بعث جهاز الاستخبارات الاسرائيلي "موساد" برسالة عاجلة، الثلثاء الماضي، الى رؤساء اجهزة الاستخبارات في حلف الاطلسي ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية "سي آي إي" في واشنطن. افادت الرسالة، التي حملت توقيع افراييم هاليفي المدير العام ل"موساد"، بأن أحد عملائه الميدانيين حصل على معلومات مؤكدة بأن زعيم الميليشيا الصربية "اركان" ارسل الى حدود كوسوفو وحدات مكلفة تنفيذ عمليات خطف. كان الهدف التعويض عما لحق بمعنويات الصرب من أذى بعد العملية البارعة التي نفذتها قوات خاصة اميركية لانقاذ قائد طائرة "ستيلث" الشبح الاميركية التي اُسقطت قرب بلغراد. اطلع رؤساء الاجهزة الاستخبارية على رسالة "موساد". لكنها لم تكن المرة الاولى التي احسّوا فيها بأن التحذير الآتي من تل ابيب "لم يكن ملموساً". وقال لي مصدر استخباري في واشنطن "لم تكن هناك اي اشارة الى التوقيت او المكان المحتمل لتنفيذ العملية". كانت لهجة الرسالة توحي بشيء "محتمل" من دون أي تأكيد قاطع. لكن رسالة سابقة من "موساد" قبل شهر كانت اكثر ملموسية. اذ كشفت ان "اركان" - اسمه الحقيقي زيليكو رازناتوفيتش - قام بزيارة سرية لبغداد والتقى صدام حسين في آذار مارس الماضي. وبيّن صدام خلال اللقاء اهمية الانتصار الدعائي الضخم الذي كان حققه في اعقاب أسر طياري الحلفاء خلال حرب الخليج. وعُمّمت تلك الرسالة ايضاً على دوائر الاستخبارات الغربية للاطلاع. صباح الخميس الماضي وجد رؤساء الاجهزة الاستخبارية انفسهم امام صورة لا تزال تؤرقهم. ثلاثة جنود اميركيون بالزي العسكري يواجهون عدسات التلفزيون الصربي وقد بدت عليهم واضحة آثار كدمات وعلامات رعب. وفي غضون دقائق بُثّت صورة الثلاثة، جيمس ستون واندرو راميريز وستيفان غونزاليس، بناء على اوامر شخصية من الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش، لتتناقلها وسائل الاعلام حول العالم. اطلق هذا الحدث عملية ضخمة في واشنطن. وفي البنتاغون، لم يكن امام قادة هيئة الاركان المشتركة سوى سؤال واحد: هل يمكن انقاذ الرجال الثلاثة؟ جرى اتصال عاجل ب "فورت براغ" في كارولينا، حيث يوجد مقر اكثر الوحدات سرية وغموضاً في القوات الاميركية: "القبعات الخضر"، ووحدة "سيلز" التابعة للبحرية، وقوة "دلتا فورس". هناك، نفض قادة عسكريون الغبار عن خطط خاصة للطوارىء. لكنهم توصلوا في غضون ساعة الى استحالة القيام بعملية انقاذ. واُحيط البيت الابيض علماً. ولم يمنع ذلك الرئيس كلينتون من الظهور على شاشة التلفزيون ليتعهد بأن "اميركا ترعى ابناءها". لكن كلماته بدت جوفاء داخل البنتاغون. اثناء ذلك، كانت عملية اخرى قيد التنفيذ. في "فورت ميد" في ماريلاند، جنّدت وكالة الامن القومي - التي تشرف على كل جوانب العمليات الاستخبارية المتعلقة بتكنولوجيا الاتصالات والاقمار الاصطناعية والتشفير - اكثر انظمتها تطوراً وسرية. احدى هذه الانظمة شبكة تنصت الكترونية هائلة يُرمز اليها ب"النسق" Echelon، تربط اقماراً اصطناعية و "محطات تنصت" بسلسلة من اجهزة الكومبيوتر المتوازية العملاقة. وهي تلتقط وتحلل عملياً انواع الاتصالات الالكترونية في انحاء العالم، وتستطيع ان تتعامل مع 3 ملايين محادثة واتصال في آن. وجّهت الوكالة كل قدرات شبكة "النسق" الى بلغراد لتعرف كل ما يدور في المدينة ويتناقل من اتصالات. واستطاعت ان تلتقط في وقت مبكر نيات الصرب تقديم الجنود الثلاثة الى محاكمة صورية وتوجيه اتهامات بالتجسس وارتكاب "جرائم حرب". منح ذلك ادارة كلينتون وقتاً ثميناً للتخطيط واعداد ردها المضاد - علناً وسراً على السواء. على الصعيد العلني، حافظ كلينتون على رباطة الجأش، مظهراً عزم الولاياتالمتحدة وتصميمها، بل حتى التحدث بنبرة التهديد. وبعيداً عن الاضواء، كان البيت الابيض يستخدم "خط الاتصال الهاتفي الساخن" مع موسكو لطلب دعم الكرملين ومساعدته لاطلاق الجنود. لكن هذا المسعى لقي رداً فاتراً. في غضون ذلك، عكفت "سي آي إي" في مقرها في لانغلي فيرجينيا على جمع اقصى ما يمكن من معلومات عما حدث للرجال الثلاثة، منذ لحظة خطفهم داخل مقدونيا في ساعة مبكرة صباح الخميس الماضي. وانكب خبراء على فحص وتحليل الصور التي بثها التلفزيون الصربي، ليخرجوا منها باستنتاجات عن المعاملة التي لقيها الجنود على ايدي المحققين الصرب، وحالتهم النفسية، والاحتمالات. كل شيء خضع للتدقيق والتمحيص: حركات العيون الزائغة والشفاه المتهدلة، وعلامات الذهول. وكان مهماً ملاحظة ما قد يشير الى استخدام عقاقير للتأثير في الحالة العصبية وتطويع المتلقي، واستثارة شعور وهمي بالذنب. مثل هذه الادلة، وما سيخرج به خبراء "سي آي إي" من استنتاجات، ستساعد الادارة على التهيئة لخطواتها المضادة تحسباً لاحتمال تقديم الثلاثة الى محكمة صربية. وهي ادلة ستُستخدم لاثبات انهم كانوا ضحية عملية "غسل دماغ"، مثلما كان مصير اسرى الحرب الاميركيين في الحرب الكورية. كما ستكون جزءاً من الادلة التي تقدم الى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لادانة "اركان" وغيره من قادة الصرب، وربما سلوبودان ميلوشيفيتش نفسه. فقد حمّله كلينتون المسؤولية عن سلامة الجنود الثلاثة ومصيرهم. وأياً تكن النتيجة، فإن الحادث وما أثاره عمّقا مشاعر القلق والتشاؤم التي تخيّم على واشنطن هذه الايام من جراء حرب البلقان.