب في الربيع المقبل لاجراء محادثات مع مسؤولين أميركيين لبلورة المشروع. وأكد أن الولاياتالمتحدة لا تعتزم بكل بساطة التخلي عن الفرص التجارية المتاحة في شمال افريقيا للأوروبيين أو لغيرهم مما يعكس احتدام صراع المصالح الأميركية - الأوروبية على المنطقة. ما هو مضمون الشراكة التي يقترحها الأميركيون، وما هي خلفياتها ودوافعها؟ أتى هذا المشروع في سياق التعثر الذي أصاب الحوار بين البلدان الأوروبية والبلدان المغاربية والعربية المشاركة في المسار المتوسطي، حين ألقى انهيار التسوية السلمية للصراع العربي الاسرائيلي، في أعقاب صعود تكتل "ليكود" الى سدة الحكم في الدولة العبرية بعد انتخابات 1996 ظلالا كثيفة على الحوار الأوروبي المتوسطي الذي مر بصعوبات كبيرة كادت تؤدي الى انهياره في مؤتمر مالطا 1997، ما أكد مجدداً الترابط الوثيق بين تحقيق الأمن والاستقرار في المتوسط والتقدم نحو تسوية عادلة ودائمة في الشرق الأوسط. وأرادت الولاياتالمتحدة الاستفادة من تعثر مشروع الشراكة الأوروبية - المتوسطية فطرحت مشروعها الخاص للشراكة مع المغرب العربي في مبادرة رأى فيها البعض خياراً بديلاً ومنافساً للخيار المتوسطي بينما أكد الأميركيون أنها ليست موجهة ضد الشراكة الأوروبية المتوسطية. وفي هذا السياق زار مساعد وزير الخارجية الأميركية كلاً من تونسوالرباط في حزيران يونيو الماضي لطرح مشروع جديد يرمي لازالة الحواجز بين الولاياتالمتحدة وكل من تونس والمغرب والجزائر وتكريس حرية تدفق الاستثمارات والسلع في اطار منطقة للتبادل الحر. وترتدي المبادرة التي أعلنها أيزنشتات أهمية خاصة كونها أهم مشروع استراتيجي منافس للشراكة الأوروبية يطرح على البلدان المغاربية منذ استقلالها. فالعلاقات مع واشنطن اتخذت دوماً أبعاداً سياسية وعسكرية ولم تشكل الولاياتالمتحدة قوة اقتصادية أو شريكاً اقتصادياً مهماً لأي بلد من البلدان المغاربية حتى مطلع التسعينات. لكن هذا الوضع شهد تغيراً سريعاً في السنوات الأخيرة. ففي الجزائر على سبيل المثال استأثرت الشركات النفطية الأميركية بحصة الأسد من عقود التنقيب عن الطاقة منذ أن فتحت حكومة سيد أحمد غزالي الباب أمام الشركات الأجنبية للاستثمار في القطاع عام 1992. وكمؤشر على الأهمية التي اكتسبتها الجزائر في السياسة المغاربية والافريقية للولايات المتحدة نذكر ما قاله مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى سابقاً روبرت بلاترو أمام مجلس الشيوخ الأميركي في 1996 حين أكد ان "الجزائر هي ثاني أكبر بلد في افريقيا وتلعب دوراً رائداً في شمال افريقيا والشرق الأوسط ومنطقة البحر المتوسط عموماً". وتؤيد الجزائر عملية السلام في الشرق الأوسط وهي ذات أهمية للمساعي الاقليمية لتعزيز الأمن والسلام والاستقرار. وفضلاً عن المصلحة الجيوسياسية تتشكل المصالح الأميركية من استثمارات عامة وخاصة لا يستهان بها في قطاع البترول الجزائري. وبات الكثير من المسؤولين السابقين في الادارة الأميركية يتوافدون على الجزائر بوصفهم مستشارين لشركات نفطية يأتون للتوقيع على صفقات أو للتفاوض على عقود لاستخراج المحروقات وتسويقها. وفي هذا السياق زار وزير الدفاع السابق ديك تشيني الجزائر في أيار مايو في 1997 بوصفه رئيس شركة "هاليبرتن" اذ تحول الى آبار النفط والغاز في منطقة حاسي مسعود جنوب وأجرى محادثات مع مسؤولين حكوميين ومن القطاع الخاص لدرس امكانات تطوير استثمارات الشركة في قطاع المحروقات. وهذا أمر جديد بالمقارنة مع ما كان في السبعينات والثمانينات. إلا أن تطور الاستثمار الأميركي لم يقتصر على قطاع الطاقة وانما شمل أيضاً قطاعات صناعية أخرى. فمثلاً شركة كوكاكولا التي تعتبر رمزاً لوصول الاستثمارات الأميركية الى أي بلد أعلنت أنها ستستثمر 50 مليون دولار في الجزائر لبناء مصنعين جديدين في وهران غرب وعنابة شرق بالاضافة للمصنع الحالي الذي احتفل في حزيران الماضي بانتاج الزجاجة رقم 350 مليون في الجزائر. ما هي عناصر المبادرة التي حملها أزينشتات الى العواصم المغاربية؟ وأين تفترق عن الشراكة الأوروبية وأين تلتقي معها؟ في حوار مع رجال أعمال تونسيين في مقر الغرفة التجارية التونسية - الأميركية ثم في مقابلة مع القناة الثانية للتلفزيون المغربي شرح المسؤول الأميركي ملامح المبادرة التي تنهض على الأركان الأربعة الآتية: 1- اقامة "حوار دوري ينبني على قواعد ملموسة" بين كبار المسؤولين في الولاياتالمتحدة من جهة وفي كل من تونسوالجزائر والمغرب من جهة ثانية. وأوضح في المغرب أن هذا الحوار ستترتب عليه "زيارات أكثر" بين الجانبين مما يدل على أن الشراكة المطروحة ليست مشروعاً اقتصادياً فقط وانما هي ترتكز على تشاور وتنسيق سياسيين دائمين على نحو يشبه الشراكة مع أوروبا حيث يتلازم البعد الاقتصادي مع البعد السياسي. ويعني ذلك أن مشروع الشراكة الجديد سيشكل مدخلاً للولايات المتحدة لاستبدال اللقاءات السياسية المتباعدة حالياً بحوار مكثف ودوري مع العواصم المغاربية وبالتالي سيمنح اللاعب الأميركي فرصة لأخذ موقع أهم وأكبر على الركح السياسي المغاربي. 2- التعامل مع المغرب العربي "كوحدة اقتصادية واحدة" كما قال ايزنشتات في الرباط أو "كمنطقة للتعاون الاقتصادي" كما قال في تونس، أي ان الادارة الأميركية ترغب في التفاوض مع البلدان الثلاثة كما لو كانت طرفاً واحداً، بل هي تذهب الى أبعد من ذلك حين تعلن "نحن نأمل بأن نشجع اتحاد المغرب العربي وغيره من هيئات التكامل الاقليمي على ازالة الحواجز بينها لأنها تحول دون ازدهار التجارة في صورة كاملة". هل معنى ذلك أن الأميركيين ليسوا على علم بأن الاتحاد أضحى في خبر كان وأن الخلافات السياسية التي سممت العلاقات بين أعضائه أقامت حواجز جديدة ولم تلغ القديمة؟ بلى، فهم على ما يبدو يعلمون هذه القطيعة في أدق تفاصيلها ولكنهم غير راضين عنها ويشجعون على تحسين العلاقات السياسية بين كل من تونسوالجزائر والمغرب، اذ قال أزينشتات في تونس "أملنا أن يضع هذا التكامل الاقتصادي المحسن الأرضية لعلاقات سياسية محسنة بين دول المغربي العربي". وهذا يدل على أن الأميركيين يرون مصلحتهم في التعامل مع مجموعة اقليمية وليس مع بلدان متفرقة. إلا أنهم قرروا من طرف واحد إقصاء كل من ليبيا وموريتانيا - وهما عضوان مؤسسان لاتحاد المغرب العربي - من الشراكة المقترحة، وبرروا استثناء الأولى بكونها خاضعة لعقوبات دولية، بينما عزوا استبعاد الثانية الى كونها أقرب الى الاندماج مع التجمعات الاقتصادية الافريقية جنوب الصحراء. 3- اعطاء "دور مركزي" للقطاع الخاص في مشروع الشراكة المقترح باعتباره "المحرك للنمو الطويل الأمد والمستديم لهذه المنطقة". وعلى رغم أن المسؤول الأميركي وعد بشرح هذه المسألة في أول اجتماع يعتزم عقده مع ممثلين عن البلدان المغاربية الثلاثة في واشنطن، فمن الواضح أن هذه الرؤية تعكس الايديولوجية الأميركية التي تمنح دوراً متفوقاً للقطاع الخاص لا يتبوأ مكانة مثيله له في أي مكان آخر في العالم. وتكريساً لهذه الرؤية طلب أيزنشتات من الغرفة التجارية التونسية - الأميركية، التي حرص على عقد لقاء مهم مع أعضائها، "تأسيس هيئة لجنة تعمل على إعداد لائحة بأنواع الاصلاحات الاقتصادية أو النشاطات التجارية التي يمكن للحكومة التونسيةوالولاياتالمتحدة أن تقوما بها للمساعدة في القيام باستثمارات وايجاد فرص للعمل". كذلك طلب من غرفة التجارة المغربية - الأميركية "إعداد أفكار محددة عن كيفية تحسين علاقاتنا الاستثمارية والتجارية". ولا شك في أن التباعد بين القطاع الخاص الأميركي ونظيره المغاربي يجعل العلاقة المتكافئة غير ممكنة ما يفرض ادماج القطاع العام في هذه الشراكة. إلا أن ادراك هذه المعوقات لا ينبغي أن يؤدي الى هدر الفرصة التي تتاح لاقامة شراكة مع مؤسسات وشركات صناعية أميركية، مثلما هو الشأن حالياً مع الشركات الأوروبية، لأن ذلك يمنح فرصة فريدة للاحتكاك بسوق تجارية في حجم السوق الأميركية وللتعرف على تكنولوجيا متقدمة وتقنيات ادارية وتسويقية تتفوق بكثير على المستوى الذي ألفناه في أوروبا. 4- ضرورة قيام الحكومات المغاربية المعنية "باصلاحات اقتصادية هيكلية ترمي لوضع الأسس لقطاع خاص مزدهر". ويعود التركيز على هذا الجانب الى رغبة الأميركيين بايجاد تجانس بين اقتصادات البلدان الثلاثة المعنية بالمشروع على قاعدة منح دور طاغ للقطاع الخاص ومزيد التقليص من وزن القطاع العام. قصارى القول إن الأميركيين مقبلون على مخاطرة صعبة لانجاز اختراق استراتيجي في منطقة كانت وما زالت تصنف تقليدياً كمنطقة نفوذ لأوروبا - وفرنسا في الدرجة الأولى - ما يدل على أنهم لا يعملون للمدى القريب وانما يخططون للأمد البعيد. كيف ينظر الأميركيون الى هذه المنافسة مع أوروبا؟ يقول أيزنشتات "لا نرى أن مبادرتنا تمثل في أي شكل جهداً ينافس أوروبا فنحن ندعم العلاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب العربي طالما أنها متماشية مع مقتضيات منطقة التجارة العالمية". لا جدال في أن الأميركيين يسعون لخدمة مصالحهم القومية ولكن يمكن للمغاربيين استثمار المبادرة لخلق ميزان قوى جديد مع أوروبا ولفتح آفاق أوسع أمام صناعاتهم اليافعة. فمجرد وجود شريك ثان يخطب ود المغرب العربي يمنحه هامش مناورة أكبر في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ويقوي موقف المفاوض الجزائري الذي يناقش منذ أكثر من سنة اتفاقاً للشراكة شبيهاً بالذي توصل له الاتحاد مع كل من تونس والمغرب سنة 1995. وطالما أن حواجزنا الجمركية سترفع تدريجاً أمام المنتوجات الأوروبية فمن باب أولى أن ترفع أيضاً في وجه المنتوجات الأميركية حتى نستثمر التنافس لتحسين نوعيات السلع المطروحة. طبعاً سيشكل التحرير التدريجي للاستيراد خطراً على الصناعة الوطنية إلا أن توسيع مظلة التحرير الى المنتوجات الأميركية ليس هو مصدر الخطر، بل على العكس ربما تشكل اقامة منطقة للتبادل الحر مع السوق الأميركية 240 مليون مستهلك فرصة لمنتوجاتنا التي أقامت في وجهها البلدان الأوروبية حواجز صارمة خصوصاً المنتوجات الزراعية للوصول الى أسواق جديدة تحاول منذ سنوات اقتحامها، لكن في شكل خفر. العنصر الثاني الذي يتعين الوقوف عنده في المبادرة الأميركية يتمثل في الاصرار على التعامل مع المغرب العربي "كوحدة اقتصادية واحدة" على رغم ان العالم كله بات يعرف أن الاتحاد المغاربي مات ولم تعلن وفاته. وهذا الاصرار يدل على موقف سياسي مؤداه عدم الرضى على الوضع الراهن والسعي الى جمع الفرقاء المغاربيين حول مائدة واحدة في واشنطن طبقاً للرزنامة التي استعرضنا عناصرها. ولم يسبق للاتحاد الأوروبي أن تعامل مع البلدان المغاربية على هذا الأساس أي بوصفها تجمعاً اقليمياً عدا فترة وجيزة لم تتجاوز السنة الواحدة في أعقاب انشاء الاتحاد المغاربي 1989، وتعتبر صيغة الحوار الجماعي الوحيد التي عمرت فترة أطول هي حوار 5"5 بين بلدان الاتحاد والبلدان الأوروبية المطلة على المتوسط ايطاليا وفرنسا واسبانيا والبرتغال ومالطا الذي علق بعد اندلاع أزمة "لوكربي" 1992. لكن مفاوضات الشراكة تمت في ظل صيغة 12"1 بالنسبة لكل من تونس والمغرب والجزائر. صحيح أن مشروع الشراكة المغاربية - الأميركية يقصي ليبيا وموريتانيا لأسباب متباينة بالنسبة لكل بلد وهي غير مقنعة في الحالين، لكن إذا ما قسناه على مسار برشلونة الأوروبي - المتوسطي نلاحظ أن ليبيا مستبعدة أيضاً فيما تجلس موريتانيا في مقعد المراقبين غير أن الدول العربية تطرح في كل اجتماع ضرورة ادماج ليبيا في المسار وهي تشركها في كل الاجتماعات التنسيقية للمجموعة العربية. ويمكن انتهاج هذه السياسة مع الأميركيين، خصوصاً أنهم أكدوا أن "هذه الشراكة ينبغي أن تكون مفتوحة أمام الدول التي تلتزم المعايير الدولية كالمغرب وتونسوالجزائر" ولم يقفلوا الباب أمام ليبيا في المطلق بل ربطوا انضمامها بانهاء العقوبات المسلطة عليها. ربما يتمثل مصدر التحفظ الرئيسي على المشروع في كون الأميركيين يعتبرونه "تكملة لمؤتمر مينا" أي للمؤتمرات الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال افريقيا التي عقدت في كل من الدار البيضاء وعمان والقاهرة والدوحة، وهي ترمي - كما هو معلوم - لادماج الدولة العبرية في منظومة اقتصادية اقليمية وتكريس التطبيع بينها وبين العرب. لكن عملياً ليس مطروحاً أن تكون الدولة العبرية طرفاً في الشراكة المغاربية - الأميركية من قريب ولا من بعيد، وعليه فإن ما قاله أيزنشتات عن التكملة لا يعدو أن يكون أمنية لدى الأميركيين لا تتوافر وسائل تحقيقها.