مع مطلع هذا العام رحل ثلاثة من كتاب ومفكري وأدباء مصر، الناقد المسرحي علي الراعي من مواليد 1920 والكاتب الروائي المبدع فتحي غانم من مواليد 1923، والأديب المثير للجدل والسياسي الموهوب لطفي الخولي من مواليد 1928. ولما كنت من مواليد 1924، تولد لديّ - ولدى معظم جيلي، إحساس قوي غير معلن، وهو أن جيلنا - وكثيراً ما يسمى جيل الأربعينات - انفرط عقده، وعليه ان يسلم الراية الى جيل آخر - يمكن أن نسميه جيل السبعينات. والجيل الذي أمثله تشكل وجدانه بين طيات مرحلة الاربعينات التي شهدت أحداثاً محلية وإقليمية وعالمية تعتبر مفصلية وفاعلة في تاريخ القرن العشرين كله، فالحرب العالمية الثانية 1939-1945 كانت حدثاً عالمياً ضخماً، غيرّ موازين وأفكاراً كثيرة، ليس من ناحية أن العالم فقد أرواحاً بالملايين، أو لأن الحرب - من خلال البحوث العسكرية وتقدم الأسلحة، بما فيها القنبلة الذرية - كانت البداية لعصر التقدم التكنولوجي الذي نعيشه، وإنما أيضاً لأن الحرب قهرت الايديولوجية النازية والفاشية. فتعلم جيلي درس التاريخ، وهو أن الأفكار والايديولوجيات المتطرفة التي تحمل أشكالاً مختلفة من الفاشية - والتي آثروا ان يغيروا اسمها الى الأنظمة الشمولية - ليس من سبيل لقهرها إلا بالقوة العسكرية. ثم كان انطلاق الشيوعية البلشفية الروسية من محبسها الذي فرضه الغرب عليها. ومن خلال هذا الانطلاق الايديولوجي في السنوات الأخيرة من الحرب، انبهر جيلي بالايديولوجية الماركسية والشيوعية. وخلال النصف الثاني من الاربعينات كانت الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الشيوعي، فتكون حلف شمال الأطلسي، والذي سمي من وقتها الى الآن "الناتو"، بزعامة أميركا، وفي المقابل تكون حلف وارسو الذي تفكك في اوائل التسعينات. وكان لهذه الأحداث العالمية تأثيرها على البنية الفكرية والوجدانية لجيلي، وربما كانت هي البداية للإطلال على "العالمية" - قبل ان تنشأ - من منطلق أن اهتمام الأجيال السابقة على جيلي كان مركزاً على استقلال الوطن كقضية محورية. ومن أهم ما جرى خلال حقبة الاربعينات - من الناحية الاقليمية - الأحداث التي بدأت بقرار الأممالمتحدة لتقسيم فلسطين وما تلاها من حروب بين العرب والعصابات اليهودية، والتي توهم جيلي من الشبان أنها لا بد وأن تنتهي بانتصار العرب، فكانت الصدمة بأحداث حاولنا أن نجد لها مبررات مثل الأسلحة الفاسدة التي اشتراها عملاء الملك فاروق، أو مواقف "التردد" للأمير عبدالله، أمير شرق الأردن، ومن وقتها الى الآن، ما زلنا نعيش قضية "الصراع العربي- الاسرائيلي". وأتصور ان جيلي سيسلم الراية الى جيل صاعد، وهي راية غير خفاقة، لأننا لم نخض المعركة الفكرية او العسكرية أو الاقتصادية بفهم أو اقتدار، وهو أمر أراه الآن دخل مراحل أكثر نضجاً وفهماً نتيجة مسار طويل من الكر والفر، معظمها هزائم تفرض على الجيل المقبل تحديات هائلة في مجالات كثيرة. على أنني أكتب هذه الأسطر، لأركز على مجال العمل الوطني الداخلي، فقد تسلم جيلي العَلَم من جيل العشرينات الذي عايش وعاصر وانفعل بثورة العام 1919، وعشنا فترة الاستقلال الوطني الجزئي، والذي حصل عليه جيل سابق عندما أُعلن تصريح 28 شباط فبراير 1922، ثم كان هناك توقيع معاهدة العام 1936 "للشرف والاستقلال"، فاكتشفنا بعد الحرب العالمية الثانية، أنه استقلال "منقوص" أو في حقيقته استقلال "مغشوش". وفي 1946 كانت مفاوضات صدقي - بيفن بين الحكومة المصرية وحكومة بريطانيا التي لم تعد "عظمى" بعد الحرب العالمية الثانية. وكل أبناء جيلي ساهموا، بشكل أو بآخر، في تظاهرات الاحتجاج التي منعت التصديق على المعاهدة التي كان وقّعها بالأحرف الأولى كل من أرنست بيفن وزير خارجة حكومة العمال البريطانية واسماعيل صدقي باشا رئيس حكومة مصر وقتها. وفي هذه المناسبة، أذكر، بل لعلي أرغب في أن أسجل في ذاكرة جيل السبعينات كيف أن المفاوضات تعطلت وتعرقلت ليس بسبب انسحاب الجيش البريطاني من ثكناته في القاهرةوالاسكندرية ، ولا بسبب الجلاء عن القاعدة العسكرية البريطانية في منطقة قناة السويس، وانما بسبب أن كثرة من قيادات ومثقفي شعب مصر كانوا متمسكين بشعار "وحدة وادي النيل"، والتي كانت تعني وقتها وحدة السودان ومصر، وهو أمر لم يتحقق بل تعرقل لأسباب كثيرة ليس هنا مجالها. ولو ان مصر والسودان توحدا - بأي صورة أو شكل - لكان تاريخ كل من البلدين تغير، وفي الأغلب، لكان مسار حركة التاريخ في المنطقة تغير أيضاً. وكلمة "لو" يأتي ذكرها كثيراً عند من هم في سني، عندما يكتبون المذكرات أو الوصايا، كما في حالتنا هذه. وبدلاً من أن يتمسك جيلي بقضية وحدة وادي النيل، أو أن تكون رؤية ممتدة نحو الجنوب، وبسبب الهزيمة في حرب فلسطين العام 1948، اتجه نظر جزء من جيلي - الذي حارب في الفالوجا وقُهر - ممثلاً في الشباب الذي التحق بالقوات المسلحة، وتأثر بما شاهد في فلسطين وسيناء، فاتجه نظره الى الشمال، وترسبت في وجدانه أهمية دعم وتقوية أوصال الروابط بين مصر واشقائها العرب، فكانت كتيبة جمال عبدالناصر و"الضباط الاحرار" - ومعظمهم أيضاً من جيل الاربعينات، التي وجدت في انتماء مصر الى العروبة ما يطمس انتماءها الى وادي أو حوض النيل. ولذلك فإن حركة "الضباط الاحرار" - ككتيبة فاعلة من جيل الاربعينات - قادت مسيرة الاستقلال الوطني وحسمتها بالاتفاق والمعاهدة مع بريطانيا في 18 حزيران يونيو 1954، وتخلت مصر عن قضية السودان، وحصل الاخير السودان مبكراً على استقلاله في أول كانون الثاني يناير 1956، بينما استطاعت مصر توقيع ميثاق الوحدة مع سورية في شباط فبراير 1958، فتغيرت موازين السياسة واتجاهات الريح. وبذلك دخلت مصر منعطفاً تاريخياً انتهى إلى ما انتهى إليه من الانفصال العام 1961 ثم هزيمة حزيران يونيو 1967. وهو الحدث الجلل الذي أفرخ جيلاً جديداً احتج على هذه الهزيمة بطرق شتى خلال تظاهرات الطلبة من 1968 الى 1972. ومن هنا كانت الولادة الطبيعية لجيل جديد يعرف عادة "بجيل السبعينات"، وهو الذي خاض حرب تشرين الاول اكتوبر 1973، ويحتل - بشكل أو بآخر - المواقع الأمامية السياسية في الحقبة الحالية. ومن ثم رغبتُ في أن تكون رسالتي او "وصيتي" الى هذا الجيل الذي قاد حركة احتجاج من نوع خاص، مساهمة في تأهيله لأن يمضي في طريق يصل الى مدى أكثر توفيقاً مما أنجزه جيلي. كما عاصر جيلي خلال الفترة السابقة على الحرب العالمية الثانية واللاحقة لها اوبئة عدة أو أمراضاً عاصفة قاتلة - كان يشار إليها في التاريخ بعبارة "الطاعون"، حصدت آلاف الفقراء. وكان آخر ما علق بوجداني من هذا انتشار الكوليرا قبل الحرب العالمية مباشرة والذي أعاد الكرة في تشرين الاول 1947، فأعلنت مصر دولة موبوءة بهذا المرض اللعين، وأغلقت محافظات عدة فيها مثل الشرقية التي انتشر هذا الوباء اللعين في مختلف انحائها. وأعود بالذاكرة الى 1945 عندما تخرجت في كلية الهندسة، والتحقت بالعمل مفتشاً للري في مدينة طنطا، في "صرة الدلتا". وبحكم عملي هذا كنت أجوب الريف لأعاين الترع والمصارف، وكيف أن الفلاح المصري لم يكن يلبس سوى جلباب أزرق - على اللحم - ومن هنا كانت الكتابة عن "أصحاب الجلاليب الزرقاء" - قبل ان تبتكر أميركا "البلوجينز" - لتعبر عن ملايين الفلاحين من الأُجراء الذين لم يكونوا يملكون من حطام الدنيا أي شيء، وكانوا ينامون في "الوسية" التابعة لمالك الأرض، ولا يعرفون من أحوال الدنيا شيئاً. وأتذكر ما قاله لي أحد الفلاحين المصريين الذين قابلتهم مصادفة على شاطئ ترعة من أنه لا يعنيه سوى أنني لو أملك أرضاً فإنه على أتم الاستعداد للعمل فيها. وعندما ذكرت له اسماء بعض السياسيين، قال: "إننا لا نحب إلا سعد باشا"، ووقتها كان سعد زغلول غادر الحياة منذ 18 عاماً. وأتذكر الآن، كيف أن بعض الأميرات من العائلة المالكة - وكان جيلي منبهراً بجمالهن، ورقّتهن، تبنين مشروع "مقاومة الحفاء"، ذلك لأن غالبية أهل الريف وكثرة من أهل المدن، لم تكن في حوزة الواحد منها حذاء من أي نوع ينتعله. واتذكر أيضاً كيف أن أجر العامل قبل الحرب العالمية الثانية، لم يكن يزيد على خمسة قروش في اليوم، ولعل حده الادنى لم يصل إلى عشرة قروش إلا بعد قيام ثورة تموز يوليو 1952 بعام أو اثنين. أما الأجر الشهري للخادم أو الخادمة في منازل الطبقة المتوسطة، فكان في حدود 20 إلى 30 قرشاً. أي أن الفقر كان مدقعاً عنيفاً صارخاً، كما كان الغلاء يضرب بجذوره في أعماق معظم أفراد الشعب، كما سبق ان ذكرت. وتأثر جيلي بظاهرة تفشي الأمراض بين الشعب، فموت الرضّع كان من الأمور التي تمر من دون حزن يذكر، لدى كل من الطبقات الفقيرة والمتوسطة معاً. فالاسهال والنزلات المعوية كانت امراضاً تفاجئ الرضع من دون سابق إنذار، وفي ساعات كان ينتهي الأمر ويتم الدفن في هدوء وبسرعة. فكلمة البنسلين أو مجمل "مضادات الحيوية" كانت من ابتكارات الطب خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، ولكنها لم تظهر في الاسواق وتتوافر لدى الكافة إلا في اوائل الخمسينات. وكم كنت أخاف من منظر الأطفال وقد تجمع الذباب على وجوههم حتى كاد يخفي ملامحها البريئة! ألخص، فاقول إن جيلي ثأر بسبب الغيظ المكبوت من سوء أحوال معظم الشعب، فكان أن رفع قادة الفكر في المجتمع شعار "القضاء على الفقر والجهل والمرض". وقد يكون هذا الشعار - على رغم عدم ذكره صراحة - من الخلفيات الوجدانية التي دفعت "الضباط الاحرار" - كطليعة تحمل السلاح ولديها أدوات التغيير وقتها - لأن تقوم بثورة تموز، وكان تركيزها فعلاً على تحسين الدخول، أي القضاء على الفقر، ثم قرر قادتها - وعلى مراحل - التعليم، فأضافوا هدف القضاء على الجهل. وأخيراً حاولوا توفير العلاج المجاني بوحدات الريف المجمعة، للقضاء على الأمراض المتوطنة من البلهارسيا والانكلستوما، وما على شاكلتها. ها هو جيلي يشاهد أحداثاً سياسية كثيرة، وإصلاحات اجتماعية متتالية، ومشاريع تنمية متعاقبة، من مرحلة الاربعينات الى قرب نهاية القرن، ولا شك في أن أموراً كثيرة تحسنت. فالدخول ارتفعت بشكل واضح، ولكننا كنا نطلب المزيد. فالفجوة بين الأثرياء والفقراء كانت ولا تزال كبيرة وفي ازدياد مستمر. وأنشأت حكومات الثورة آلاف المدارس الابتدائية والاعدادية والثانوية، فضلاً عن العديد من الجامعات، فهناك الآن 14 جامعة مدنية في مصر، ووقت تخرجي العام 1945 لم يكن في مصر إلا جامعة فؤاد الأول في الجيزة ونواة لجامعة فاروق الأول في الاسكندرية. ولكي تكتمل الصورة لا بد لي أن أسجل أن مصر لا زالت تعاني من نسبة عالية من الأمية تنخر كالسوس بين ملايين من المواطنين، ولا تزال هناك أمراض متوطنة لم نقض عليها بعد، وهو الأمر الذي يدعوني لألح على أن شعار "القضاء على الفقر والجهل والمرض" لم يكتمل تنفيذه حتى الآن. صحيح أن الكثيرين من أهل التخطيط يكررون أن معدلات التنمية لا تزيد كثيراً على معدلات زيادة السكان، ومن ثم فإن أزمة مصر هي في زيادة سكانها. إلا أنني اضيف أن ثراء مصر أيضاً هو في معدن أهلها، ومن ثم فالزيادة في السكان وحدها ليست سبب التخلف، وإنما عدم وجود خطط تنمي الطاقات المقبورة. وبعد مسيرة حقبة عبدالناصر والسادات، إذ بأحوال العالم كله تتغير، وإذ بهيئة الأممالمتحدة تعنى بقضايا "الفقر والجهل والمرض" ولكن الصياغة كانت مختلفة. فالقضاء على الفقر عموماً أمر غير ممكن، ولذلك آثر "برنامج الأممالمتحدة للتنمية UNDP" ومنذ 1990، أن يصدر تقريراً سنوياً يقنن و"يقيس" درجة الفقر والجهل والمرض في كل بلدان الدول الأعضاء، ويضع معايير أكثر قبولاً من شعارات جيلي في الاربعينات، وعلى النحو التالي: - تقدير السن المتوقع في المتوسط للفرد عند الولادة. - تقدير أنواع ومستوى التحصيل من التعليم والثقافة والمعرفة. - تقدير حصة الفرد من الناتج المحلي والاجتماعي. وللتوحيد كان القياس بالدولار المكافئ لقوته الشرائية. وانزعج جيلي لأن تقدير التقارير الدولية لموقع مصر كان يعطيها ترتيب 114 من بين 160 دولة عام 1990. ثم جاء ترتيب مصر في رقم 124 من بين 173 دولة في تقرير 1993، فأدركنا أن اعتقادنا بأن الاستقلال وحكم مصر من ابنائها سيقضيان على الفقر والجهل والمرض، لم يكن إلا وهماً. ففي تقرير 1990 قُدر العمر المتوقع عند الميلاد ب62 عاماً في 1987 وبلغ معدل القراءة والكتابة للبالغين 45 في المئة العام 1985، أما دخل الفرد من الناتج المحلي الاجمالي في العام 1987 فبلغ ما يوازي 680 دولاراً اميركياً تساوي 1357 دولاراً معدله بمكافئ القوة الشرائية للدولار. وهذه الأرقام تفضل كثيراً أحوالنا في حقبتي الاربعينات والخمسينات، ما يعني أن أحوالنا الآن تحسنت كثيراً، عما مضى. ولكن ان تحتل مصر هذا الموقع المتأخر بالنسبة الى باقي الدول، فهو امر استفز جيلي كثيراً، إذ كان طموحنا ان يحتل بلدنا موقعاً أكثر تقدماً في ترتيب دول العالم، خصوصاً ان تراثنا يؤهلنا لذلك. وأزعج هذا الأمر الحكومة أيضاً، ومن ثم حاولت من جانبها أن تتدارس المسألة، فكلفت خبراء من معهد التخطيط القومي بإجراء دراسات تفصيلية للتنمية البشرية في مختلف أنحاء البلاد، أي بين الحضر والريف ثم بين الوجه البحري الدلتا وهي أفضل حالاً من الوجه القبلي الصعيد في الجنوب. وصدرت في هذا الشأن تقارير مصرية عدة ابتداء من 1994. ثم جاء تقرير 1996 لكي يركز على مشكلة الفقر، خصوصاً وأن الهيئات الدولية أعلنت - بالسذاجة نفسها التي كان عليها جيلي - ان 1996 سيكون عام القضاء على الفقر. وكانت مصر قطعت الجزء الأكبر من برنامج الاصلاح الاقتصادي والذي كان متوقعاً منه ان يؤثر على شرائح "محدودي الدخل". وقامت الدول الغربية بإنشاء الصندوق الاجتماعي، لكي يساهم في تخفيف الضغوط الاقتصادية على فقراء مصر، غير أن تقرير التنمية البشرية المصري لعام 1996، أقر حقائق عدة بشعة. وأرقاماً ما كان ينبغي لمصر ان تصل اليها قرب الألفية الميلادية الثالثة. أختم فأقول، إن جيلي يمضي وهو حزين، فما كنا نتصور بعد كفاح استكمال الاستقلال، ونضال الحروب مع اسرائيل، والقيام بثورة لها سمات التقدم والاهتمام بالفقراء، ان نختم القرن أو العمر ولدينا هذه الدخول المتدنية والأمية المتفشية، والأمراض التي صارت كلفة علاجها مستعصية، ومن ثم أرى في الأفق تغيراً تدريجياً، يحمل لواءه جيل السبعينات الذي يملك أدوات أفضل في "طريق ثالث" هو مزيج من الناصرية والليبرالية في صياغة تحمل نكهة دينية مرتكزة على التكافل الاجتماعي، وإن غداً لناظره قريب. * كاتب مصري.