الأربعاء الماضي بدأت عملية انسحاب مقاتلي حزب العمال الكردستاني من مواقعهم المنتشرة في مناطق كردية داخل تركيا الى قواعد تابعة للحزب في جبال قنديل، داخل اقليم كردستان العراق. يشكل هذا التطور خطوة مهمة الى حد يجيز وصفها بأنها تاريخية، يأمل الكرد بأن تفتح آفاقاً رحبة أمام الحركات الكردية ليس في كردستان تركيا فحسب، بل في عموم كردستان. يقال هذا مع ان هذه ليست المرة الأولى لانسحاب مقاتلي «الكردستاني» من أراضي تركيا. ففي 1999 إثر اعتقال زعيم الحزب عبدالله أوجلان ونقله الى تركيا ليواجه المحاكمة، قرر الحزب سحب جميع مقاتليه الى قنديل وكان قراراً أملته ظروف ما بعد اعتقال أوجلان، الأمر الذي حتّم على قيادة الحزب أخذ فرصة لالتقاط الانفاس ودرس الخيارات وإعادة شحن معنويات المقاتلين التي ربما كانت ستتعرض لأخطار انهيار محتمل نتيجة لوقوع زعيمهم في يد عدوهم التركي. لكن الفرق الرئيسي بين انسحاب 1999 والانسحاب الحالي يتمثل في أن الأخير يأتي نتيجة لاتفاق بين الحكومة التركية و «الكردستاني»، اثر مفاوضات مباشرة استغرقت شهوراً مع أوجلان نفسه أسفرت عن قراره الموافقة على انسحاب المقاتلين. هذه الموافقة صادقت عليها لاحقاً قيادات الحزب ممتثلة لارادة زعيمها الذي وجّه إليها رسائل أوضح فيها الأسباب التي حملته على اتخاذ قراره في اطار رؤيته لآفاق المستقبل. فوق هذا فانسحاب المقاتلين ليس نهاية الطريق بل بدايته، وفقاً لما وُصف بأنه خريطة طريق أسفرت عنها المفاوضات. والأرجح ان خريطة الطريق المفترضة تقضي بأن كل خطوة تتحقق بنجاح ستتبعها خطوات من الجانبين يؤمل بأن تنتهي الى تحقيق وضع سياسي جديد في تركيا يضمن حقوق الكرد. أما كيف ستكون تركيا الجديدة فهذا يعتمد على طبيعة الاصلاحات السياسية – الدستورية ومداها. في الواقع، بدأت أنقرة مفاوضات سرية مع قيادات في حزب اوجلان في 2009، أجراها في أوسلو المدير السابق لجهاز المخابرات التركية (ميت) إمري تانر ثم واصلها المدير الحالي هاكان فيدان، لكنها انهارت في 2011 بعدما تسرب امرها الى الصحافة، الأمر الذي أثار ضجة واسعة أجبرت حكومة رجب طيب اردوغان على إنهائها. وكادت تترتب على ذلك اجراءات قضائية ضد مديري الاستخبارات لولا ان اردوغان وضع حداً لها بإعلانه ان المفاوضات أجريت بعلمه وموافقته. بعد فترة تخللتها اشتباكات دموية بين الحين والآخر بين مقاتلي الحزب والجيش التركي، قررت أنقرة مجدداً ان تتفاوض ولكن هذه المرة مع اوجلان مباشرة. هكذا بدأت عملية معقدة أطرافها أوجلان والمخابرات التركية وحزب السلام والتقدم (الكردي) وقيادات «الكردستاني» في قنديل وأوروبا، أسفرت في النهاية عن قرار اوجلان وقف النار وانسحاب المقاتلين. ولكن، ماذا حدث خلال الفترة الممتدة بين اعتقال اوجلان في 1999 والتفاوض مع حزبه في 2009، ثم معه مباشرة؟ لقد قضت محكمةٌ بإعدامه يوم كان زعيم حزب اليسار الديموقراطي بولنت أجاويد رئيساً للوزراء، لكن الحكم لم ينفذ وبدلاً من ذلك قررت الحكومة ارساله الى سجن في جزيرة امرالي الواقعة جنوب بحر مرمرة، حيث ظل أوجلان سجينا وحيداً معزولاً عن العالم الخارجي باستثناء لقاءات بين فترة واخرى مع محاميه. في غضون ذلك تجدد القتال بين «الكردستاني» والجيش التركي الذي ظل نفوذه طاغياً في تركيا، وهو وضع بدأ يتغير تدريجياً في ظل صعود «حزب العدالة والتنمية» الذي اسسه اردوغان في 2002 منشقاً عن حزب الرفاه الاسلامي بقيادة زعيمه وعرابه المتشدد نجم الدين اربكان، وسانده حليفه الرئيس الحالي عبدالله غُل، بعدما قررت المحكمة الدستورية حل حزب الفضيلة في 2001. ونجح اردوغان في الوصول الى رئاسة الحكومة بعدما فاز حزبه في انتخابات 2002 ثم في 2007. لكن المؤسسة العسكرية كادت تطيحه في 2008 كما أطاحت اربكان قبله لولا ان المحكمة الدستورية ردت دعوى المدعي العام الذي طالب بحل الحزب بتهمة سعيه الى أسلمة المجتمع التركي. الصراع بين المؤسسة العسكرية وحزب العدالة لم يحسم لمصلحة أردوغان الا بعد فوز حزبه في انتخابات 2011 حاصداً نحو 60 في المئة من اصوات الناخبين. إثر ذلك بدأ اردوغان يفرض إرادته تدريجياً على الجيش، فأطاح في خاتمة المطاف رئيس اركانه ليعين بدلاً منه رئيساً جديداً خاضعاً للمؤسسة السياسية، قبل ان تبدأ الحملة القضائية المشهورة باسم «ارغينيكون» مؤدية الى اعتقال ومحاكمة مئات من العسكريين السابقين، في مقدمهم كبار الجنرالات السابقين، بتهم تراوح بين تنظيم انقلاب 1980 ومحاولة التآمر على حكومة اردوغان. هذه الخلفية تشكل قاعدة لتحول ذي بعد تاريخي في تطور المؤسسة الحاكمة التركية وتحريرها من قيود الاتاتوركية أو الكمالية، ودستورها الذي اعتُبر الجيش بموجبه حامي مبادئها، وقد اتُّخذ ذلك ذريعة لتبرير قيامه بثلاثة انقلابات عسكرية بين 1960 و1980. والحق انه من دون كسر القيود الكمالية القائمة على أساس صهر كل الاثنيات في بوتقة قومية تركية وحيدة، لم يكن ممكناً تحقيق التطورات الحالية لجهة الوضع الكردي. هناك طبعاً تفاصيل واعتبارات اخرى كثيرة تفسر هذه التطورات وترتبط بالسياسات الداخلية والخارجية والمتغيرات الاقليمية والجيوبوليتيكية، ومن ذلك العلاقات المتنامية سياسياً واقتصادياً بين انقرةواقليم كردستان العراق، وتأثيرها في الوضع الكردي في تركيا، بالتالي الانقلاب الفكري على الاتاتوركية، ما سمح بالوصول الى منعطف التفاوض المباشر بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني. هكذا بدأت عملية السلام الراهنة لانهاء الصراع التركي – الكردي الدموي الذي نشب بعد قليل على تأسيس الجمهورية الأتاتوركية في 1924 وأدى الى سقوط حوالى 40 الف قتيل خلال العقود الثلاثة الماضية فقط. عملية سلام طموحة تفترض أن الانسحاب العسكري لحزب العمال الكردستاني من تركيا، الذي بدأ قبل ايام، سيؤدي لاحقاً الى عودته اليها تنظيماً شرعياً ينخرط في العملية السياسية العامة.