في حزيران يونيو 1998، أعلن وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون الاقتصادية، ستيورات ايزنستات، من تونس، نشوء مشروع الشراكة الأميركية - المغاربية الذي يترجم في "الطموحات التجارية لبلاده في منطقة المتوسط والحرص السياسي على اختراق منطقة حيوية بالنسبة لها، تمتد من المغرب إلى تركيا. ولا يختلف البعد السياسي والاقتصادي لهذه المبادرة كثيراً من حيث الجوهر والأهداف عن روحية المشروع اليورو - متوسطي المسمى بمشروع برشلونة. ويتعلق الأمر، كما فعلت أوروبا عام 1995، بعرض منطقة للتبادل التجاري الحر، لكن الطرح يختلف هذه المرة لجهة كونه يستهدف ثلاثة بلدان مغاربية مركزية: الجزائر والمغرب وتونس، في حين يشمل المشروع الأوروبي 12 بلداً من بلدان ضفتي جنوب المتوسط وشرقه. وتتركز نقاط التباين في شكل رئيسي بين المشروعين الاقتصاديين على حجم الدعم المالي المتوقع، وعلى الدور المخصص للقطاع الخاص. ففي حين تلتزم أوروبا صيغة المساعدة الثنائية والمتعددة الأطراف باتجاه الدول الأعضاء في مشروع الشراكة معها، تنأى الولاياتالمتحدة عن تقديم أية مساعدة مالية ما عدا مبلغ ستة ملايين دولار لتمويل عدد من برامج المساعدة الفنية لتحسين بيئة قطاع الأعمال في كل من بلدان المغرب العربي المستهدفة بمشروع الشراكة. ومن نقاط الاختلاف الأساسية الأخرى والمتعلقة بطبيعة تركيبة وأسلوب التعاطي الأوروبي والأميركي، هو ان واشنطن ترتكز في مجمل خطواتها على أداء غرف التجارة الأميركية - المغاربية التي ما انفكت منذ عامين تقريباً على افتتاح فروع لها في المدن الكبيرة في كل من الجزائر والمغرب، وكذلك على العلاقات بين رجال الأعمال، تماماً كما يحصل في مصر منذ نحو عقدين. وفي المقابل، تعمد دول الاتحاد الأوروبي على تأطير شراكاتها من خلال توقيع اتفاقات ذات طابع سياسي - اقتصادي مع دول الضفتين، الجنوبية والشرقية للمتوسط. ففي الوقت الذي تراهن فيه الولاياتالمتحدة على الأسواق وعلى الشبكات الفاعلة فيها، نرى ان أوروبا تلعب ورقة القدرات التي تتمتع بها الدول المتوسطية لجهة اجراء الاصلاحات الضرورية بهدف تحسين أوضاع اقتصادياتها. اختراقات أميركية انتقائية مع ذلك، تجدر الاشارة إلى أن المصلحة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة ازاء مغرب اقتطعت منه ليبيا وموريتانيا الأعضاء في اتحاد دول المغرب العربي الذي انشئ في العام 1989 تبقى ضعيفة نسبياً. فالدول الثلاث المعنية بالمشروع الأميركي لا تزال مرتبطة بمبادلات مهمة مع نظيراتها الأوروبية تصل بحدود 60 في المئة بالمقارنة مع مجمل علاقاتها التجارية. لكن الفجوة في المبادلات التجارية أمكن تغطيتها من خلال وجود المستثمرين الأميركيين الذين "يغزون" الأسواق شبه الناشئة في دول شمال افريقيا وأيضاً من خلال اختراق قطاع الهيدروكربونات، كما يحصل في الجزائر أو حتى في ليبيا عبر الشركات النفطية المتعددة الجنسية. وفي هذا المجال، تشير التقارير إلى أن عام 1998 كان عاماً استثنائياً بالنسبة إلى الشركات الأميركية العاملة في الجزائروتونس، لكنها كانت أقل تواضعاً في ما يتعلق بالمغرب، إذ صدّرت الولاياتالمتحدة بما قيمته 19،1 بليون دولار من البضائع للجزائر عام 1998 مقابل 775 مليون دولار عام 1997 من ضمنها 297 مليوناً من الحبوب و362 مليوناً من التجهيزات النفطية. وفي المقابل تراجعت وارداتها من الهيدروكربونات. وفي ما يتعلق بتونس، شهدت الصادرات الأميركية ارتفاعاً ملحوظاً: 327 مليون دولار عام 1998 مقابل 214 مليوناً عام 1997. وعموماً يمكن القول إن الولاياتالمتحدة حققت 200 مليون دولار تقريباً من الأرباح نتيجة مبادلاتها التجارية مع دول المغرب العربي العام الماضي. لكن هذه الأرقام تبقى أقل من عادية إذا ما قورنت بالفائض التجاري الذي تحققه فرنسا مع دول المنطقة والذي يساوي 7.1 بليون دولار من ضمنها بليون مع الجزائر فقط. من جهة أخرى، يجب الأخذ في الاعتبار الحقيقة القائلة إن الجزائر والمغرب وتونس لا تمثل بنية ومصالح متشابهة، فتونس والمغرب يقدمان امكانات الاستثمار وبيئة أمنية مثالية، كذلك بورصات ناشئة قامت على تخصيص عدد من مؤسساتها العامة؟ الأمر الذي جعل الاستثمارات الأميركية، في أقل من عامين، تتوازى مع حجم الاستثمارات الفرنسية الموجودة منذ عشرات السنين. أما في الجزائر - حيث سجلت الشركات الأميركية نقاطاً مهمة منذ بداية الأحداث الأمنية عام 1991 - فإن ضبابية العلاقات في مجال الأعمال والتي استمرت على رغم التحرير المتأخر للاقتصاد، منعت أي استثمار كبير خارج إطار قطاعي النفط والغاز. وفي المقابل، فتح جنوب الصحراء الجزائرية شهية الشركات النفطية الغربية، الأميركية منها على وجه التحديد. فالكلفة المتزايدة للاستثمارات الضرورية لاستخراج النفط دفعت شركة "سوناطراك" الوطنية لفتح القطاع أمام المشاركة الأجنبية، فكان نتيجة ذلك توقيع عدد من اتفاقات التعاون مع المستثمرين الأميركيين. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ عهدت الحكومة الجزائرية ببرنامج تخصيص مصافي تكرير النفط إلى شركة "بكتل" الأميركية، فأصبحت "سوناطراك" مرتبطة بصورة آلية بالمصارف الأميركية المشرفة على هذه العملية. وأصبح "سيتي بنك" الشريك مع بنك التجارة الخارجية الجزائرية يدير حسابات الشركة الوطنية النفطية بالتعاون مع "ميريل لينش" و"بانكر تراست" و"تشيزمانهاتن بنك" و"فيرست شيكاغو". وتقدم "ميريل لينش" بالاضافة لذلك المساعدة الفنية في مجال الهندسة المالية وخلق الأدوات اللازمة لانشاء سوق مالية حرة. وأفضى وضع عدة مناطق غير مأهولة بشكل كبير في الجنوبالجزائري في حماية الجيش إلى طمأنة الشركات الغربية. وشجعت النتائج المالية التي تحققت في الأعوام الأولى بالمقارنة مع حجم الاستثمار، الشركات الأميركية على التفكير في مضاعفة وجودها. كما أظهر اكتشاف حقول جديدة ان الصحراء لا تزال منطقة "خام" يمكن ان تدر المزيد من الثروات النفطية غير المستغلة حتى الآن. وعلى أية حال، تبقى كلفة الاستخراج مرتفعة إذا ما قورنت بمثيلاتها في منطقة الخليج والمملكة العربية السعودية خصوصاً. وفي هذا السياق يحاول الأميركيون ترويج المعلومات القائلة إن الجزائر لا تمثل مصلحة استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، وبأن ثروتها المكونة بالدرجة الأولى من الغاز، الطاقة المسماة بالرديفة، تبقى بعيدة عن المصلحة المباشرة لواشنطن. لكن إذا ما تتالت اكتشافات آبار النفط الجزائري في المدى البعيد، فإن الوضع سيختلف بحيث يمكن ان يزيد من اهتمامات الولاياتالمتحدة التي ترى في الافق نضوب حقول عالمية منها الأميركية والروسية وفي بحر الشمال. لذا، يمكن القول إن الجزائر تبقى الحلقة الأهم في حسابات الاستراتيجية الأميركية داخل منطقة المغرب العربي، كذلك الأمر بالنسبة لآفاقها الاقتصادية الواعدة. كما يمثل هذا البلد سوقاً لا يستهان بها للبنيات التحتية التي يمكن للعائدات النفطية تسديد ثمنها من دون صعوبات تذكر. انطلاقاً من هذا المفهوم، يؤكد المسؤولون الفرنسيون ان الإدارة الأميركية اغفلت منذ مدة إثارة أي انتقاد ضد السلطات السياسية. والدليل على ذلك النتائج الأولية لجولة جيمس بيكر للصحراء الغربية والتي جاءت، ولو بطريقة غير مباشرة، لصالح المواقف الجزائرية في النزاع القائم مع المغرب، البلد الصديق والحليف كما يردد المسؤولون الأميركيون في جميع المناسبات. استراتيجية أكثر شمولية وبعيداً عن المصالح المتباينة للأميركيين في منطقة المغرب العربي، تندرج مبادرة ايزنستات في إطار استراتيجية أكثر شمولية لتضم منطقة البحر الأبيض المتوسط. فأمن هذا الحوض الذي يوفره الاسطول السادس الأميركي، المستند إلى قواعد حلف شمال الأطلسي، هي مسألة لا غنى عنها لضمان حرية الملاحة وحرية طريق النفط وأيضاً لأسباب عسكرية بحتة، وتشكل منطقة المتوسط، إضافة إلى كونها ممراً اجبارياً، الكتف الجنوبي لأوروبا وعنصراً رئيسياً لأمن إسرائيل. وفي ظل هذه الشروط، تدخل منطقة المغرب العربي في تجمع أوسع يمتد من المغرب حتى تركيا وآسيا الوسطى ويضم منطقة الخليج. ولا يتعلق الأمر مع ذلك بالنسبة للولايات المتحدة بالقيام بالاستثمار سياسياً في هذه المنطقة كما هو الحال في الشرق الأدنى وفي منطقة الخليج العربي. لكن منطقة شمال افريقيا هي جزء من كل، بغض النظر عن المصالح التجارية المحدودة التي يمكن أن تشكل حافزاً على المدى القصير. ففي الوقت الذي تراوح العملية السلمية الشرق أوسطية في مكانها، وفي الوقت الذي تبدو واشنطن متورطة في العراق، ترى الإدارة الأميركية ضرورة في تنويع تحالفاتها في المغرب العربي. لذا، تتجه واشنطن نحو هذه المنطقة مستهدفة نواتها الصلبة المؤلفة من الجزائروتونس والمغرب في محاولة لإنشاء شركة اقتصادية على غرار النموذج المقترح، المتعدد الأطراف، كما سبق وحصل على هامش مشروع السلام في الشرق الأوسط، أي من خلال عقد مؤتمرات اقتصادية اقليمية سميت مؤتمرات منطقة "مينا" والتي تقف اليوم في طريق مسدود. استناداً إلى ما تقدم، يمكن القول إن الوزن السياسي والعسكري للولايات المتحدة، إضافة إلى قدراتها على مستوى الاستثمار في الخارج، سيكونان من أبرز عوامل جذب دول المغرب العربي إليها، وتراهن واشنطن على أن الانفتاح التجاري على بقية دول العالم التي تتاجر، خصوصاً مع الاتحاد الأوروبي، لن يكون على الأرجح باهظاً إذا ما أخذنا في الحساب الخسائر على مستوى العائدات الجمركية. لكن المبادرة الأميركية مرشحة لمواجهة العقبات نفسها التي يصادفها الأوروبيون في المنطقة. فالنزاعات الاقليمية، الجزائرية - المغربية خصوصاً، وخفض التعاون بين الحكومات المغاربية خارج الإطار الأمني، وغلق الحدود بين الجزائروتونس من جهة، والمغرب والجزائر من جهة أخرى، ليست في صالح الاندماج الاقليمي حتى ولو كان منحصراً بثلاث دول فقط. كما أن غياب المساعدة المالية في ظل مشروع الشراكة المنشود لا يطمئن أنظمة تسعى إلى الحصول على موارد جديدة تضمن استمراريتها في إطار العولمة. على أية حال، اعطت واشنطن نفسها مدة عام لصياغة مشروعها الاقتصادي - التجاري مع دول المغرب الذي يمكن أن يشكل حافزاً حقيقياً لجذب المستثمرين الأميركيين. فانطلاقاً من مشروع الشراكة، ستنفذ الولاياتالمتحدة إلى خلق حوار بين حلف شمال الأطلسي ودول المغرب، وهو حوار قطع شوطاً حتى الآن مع المغرب وتونس وبات على الطريق مع الجزائر منذ الصيف الماضي، الأمر الذي دعا ايزنستات للتأكيد بالقول: "إن منطقة شمال افريقيا يمثل مصلحة حيوية بالنسبة لأميركا". وتفيد مصادر أميركية ان مشروع الشراكة سينطلق من واشنطن في النصف الثاني من السنة الجارية، مترافقاً مع الاعلان عن انشاء منطقة تبادل حر، وصندوق خاص لتمويل مشاريع الشراكة الأميركية - المغاربية. ويقترح بعض الخبراء اعتماد التوزيع التالي للاستثمارات الأميركية، فتكون الزراعة للمغرب، والطاقة للجزائر، والصناعة والخدمات المالية لتونس. ويذهب الأميركيون أبعد من ذلك من خلال الطلب لشركائهم الجدد تقديم 50 مشروعاً واعداً خلال المؤتمر الذي تعد له الإدارة الأميركية بالتعاون مع "وكالة تنمية التجارة". فالاهتمام الكبير الذي توليه واشنطن لمشروع شراكتها مع دول المغرب هو جدي إلى أبعد الحدود حتى ولو حاولت بعض الأوساط الأميركية في الكونغرس التقليل من أبعاده. ويلعب سفير الولاياتالمتحدة في المغرب ادوارد غابرييل دوراً بارزاً في عملية الإعداد للمشروع. وتعقد اجتماعات دورية للسفراء الأميركيين في دول المغرب الثلاث بهدف تقييم تطور هذه الفكرة والإعداد لاطلاقها في الوقت المناسب. في هذا المجال، ألقى غابرييل خطاباً حول "العلاقات بين المغرب والولاياتالمتحدة وأوروبا" في التاسع من تشرين الثاني نوفمبر الماضي في مدريد خلال اجتماع الندوة الأطلسي جاء فيه: "إن طموحنا لموضوع الشراكة مع المغرب العربي هو لأننا الولاياتالمتحدة. ونقولها بكل تواضع مع كل ما تمثل من نموذج سياسي، اقتصادي وثقافي ناجح وجذاب". مضيفاً: "كذلك لأننا لسنا مثل الأوروبيين الذين يحملون فوق أكتافهم عبئاً تاريخياً ثقيلاً ومعقداً مع دول شمال افريقيا". ويختتم غابرييل مداخلته بالقول: "إن أميركا شريك لا يمكن تجاوزه في العالم، خصوصاً في هذه المنطقة"، وهي رسالة فهمت مغزاها أوروبا وفهمت ان الحرب الاقتصادية الأميركية - الأوروبية التي مسرحها افريقيا بشمالها وجنوبها قد فتحت. * اقتصادي لبناني.