كان يمكن اعتبار الاهتمام الذي تبديه الولاياتالمتحدة الأميركية بتطوير علاقاتها مع دول شمال افريقيا مجرد محاولة لتعزيز مصالحها الاقتصادية والسياسية في المنطقة، في ظل شعارات العولمة التي ترفعها، أو كعملية استكمال لمخططاتها الرامية الى اكتساب مواقع جديدة في القارة السوداء. كل ذلك يبدو مفهوماً إذا جرى تحليله على أنه نتيجة طبيعية للتحولات العالمية التي أنهت مرحلة الحرب الباردة وازالت الكثير من الحواجز التي كرستها لسنوات طويلة، كما أحدثت تداخلاً في مصالح الدول والشعوب يجتهد المنظرون والمحللون في ايجاد التعريف المناسب له. بيد أن المشروع الذي تطرحه واشنطن ويتضمن اقامة شراكة كاملة اميركية - مغاربية، يتجاوز الصيغ التقليدية للعلاقات الثنائية بين الدول ليتخذ شكل محور اقليمي مرتبط بالولاياتالمتحدة، من دون ان يكون للعامل الجغرافي أية علاقة بذلك. والمشروع الذي عرضه ستيوارت ايزنستات وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون الاقتصادية والتجارية أخيراً على كل من المغرب وتونسوالجزائر، على أساس "تحقيق عملية اندماج بين الدول الثلاث حتى تستطيع الولاياتالمتحدة التعامل معها لتجمع اقليمي"، يصطدم بعقبتين رئيسيتين: - فهو، أولاً، يشق "اتحاد المغرب العربي"، بل وينسفه، لأنه يستبعد من "التجمع" المقترح كلاً من ليبيا وموريتانيا، بحجة ان الأولى "متمردة" على إرادة مجلس الأمن الدولي وعلى قراره المتعلق بقضية "لوكربي"، أما الثانية فلا تستحق الاهتمام الأميركي. - وهو، ثانياً، يدخل في منافسة مباشرة مع الاتحاد الأوروبي الذي يقيم شراكة اقتصادية وسياسية فعلية مع اثنتين من دول "التجمع" هما المغرب وتونس، بينما يواصل مفاوضاته مع الجزائر لابرام اتفاق مماثل. وعلى رغم قول ايزنستات "ان اقتراح الشراكة الاقتصادية لا يشكل بديلاً من علاقات المنطقة مع الاتحاد الأوروبي، بل هو مكمل لتلك المعاهدات"، إلا أن الواقع يؤكد العكس. ذلك ان الترتيبات التي تنص عليها المعاهدات الثنائية مع الاتحاد الأوروبي، ما أبرم منها وما هو قيد التفاوض، كذلك الشراكة الأوروبية - المتوسطية التي جرى إرساء أسسها في مؤتمر برشلونة العام 1995، لا تحتمل وجود طرف ثالث، كالولاياتالمتحدة، لديه حسابات وسياسات ومصالح مختلفة، ويريد أن يلعب دوراً رئيسياً موجهاً. فكون الطرفين الأوروبي والأميركي يعملان تحت مظلة دولية واحدة اسمها منظمة التجارة العالمية "الغات"، أو "العولمة"، لا يلغي التناقضات وعوامل التنافس الكثيرة القائمة بينهما. وفي الواقع فإن اقدام واشنطن على اعلان مشروعها، عبر موفدها ايزنستات في حزيران يونيو الماضي، جاء تتويجاً لنشاطات أميركية اقتصادية وسياسية واسعة في المنطقة ترجمت على صعيد الأرقام بما يزيد عن بليوني دولار من الاستثمارات ومثلها من الصفقات التجارية، كان آخرها عقد صفقة مهمة تشتري الجزائر بموجبها عشر طائرات "بوينغ" أميركية بقيمة 400 مليون دولار. واشتملت هذه الاستثمارات على شراء عدد من المؤسسات العامة التي جرى تخصيصها، لا سيما في المغرب وتونس، وتنفيذ مشاريع كبرى في الدول الثلاث. على الصعيد السياسي لم تخفِ الادارة الأميركية تأييدها ودعمها للسلطة الجزائرية في الصراع القائم مع القوى الاسلامية. كذلك فهي قدمت مساعدات عسكرية للجزائر يتفق بعض المتابعين على أنها لعبت دوراً مؤثراً في التضييق على العناصر المسلحة التي ترتكب أعمال العنف المروّعة في بعض المناطق ما أدى الى إحداث خسائر كبيرة في صفوفها. ومن الملاحظ ان مواقف الدعم الأميركية كانت تترافق مع حركة الاستثمارات المتنامية، ما حدا بالسلطات الأميركية الى توجيه نصائح الى رعاياها في الجزائر، ومعظمهم من رجال الأعمال، مفادها ضرورة الاستعانة بحراسات محلية لتجنب أخطار الهجمات المسلحة المحتملة. أي دعوتهم للبقاء في الجزائر. هذا في الوقت الذي كانت التعليمات الموجهة الى الرعايا الفرنسيين والأوروبيين تدعوهم لمغادرة البلاد حفاظاً على أرواحهم. وهذا يعني ان رحيل الفرنسيين والأوروبيين كان يقابله دخول المزيد من الأميركيين الى الجزائر، على رغم الظروف السائدة، الأمر الذي يظهر تبدل المعطيات التي تستند اليها علاقات الجزائر بكل من الطرفين، الأوروبي والأميركي، وبالتالي تغيّر المعادلات القائمة بصورة تدريجية. كذلك فإن المساعي الأميركية للتخفيف من حدة التناقضات بين الدول المغاربية الثلاث لم تتوقف. ففضلاً عن المحاولات الرامية لايجاد تسوية نهائية لمشكلة الصحراء الغربية من خلال الوساطة التي تبذلها الأممالمتحدة وتلعب فيها الولاياتالمتحدة دوراً مهماً، زار المنطقة عدد من المسؤولين الأميركيين في مهمات متلاحقة لتذليل العقبات التي تعترض مشروع الشراكة الأميركية - المغاربية المقترحة. ففي اذار مارس الماضي قام مارتن انديك مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط بجولة في الدول الثلاث. ومع ان الهدف المعلن للجولة كان بحث تطورات الوضع في العراق، لكن الغاية الرئيسية من الجولة كانت التمهيد للخطوة الأميركية اللاحقة. اما المسؤول الثاني الذي زار المنطقة الشهر الماضي فهو ستيوارت ايزنستات، حيث تولى عرض مشروع الشراكة على المسؤولين في كل من المغرب وتونسوالجزائر. ويستفاد مما عرضه الموفد الأميركي ان المشروع المقترح يستند الى "اقامة حوار سياسي دائم على أعلى مستوى بين الولاياتالمتحدة والبلدان المغاربية الثلاثة، كما يستهدف الغاء الحواجز الجمركية بين الدول المعنية على نحو يتيح للولايات المتحدة التعاطي معها كتجمع اقليمي ويمهّد لتحسين العلاقات السياسية في ما بينها". اما القاعدة الرئيسية التي يرتكز اليها المشروع فهي "ان يكون للقطاع الخاص دور مركزي وقيادي في الشراكة المقترحة"، على أن يترافق مع ذلك أو يسبقه ادخال اصلاحات هيكلية على اقتصادات الدول المعنية لاستيعاب التحولات الاقتصادية الدولية، وهو ما يحدث الآن بالفعل. وكان آخر الذين زاروا المنطقة، للغاية نفسها، توماس بيكرنغ مساعد وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية. وهو سعى الى تقديم بعض الايضاحات المطلوبة، كما أعطى للمشروع طابع الاستعجال، على طريقة "اضرب الحديد وهو حام" لجعله حقيقة قائمة في أقرب وقت. ويعتقد بعض المراقبين بأن الادارة الأميركية انتهزت فرصة الخلافات التي تعصف باتحاد المغرب العربي من جهة، وتعتبر الشراكة الأوروبية - المتوسطية من جهة أخرى، لإحلال مشروعها الجديد كبديل من الارتباطين القائمين. وتجاهر واشنطن - كما يقول ايزنستات - بأن المنطقة المغاربية تشكل "منطقة حيوية بالنسبة الى مصالح الولاياتالمتحدة وأمنها". ومثل هذا الكلام يأتي كإعادة، أو كإضافة، لما صرح به مسؤولون اميركيون آخرون حول علاقة الولاياتالمتحدة بافريقيا، وذلك من خلال دورها الجديد في القارة السوداء الذي يتناقض بصورة جذرية مع الدور الفرنسي، أو بقايا هذا الدور المتآكل. فالشراكة الأوروبية - المتوسطية، التي استندت الى العامل الجغرافي والمصالح المتداخلة لأطرافها، تواجه منذ قيامها مشكلتين رئيسيتين: الأولى، انعكاس الصراع العربي - الاسرائيلي وفشل عملية التسوية السلمية عليها. والثانية، شعور الدول العربية المعنية بالغبن بسبب الشروط الأوروبية التي تضمنتها معاهدات الشراكة الموقعة، والتي تضع قيوداً شديدة على تصدير المنتجات الزراعية الى الأسواق الأوروبية، فضلاً عن شكوى هذه الدول من أن مساعدات الاتحاد الأوروبي تنحصر في المجالات التي تهم الدول الأوروبية نفسها. ويعتبر المغرب - وفقاً لتصريح أدلى به رئيس الحكومة السابق عبداللطيف الفيلالي - ان اتفاق الشراكة المبرم مع بلدان الاتحاد الأوروبي "غير كاف، وسيظل غير مكتمل، ومؤقتاً بالنسبة للمغاربة، لأنه لا يستجيب الحاجات الحقيقية للمغرب، ما يتطلب رؤية انسانية للتعاون بين الطرفين تنبني على قاعدة الارتباط بين الشمال والجنوب وعلى ادراج التنمية ضمن كل الاهتمامات". كذلك تبدي تونس ملاحظات مماثلة، على رغم الأرقام التي تشير الى أن 81.1 في المئة من صادراتها و78 في المئة من وارداتها تمت في العام 1997 مع دول الاتحاد الأوروبي. ويرى بعض المحللين ان ليس ثمة خيارات أفضل أمام الدول الموقعة. وربما لهذه الأسباب، ولغيرها ما يتصل بحساسيات العلاقة الجزائرية - الفرنسية، تعذر ابرام معاهدة الشراكة الأوروبية - الجزائرية حتى الآن. لكن الأمر يبدو مختلفاً قليلاً، وأقل حدة، في ما يتعلق بالاتفاقات التي يجري التفاوض عليها مع الدول العربية المتوسطية الأخرى، وان كانت الشروط الأساسية التي تنطوي عليها مشاريع المعاهدات المعروضة تثير الكثير من التحفظات لدى الأطراف الضعيفة في هذه الشراكة. من المؤكد ان الولاياتالمتحدة تستفيد من هذا الخلل القائم في العلاقات العربية - الأوروبية. لكن ذلك لا يعني ان واشنطن ترضى لنفسها بمثل هذا الدور الجانبي. فهي تقيم علاقات قوية مع الدول المغاربية الثلاث: المغرب وتونسوالجزائر، لا يقتصر مضمونها على التعاون الاقتصادي وحده بل يشمل المجالات الثقافية ايضاً. ويبرز ذلك بوضوح من خلال الاهتمام الذي تبديه الدول الثلاث بتدريس اللغة الانكليزية في مدارسها، حيث تعتبراللغة الثانية بعد العربية الرسمية بالنسبة الى الجزائر، كما زادت تونس سنوات تدريس الانكليزية في مدارسها الرسمية من أربع سنوات الى ست سنوات حتى المرحلة الجامعية بعد أن ظلت اللغة الفرنسية هي الثانية بعد العربية الرسمية منذ الاستقلال. اما المغرب فكان سبّاقاً الى انشاء "جامعة أميركية" قبل خمس سنوات تستقطب حالياً الآلاف من الطلاب المغاربة والعرب والأجانب. كذلك فإن الدول الثلاث تحظى بدعم عسكري مهم، وان كان الأمر يعتبر جديداً بالنسبة الى الجزائر التي يزداد تعاونها العسكري مع واشنطن تدريجاً. ويرى بعض المراقبين انه خلافاً لما تدعيه واشنطن فانها تريد الاصطدام بالشراكة الأوروبية - العربية، وهي تتعمد ذلك حتماً. ولو لم يكن هذا هدفها لاكتفت بتطوير علاقاتها الثنائية مع كل من الدول الثلاث على حدة، وهو أمر متاح بطبيعة الحال، من دون التسبب في إحراج الدول المعنية بالشراكة، سواء في ما يتعلق بانتمائها الى "اتحاد المغرب العربي"، أو بارتباطاتها الأوروبية التي تنظمها معاهدات مبرمة. وفي اعتقاد هؤلاء المراقبين انه فضلاً عن ان هذه الخطوة تستهدف انتزاع منطقة نفوذ فرنسية - أوروبية تقليدية، فهي تعتبر رداً مناسباً على محاولة الاتحاد الأوروبي انتزاع مناطق نفوذ اميركية في المشرق العربي، عبر الشراكة المتوسطية أو التحركات الفرنسية الواسعة. وقد يكون من حسن حظ الولاياتالمتحدة في هذه المنافسة ان ظل الصراع العربي - الاسرائيلي لن يكون مخيماً على الشراكة الأميركية - المغاربية ومتغلغلاً في تفاصيلها، كما هي الحال بالنسبة للشراكة الأوروبية مع دول المشرق العربي. وإذا كان الاتحاد الأوروبي يجد نفسه مطالباً، لأسباب سياسية وأخلاقية وعملية، باتخاذ موقف متوازن وواضح من الصراع العربي - الاسرائيلي ومن عملية التسوية السلمية المطروحة، فإن الولاياتالمتحدة لا تشعر بمثل هذا الحرج على الاطلاق كما تدل سياساتها ومواقفها، المعلنة والمضمرة. يقول أحد خبراء العولمة انه "بات من الصعوبة بمكان التمييز بين الحد الذي ينتهي عنده النفوذ الأميركي والحد الذي تبدأ معه العولمة"، لأنهما أصبحا متداخلين، أو هكذا تريد واشنطن ان يكونا في الحقيقة والواقع. ولكن ماذا عن الدول المغاربية الثلاث المعنية؟ وماذا عن مصير "اتحاد المغرب العربي"؟. وهل يكون الصمت - حتى الآن - حيال الدعوة الأميركية الملحة، علامة الرضا الخجولة؟ * كاتب لبناني.