تلاشت الامال في ان تحقق "عملية اوسلو" مكسباً كبيراً يتمثل في نمو التجارة بين اسرائيل وجيرانها العرب. ومع ذلك، فما هي آفاق التجارة بين اسرائىل، من جهة، والاردن والسلطة الفلسطينية والدولة المرتقبة مستقبلاً، من جهة اخرى؟ كانت الحركة الحرة للسلع احدى النقاط المركزية في الاتفاق بين الفلسطينيين والاسرائيليين في "بروتوكولات العلاقات الاقتصادية" الموقعة في نيسان ابريل 1994، التي اوجدت في الواقع اطاراً اقرب الى وحدة جمركية، وكذلك في معاهدة السلام الاردنية - الاسرائيلية التي وقعت بعد ذلك بستة اشهر. ما هي حصيلة المعلومات التي تكمن في اساس الامال التي كانت معقودة على تنشيط التجارة بين هؤلاء الشركاء الثلاثة، كما افترض المفاوضون الذين اعدوا لهذين الاتفاقين؟ تمثل اسرائيل، التي تملك اقتصاداً صناعياً متطوراً يبلغ معدل نصيب الفرد فيه من اجمالي الناتج القومي 16 الف دولار، سوقاً تبلغ قوتها الشرائية 130 بليون دولار، وتتركز صادراتها على اوروبا واميركا الشمالية وشرق اسيا نصفها عملياً تكنولوجيا متطورة ومنتجات الكترونية وتكنولوجيا احيائية. بالمقارنة مع ذلك، يمتاز الاقتصاد الاردنيوالفلسطيني بضآلة حجم التصدير والاستيراد، حيث يراوح نصيب الفرد من اجمالي الناتج القومي بين 1500 دولار و2500 دولار، ويبلغ مجموع اجمالي دخلهما القومي 10 بلايين دولار. لكن هذا التفاوت بالذات هو الذي جعل مجموعة البحث في كلية كيندي للادارة التابعة لجامعة هارفرد متفائلة تماماً قبل خمس سنوات. فقد جادل رئىس المجموعة البروفسور ستانلي فيشر الذي اصبح مذّاك رئيس البنك الدولي بان التجارة الحرة بين الاطراف الثلاثة شىء حتمي. فاقتصاد الاردنوفلسطين صغير جداً لدرجة لا توفر للسياسة الحمائية اي فرصة للنجاح. والتناسب بين اقتصاد اسرائيل واقتصادي الاردنوفلسطين يوازي تقريباً نظيره بين الولاياتالمتحدة والمكسيك. وكما بيّنت اتفاقات "نافتا" فان التجارة الحرة كانت قبل كل شيء اكثر نفعاً للطرف الاضعف ولو ان الولاياتالمتحدة استفادت بشكل عام ايضاً. دعونا نلقي نظرة فاحصة على المعلومات لنتبيّن ما اذا كانت مثل هذه الآمال مبررة. قدّرت دراسة اعدتها مؤسسة "سادان - لوينتال للاستشارات الاقتصادية" صادرات الاردن المحتملة الى اسرائيل ب 190 مليون دولار منها 90 مليون دولار للمنتجات المصنّعة، و90 للمواد الكيماوية و10 للخضروات والفواكه. يتمثل مجموع هذه الارقام، في احسن الاحوال، خمس الصادرات الاردنية و 1 في المئة من استيرادات اسرائيل. واذا القى المرء نظرة على الصادرات الاسرائيلية يجد ان السلع المصنعة تمثل 80 في المئة تقريباً، بينما تمثل هذه السلع 40 في المئة من استيرادات الاردن. وعند تقصي طبيعة هذه السلع التي يستوردها الاردن يتبيّن ان نصفها فقط 700 مليون دولار من مجموع 3،1 بليون دولار يمكن تبادله تجارياً بين اسرائيل وبينه. بالاضافة الى ذلك، يمكن للاردن ان يحصل على معظم هذه السلع من بلدان صناعية اخرى. هكذا، لن يشتري الاردن من اسرائيل سوى جزء طفيف من هذه السلع المصنعة. كان يمكن لاسرائيل، على سبيل المثال، ان تزود الاردن نصف حاجاته من بعض المنتجات الصيدلانية. لكن ما الذي يدفع مستورداً أردنياً الى تفضيل ماركة اسرائيلية على ماركة المانية ذات سمعة حسنة؟ فالسعر هو نفسه تقريباً، وبما ان البعد ليس مهماً فان النقل لا يضيف شيئاً يُذكر الى كلفة المنتوج الالماني. تقدر مؤسسة "سادان - لوينتال للاستشارات الاقتصادية" ان استيرادات الاردن من اسرائيل ستبلغ في احسن الاحوال 200 مليون دولار، وهي تمثل 15 في المئة من اجمالي استيرادات الاردن و 2 في المئة من صادرات اسرائيل. ولم تجر دراسات مماثلة عن التجارة الخارجية لفلسطين، لكن هناك كل ما يدعو الى الاعتقاد بأن النتائج ستكون مماثلة على سبيل المثال، يمكن تقدير الصادرات من فلسطين الى اسرائيل ب305 مليون دولار، تمثل 226 ملايين دولار منها سلعاً مصنّعة و37 مليون دولار سلعاً زراعية. ازاء خلفية كهذه بدأ بعض الخبراء الاقتصاديون يتأمل في امكانات توسيع التجارة عبر "التعاقد على مصادر توريد خارجية" sourcing. ويتضمن هذا المصطلح الفني أ التعاقد الفرعي من قبل مؤسسات صناعية مع جهات خارج البلاد للحصول على سلع وسيطة. ب التعاقد الخارجي للحصول على خدمات دعم ادارية من قبل مؤسسات تجارية ووكالات حكومية. ويمثل أ و ب نهايتي سلسلة كاملة. وتوجد بينهما مجموعة من عمليات تتعاقد فيها كيانات زراعية وتجارية مع مجهزين خارجيين للحصول على خدمات لوجستية. و"التعاقد الخارجي" Out-sourcing قائم بالفعل. فالتعاقد الفرعي بين مؤسسات اسرائيلية وتجار فلسطينيين في صناعة الملابس يشمل نصف الصادرات الفلسطينية 148 مليون دولار. ويميل الكثير من منتجي الملابس الفلسطينيين الى الاستفادة من شبكات التسويق العائدة لنظرائهم الاسرائيليين لغرض التصدير عبر اسرائيل الى اوروبا، اذ يحقق ذلك توفيراً مهماً في الكلفة. وينطبق الشىء ذاته على زراعة النباتات المزهرة الوصول الى السوق الهولندية المهمة عبر اسرائيل. ومنذ 1994، اخذ التعاقد الخارجي يظهر في صيغة جديدة، وهي المشاريع المشتركة مع الاردن: يقدم الشريك الاسرائيلي التكنولوجيا و/او قدرات التسويق، فيما يتولى نظيره الاردني تزويد القدرة على الانتاج على سبيل المثال، مؤسسة "صلاح - لاوتمان" للمنسوجات في اربد. وتكمن اهمية هذه المشاريع المشتركة بالنسبة الى الاردن في ان نمو الصادرات الصناعية كان بطيئاً في التسعينات 50 الى 60 مليون دولار سنوياً، بينما كان نمو الصادرات في اسرائيل بليون دولار سنوياً. هكذا، فالأرجح ان تعاني أي تجارة على نمط السوق الحرة بين البلدين اختلالاً في التوازن بسبب التفاوت في القدرة الانتاجية. وستؤدي على وجه التحديد الى تحويل في التجارة بالنسبة الى الاردن والى تجارة جديدة بالنسبة الى اسرائيل. لكن هذا النمط غير المتكافئ يختفي عندما تجري التجارة بين الطرفين عبر تحالفات تعاقدية ومشاريع مشتركة. وتقتضي مثل هذه المشاريع ان يقوم الحليف المُصنّع بتجميع المنتوج طبقاً لمواصفات يحددها الحليف المُسوّق. ومن المحتمل ان يكون المنتوج المعني جديداً بالنسبة الى الشريك الاردني. وقد يكون كذلك بالنسبة الى الاقتصاد الاردني. والارجح ان يخلق هذا التطور انتاجاً اضافياً ويولّد تجارة جديدة بالنسبة الى الاردنيين والاسرائيليين علي السواء. ولاعطاء فكرة عن هذه الامكانية، دعونا نلقي نظرة على الفواكه والخضروات الطازجة. فمن المستبعد ان تستورد مثل هذه المنتجات الاردنية من قبل مصنع تعليب اسرائيلي. واخذاً في الاعتبار كلفة العمل اليدوي في اسرائيل، الارجح ان يفتش المُصنّع المستورد عن مواد مُعالجة مقشرة او مقطعة او حتى معلبة. وللايفاء بشروط الجودة التي يفرضها المستهلك الاسرائيلي او الاوروبي المتقلب الاهواء، يجب ان تُنتج المادة المصنعة وفقاً للمواصفات. ويمكن ان يتم هذا في اطار تحالف تعاقدي بين مؤسسة اردنية تتولى التجميع والمعالجة وصاحب مصنع اغذية اسرائيلي. ويعتبر التعاقد الخارجي في الاراضي الفلسطينية متطوراً بشكل خاص في غزة، ومع ذلك طرأ علىه تغيير مهم في مطلع التسعينات، في الوقت الذي كانوا يستخدمون فيه، كما في السابق، شركاءهم الاسرائيليين لتأمين صلات التسويق. فكانت 10 في المئة فقط من المنشآت الجديدة متخصصة في الملابس بالمقارنة مع 33 في المئة من المنشآت القائمة. وكانت المنشآت الجديدة تضم كمعدل ما بين 15 و 20 عاملاً، بالمقارنة مع 5 لا غير في المنشآت القديمة. وجرى تحسين التكنولوجيا والادارة فيما ارتفع معدل الاستثمار لكل عامل من 2500 دولار الى 30 الف - 50 الف دولار. وامتدت تحالفات التعاقد الخارجي لتشمل الاغذية والمصنوعات الخشبية والورق ومنتجات البلاستيك والاشغال المعدنية. ومنذ توقيع اتفاقات اوسلو، ركزت تحالفات التعاقد الخارجي على الفرص المتوافرة خارج الاقتصاد الفلسطيني. واقامت المؤسسات الاسرائيلية تحالفات ببطء ولكن بثبات، واستثمرت في مشاريع مشتركة مع نظراء في مجال التصنيع في الاردن ومصر: في صناعة الملابس وصناعة الاغذية والاشغال المعدنية والبستنة وزراعة النباتات المزهرة. وكان التغيير الكبير الوحيد في ما يتعلق بفلسطين يتمثل في مواصلة تطوير المناطق الصناعية على حدود 1967 مع غزة والضفة الغربية التي لا تتأثر باجراءات الاغلاق التي غالباً ما تؤذي العمال الفلسطينيين الذين ينتقلون عبر المعابر الحدودية للعمل داخل اسرائيل 6000 عامل في منطقة "باركان" و 2000 عامل في "إيرز"، بالمقارنة مع 2000 في المنطقة الصناعية الوحيدة في الاردن. لماذا تجاهل الاسرائيليون الشركاء الفلسطينيين المحتملين؟ يرجع السبب جزئياً الى ظهور شركاء اكثر فائدة، كما يرجع في جانب منه الى المشاكل المتعلقة بالامن والى الشكوك التي تحيط بالاطار القانوني والمؤسساتي للسلطة الفلسطينية الجديدة. بالاضافة الى ذلك، شرعت السلطة الفلسطينية بتبني نهج - وهو بحد ذاته مشروع تماماً - يعطي اولوية للقضايا السياسية على الانجازات الملموسة. هكذا، غفلت السلطة عن الفرص المتاحة للاستفادة من منشآت الموانىء والمطارات القائمة قبل ان توجّه مواردها الشحيحة الى منشآت تجارية في غزة، وهي منشآت تحتاج الى سنوات قبل ان تملك قدرة تنافسية او تصبح ذات جدوى اقتصادية. وتجاهلت السلطة الفلسطينية المنافع الناجمة عن إدامة الاطار القانوني القائم في ما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية والشؤون التجارية، واختارت بدلاً من ذلك اطاراً جديداً قد يحتاج ترسيخه الى سنوات. واذا اُضيف الى ذلك انعدام ضمانات التعويض من قبل السلطات الاسرائيلية، فان جمود التحالفات التعاقدية الفلسطينية - الاسرائيلية يكاد يكون محتماً. لقد ساهمت عملية السلام التي بدأتها مبادرة الرئيس أنور السادات في 1977 في تجنب نشوب عدد من الحروب الشاملة في الشرق الاوسط. وهي بذلك وفّرت على الاطراف المعنية خسارة تعادل اضعاف اجمالي الناتج القومي السنوي لبلدان عدة، اي مئات بلايين الدولارات. ويمثل هذا بحد ذاته مكسباً اقتصادياً ضخماً. لكن الارباح الناتجة عن التجارة الاضافية هي قضية اخرى. ان ما تجاهله دعاة "الشرق الاوسط الجديد"، مثل شمعون بيريز، هو ان الشرق الاوسط "سوق" تقيّدها قدرة شرائية متدنية. بالاضافة الى ذلك، يميل ميزان صادراتها بقوة لصالح النفط والغاز 75 في المئة من صادرات بلدان الشرق الاوسط، بالمقارنة مع 12 في المئة من السلع المصنّعة و 5 في المئة من صادرات المنتجات الزراعية. وهذا هو السبب الذي يحد من امكان قيام سوق مشتركة. فنسبة الصادرات التي تنشأ اصلاً في الشرق الاوسط لا تزيد على 7،9 في المئة. وسيكون لدمج اسرائيل اقتصادياً في شرق اوسط اكبر حجماً تأثير محدود. فاسرائيل لا تستطيع ان تحوّل، ولن تحوّل، المنطقة الى سوق مشتركة محتملة. اذ يمكن لسوق الشرق الاوسط ان تزود اسرائيل 7 في المئة من استيراداتها، وهي نسبة لا تشكل سوى 2 في المئة من اجمالي صادرات المنطقة. هذا الوضع يختلف بعض الشىء في ما يتعلق بجيران اسرائيل الاقرب، الاردنوفلسطين. فقيمة صادرات السلع منهما تبلغ 3،1 بليون دولار، يُصدّر منها ما قيمته 300 مليون 23 في المئة الى اسرائيل. واذا كان للمرء ان يفترض ان هذه الاطراف ستوظف 20 في المئة لا غير من الامكانات المتوافرة على صعيد التعاقد الخارجي والمشاريع المشتركة، فاجمالي صادراتها يمكن ان يرتفع بما لا يقل عن 600 مليون. بمعنى آخر، ستنمو الصادرات الفلسطينيةوالاردنية معظمها الى اوروبا بنسبة تقرب من 50 في المئة. وهذا تأثير كبير، وإن كان لا يزال افتراضياً. فلتحويله الى واقع يتعيّن اتخاذ قرارات سياسية من قبل الحكومات المعنية. * كاتب اسرائىلي.