ما ان يهل علينا شهر تموز يوليو من كل عام، إلا ويتجه فكر جيلي نحو تاريخ ثورة 1952 الذي مضى وانتهى، غير ان ذكرياته وآثاره ستظل لسنوات موضع جدل ومناقشة، بين مؤيد ومعارض. ويرجع هذا الجدل ليس فقط الى ان تلك الحقبة كانت مشحونة بالعواطف الجماعية الجياشة، سواء على المستوى المحلي المصري او المستوى العربي وربما العالمي، انما لأننا لا زلنا نعيش آثارها حتى الآن. فالصراع العربي - الاسرائيلي تهتك في حرب حزيران يونيو 1967، واراضي هضبة الجولان لم تسترجع بعد، وحلم القومية العربية خبا وضمر. وواقع الأمر، ان ثورة تموز كانت قصيرة العمر نسبياً، فعلى رغم ان بدايتها الرسمية الاحتفالية كانت وستظل مع فجر يوم 23 تموز 1952، لكن كثيرين - وأنا منهم - يعتبرون ان المولد الحقيقي لهذه الثورة وبزوغ شخصية عبدالناصر كقائد لا يبارى في كل من مصر والعالم العربي بل والعالم، كان مساء يوم 26 تموز 1956 عندما أعلن في خطابه التاريخي قرار تأميم شركة قناة السويس العالمية. وعلى رغم النقد اللاذع الذي وجهه اخيراً استاذ جيلي نجيب محفوظ لهذا القرار والذي رآه عملاً غير ناضج، فإنه لا ينكر أن عبدالناصر يومئذ احتل موقعاً خاصاً في قلوب الملايين من رجال ونساء وأطفال العالم الثالث، والتي عانت من الاستعمار الانكليزي والفرنسي والايطالي والهولندي وغيره. وكان عبدالناصر، بهذا العمل المباغت غيرالمسبوق، ثأر لهذه الملايين، وكان من نتائج قراره هذا أفول عصر الاستعمار البريطاني الفرنسي وبزوغ العصر الاميركي الذي اسس النظام العالمي الجديد. كما ان كثيرين يرون - وانا منهم أيضاً - ان ثورة تموز 1952 انتهت بل ودُمرت وهُزمت مع صباح يوم 5 حزيران يونيو 1967، فقد تمكنت اميركا وإسرائيل ودول اخرى كثيرة مساعدة من "اصطياد" الثورة وإصابتها في مقتل، ويعود نجاح هذا المخطط الملعون، ليس فقط لحسن التخطيط والترتيب على مدى سنوات عدة، ولكن لسوء الادارة الاستراتيجية لكل من الامور العسكرية والمجتمعية، ما اوصلنا الى هذه المأساة. ومن ثم فإن الثورة الناصرية لم تعمر في الواقع العملي الا لنحو احد عشر عاماً مملوءة بالانتصارات والابتهاجات والنجاحات، كما هي مملوءة بالانكسارات والدموع والفشل. ومن هنا جاء ثراؤها بالأحداث والقرارات والمواثيق الفكرية وستظل في مجملها موضع تقويم من المفكرين والكتاب لأجيال مقبلة. ولا يمكن ان يعزى نجاح حركة "الضباط الاحرار" في الاستيلاء على الحكم من خلال التجهيز، والذي يبدو انه لم يكن محكماً، لإنقلاب عسكري نجح في الاستيلاء علي السلطة، لمهارات المجموعة القائدة بقدر ما كان نتيجة ظروف وأوضاع وتركيبة وتنظيم الجيش في تلك الحقبة، اذ كان هشاً مخترقاً، ولم تكن ادوات الاتصال والتصنت الحديثة متاحة. ولذا فإن تكرار ما جرى في تموز 1952، صار صعباً وربما مستحيلاً. فضلاً عن ان الظروف المحلية في مصر كانت حبلى بالتغيير. فالأحزاب السياسية متناحرة ومتصارعة في رؤيتها حول اسلوب المفاوضات مع الانكليز لاستكمال الجلاء من منطقة قناة السويس وقبول مبدأ وحدة وادي النيل. كما كان الدستور الذي أُقر العام 1923 يزخر بالثغرات التي مكّنت الملك فؤاد ثم فاروق من اقالة حكومة الوفد بشكل "دستوري"، وإحلال حكومات من احزاب هشة لا تستند الى شعبية فاعلة، كما كانت الفوارق بين الاثرياء والفقراء شاسعة، ونخر الفقر والجهل والمرض عظام المجتمع المصري. كما كان حديث الكواليس عن الفساد والرشاوى هو المادة الرئيسية للصالونات ونوادي الاحزاب، في وقت لم تكن لدى الدولة ادوات السيطرة على الرأي العام، فتوزيع الصحف محدود والامية منتشرة، ولم نكن نعرف وقتها الا الراديو سبيلاً لمعرفة الأخبار. في هذا المناخ استطاع عبدالناصر وجماعته ان يوظفوا اللواء محمد نجيب، وكانت له سمعة طيبة داخل الجيش وخارجه، الى ان كان الصدام باستخدام بعض قيادات النقابة العمالية والذي ترتب عليه إبعاد محمد نجيب في اذار مارس 1954، وطالبنا نحن طلاب البعثات في انكلترا - ومن خلال اجتماعات تاريخية صاخبة في النادي المصري في لندن - بضرورة "عودة الجيش الى ثكناته" والسماح للأحزاب القديمة والجديدة بممارسة نشاطها والتجهيز لانتخابات عامة تعيد الحياة النيابية والديموقراطية الى مصر. لكن مسار التاريخ لا يستجيب لشعارت الصالونات والحناجر العالية خارج الوطن. ومن هنا فإنني- مثل بعض مثقفي تلك الحقبة - لم اعد متعاطفاً مع الثورة على الرغم من حماسي لها في أيامها وأسابيعها الأولى. وانقلبت معادياً لها فور ان صدر قرار من محكمة عسكرية شكلية متغطرسة بإعدام زعيمي عمال مصانع كفر الدوار العام 1953. ومن الأمور الجديرة بالتذكر - في هذه المناسبة - ولتوفير المعرفة لجيل الشباب الحالي، والذي لم يكن قد وُلد بعد، هو ان الذي دعا الى تحويل اسم "حركة الضباط الاحرار" من عبارة "الحركة المباركة" الى عبارة "الثورة" كان هو الليبرالي المثقف نادر المثال الدكتور طه حسين، واحسب ان المقال الذي تضمن تلك الدعوة كان من خطاياه او اخطائه، فقد كتب في مجلة "التحرير" - لسان حال "هيئة التحرير" التي انشأها الجيش لتكون تنظيمه الشعبي - وذلك في اول كانون الاول ديسمبر 1952 ما يلي "لم افهم الى الآن لمَ أظهر رئيس وقائد الجيش اللواء محمد نجيب في بعض خطبه كرهه لكلمة الثورة وايثاره كلمة "النهضة". واضاف "لقد اتيح لنا البدء في هذه النهضة منذ ثلاثين عاماً، اما ما نحن فيه منذ تموز الماضي فهو اعظم خطراً من النهضة كما ألفها الناس وليس هو تطوراً يحدث هيناً ليناً رقيقاً في ظل الدستور والقانون وانما هو خروج عنيف على هذا النظام ومحاولة عنيفة لتغييره جملةً او تفصيلاً . وأوضح انه "ليس للحركة التي تخرج على النظام بالقوة وتريد تغييره بالقوة أيضاً، وتخلع ملكاً وتولي ملكاً طفلاً، وتعلق نظام الملك بين السماء والارض، ليس لهذه الحركة الا اسم الثورة" انتهى نص العبارات المهمة لطه حسين. وهذه العبارات بالغة الدلالة، وهي موضوع هذا المقال، لانها تعني خلافاً جذرياً بين مفهومين سياسيين لكل منهما ارتباطه بتغيير تاريخي ضخم. ومن المفارقات المثيرة للدهشة والتأمل ان الذي رغب بالانتقال من "الحركة" الى "النهضة" كان لواءً من الجيش وقائد الثورة العسكرية وهو محمد نجيب، بينما طه حسين يدعو "الحركة" لأن تكون "الثورة"، وهو رمز الليبرالية والمفكر البارز الذي درس في فرنسا بل وتزوج من فرنسية، وقاتل من اجل الديموقراطية، وصارت عباراته مقدسة في مجال الحريات. ومن هنا تبدو هذه المفارقة امراً عجيباً ومثيراً لمزيد من التحليل، ليس لشخصي محمد نجيب وطه حسين وإنما لإلقاء اضواء ومقارنة بين مفهوم "النهضة" ومفهوم "الثورة"، وهي امور تتعلق بالتحرك السياسي المستقبلي في العالم الثالث. ذلك ان "الثورة الفرنسية" العام 1789 وُلدت حاملة لأفكار البورجوازية المثقفة الثرية بكتابها ومفكريها والتي كانت ثمرة لقرون عرفت تاريخياً بعصر النهضة والتنوير ثم طرحت شعارات العدل والمساواة والإخاء. فعلى رغم ان فعلها واسمها كان "الثورة" - وقد كانت كذلك بالفعل - ولكن بسبب ان جذورها الثقافية كانت "النهضة" و"التنوير"، اتسمت "الثورة" بالاستمرار أي لم تقطع الصلة بالماضي بل بنت عليه، ولذا انتقلت بعدها الى عصر ازدهار العلم بإبداعاته وابتكاراته ثم تطبيقاته المسماه بالتكنولوجيا حالياً. وأدى مسار الثورة الفرنسية الى ازدهار الحضارة الغربية، وسار في طريق فرنسا نفسه كل دول اوروبا الغربية وأيضا اميركا، لأن لديهم مفاهيم "النهضة" اي التصحيح لما هو قائم من خلال آليات الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة، والمنافسة بين الآراء والايديولوجيات وقبول التنوع كظاهرة طبيعية انسانية، فالمتوقع ان يستمر تقدم وازدهار هذه الحضارة التي رست وتأسست على مفهوم "النهضة" وقبول الماضي وليس تحطيمه. أما ما جرى في روسيا القيصرية العام 1917 وانتهى الى إنشاء اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية العام 1922، وعلى رغم مسمى "ثورة" لكن ركيزتها الفكرية كانت تدمير الماضي وتحطيمه، وأصرت على عبارة "ثورة" وليست "نهضة" فألغت الاديان بقرار ثوري علوي وتحولت الماركسية - اللينينية ذاتها من ايديولوجية الى دين، ولذا يتم اتخاذ نصوصه كمبرر او منطق لأي عمل جديد، وصارت صفوف زيارة قبر "لينين" كمثل استخدام النصوص الدينية في مقدمات اطروحات الدكتوراه، وقهر التراث لكي يحل محله الجديد لأنها "ثورة". وإذا عدنا من رحلتي الثورة الفرنسية والثورة البلشفية الى مصر وما بها من مناخ ثقافي العام 1952، نجد ان المثقفين في معظم بلدان العالم الثالث - وانا منهم - متعجلون "التغيير" لكي نقطع سنوات التخلف بسرعة ونقضي على الفقر والجهل والمرض في سنوات، لذلك وقع طه حسين وكثيرون معه في مصيدة "الثورة" التي تنكرت للماضي وكأن مصر وحضاراتها وتاريخها القديم والحديث لم يبدأ إلا مع فجر يوم 23 تموز 1952 وتم التبشير بذلك بصناعة الشعارات والاغاني. اما من يخرج على هذا الإجماع الشعبي فهو معادٍ للثورة، وفقد المجتمع المصري ما كان متاحاً عبر ليبرالية ثورة عام 1919 من آليات التصحيح الذاتي وصرنا جميعاً ملتفين حول "الرمز" الذي لا يخطئ، ننتظر إلهامه وقراره. فلا عجب ان سكرنا بخمر الوحدة مع سورية، في شباط فبراير 1958 لكننا لم نعِ درس الانفصال عام 1961، ولو كانت هناك ادوات وآليات التصحيح الذاتي، ولو كان هناك مسطح اكبر من حرية الرأي، لكانت الأعين انفتحت وأدركت ثم نادت بعدم كفاءة عبدالحكيم عامر كقائد للجيش، اذ كان من 1958 حتى 1961 على رأس قمة الهرم الإداري في سورية، هو وحواريوه من رجال الجيش الذين ينقصهم البعد الثقافي والتنويري لأنهم لم يعيشوه أو يعايشوه بل تصوروا ان "الثورة" انضباط وأوامر تسمح لهم بقهر وحبس وحتى تصفية اعداء تلك "الثورة" لأنهم ضد التاريخ، وكان ان تم اعتقال خيرة عقول ومثقفي مصر في مقدمهم كل فرق اليسار والليبرالية العام 1959 وظلوا مقهورين يعيشون الضنك والهوان لمدة خمس سنوات متصلة، ولم يكن الافراج عنهم في آذار مارس العام 1964 نتيجة ضغط شعبي، فالشعب اسلم قياده للقائد ثم مضى ونام واستراح، وانما كان الإفراج عنهم بسبب ضغط من خروتشوف الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي، ولأن السوفيات كانوا قد قدموا "العربون" من دمائهم وعرقهم واقتصادهم في إنشاء المرحلة الأولى من السد العالي، فإنهم دفعوا فاتورة مثل هذا التهور بعد ربع قرن. ولأن طه حسين وغيره كثيرون قد اختاروا طريق "الثورة" وفضلوه على طريق "النهضة"، لم يكتشف المجتمع المصري "عورات" تنظيمات الجيش ولا عيوب المجتمع، لأنه فقد القدرة على النقد والتحليل فكان ما كان في حزيران 1967، وعلينا ان نعود حتى وإن كنا متأخرين، الى طريق النهضة. * كاتب مصر