يوماً بعد يوم يمسّنا تفاقم الأزمة في كوسوفو. وكلما مرّ يوم ومواقفنا العربية غير واضحة، بل مرتبكة، يسهل على الغير تهميش دورنا، علماً ان الدور الممكن يبدو كأنه مسلسل أدوار متباينة ومتعثرة إن لم تكن في معظمها متناقضة. لكن هذا الوضع غيّر مواقف الكثير من دول العالم التي تحلل سياساتها وتعلنها من غير موقعنا ومن غير المنظور الذي يحدد معايير تعاملنا مع هذه المأساة البلقانية. ورغم اعتقادي ان موضوع مأساة كوسوفو اشبع بحثاً وان معالم سياسة عربية موحدة قد تمت بلورتها الا ان استمرار تفاقم الازمة وتعاظم حدتها يفرضان علينا جميعاً متابعة ما يجري، خصوصاً ان الكثير من خطط ميلوشيفيتش وحلف الاطلسي مرشحة للتعديل ان لم يكن للتغيير. كما ان الدعوة لايجاد موقف عربي موحد قد يجبه بسؤال منطقي بمعنى "أليست لدى العرب اولويات ومشاكل علينا التركيز عليها بدل مناقشة ازمات، مهما كانت مشاعرنا تجاهها، تخص أوروبا بالذات ودول حلف الاطلسي اكثر مما تخصنا على رغم ادانتنا الصريحة لما تقوم به صربيا ضد ألبان كوسوفو"؟ ويرافق هذا السؤال "المنطقي" سؤال آخر مرده الى "من نحن حتى يكون لنا كلمة أو وزن"؟ خصوصاً ان المواقف العربية لم يتأمن لها التنسيق ولا ارادة للعمل المشترك في الاسهام في إيجاد حل عادل وشامل لهذه الحرب المجنونة التي تشن من الجو ضد المنشآت اليوغوسلافية ومن الجيش الصربي على الارض ضد كوسوفو، وما يستتبع هذا الجنون من تستر الناتو بقيم حضارية وإنسانية وتستر حكم الصرب بتعابير السيادة والكرامة. يضاف الى هذه الحالة ان الاعلام الغربي، بالاخص الاميركي، ارتوى بالخطاب الرسمي لحلف الاطلسي - مع تعديلات طفيفة يدخلها الاعلاميون ليظهروا بمظهر "الموضوعية" - مثلما ارتوى الخطاب الصربي بتفسير وتبرير سياسات نظام ميلوشيفيتش وسلوكه في كوسوفو، فكلا الخطابين جعلا - وإن بنسب متفاوتة - من الحقائق ضحايا الحرب الاعلامية الملازمة للحرب المجنونة! في قمة الناتو في واشنطن، أدرك قادة الاطلسي حدود القوة العسكرية التي يتمتع بها الحلف. وساد الرأي القائل أن الحلف يجب ان يستمر في الغارات على المدن اليوغوسلافية ومنشآتها وان يصعّدها على اساس ان كل المؤسسات مستباحة. ثم ان هؤلاء القادة تجاوبوا مع مقتضيات عسكرة سياسات الناتو باعتبار ان الغارات المكثفة لن تكون مكلفة للحلف بل ان انبهار العالم بتفوق الناتو التقني والاستراتيجي من شأنه ان يلجم ويردع اية قوى تتمرد على ارادتها وعلى اي جديد في تصور الحلف الاطلسي لدوره. الا ان ما يتزامن مع هذه القمة هو ادراك ان سلطة الناتو على الاجواء تقابلها سلطة اكثر شراسة على الأرض وما استتبع هذا الوضع من مآسٍ وتشريد ولجوء قسري لألبان كوسوفو. لكن دول حلف الاطلسي تتردد كثيراً في نشر قوات ارضية لكون الظروف السياسية الداخلية ليست مهيأة لتقبل خسائر بشرية لكنها مهيأة لأن تلحق خسائر في صربيا وفي كوسوفو، وإن كان في كوسوفو "بغير قصد". في قمة واشنطن، أدرك قادة الحلف الاطلسي ان ما دعوا الى التباحث فيه لا يمت بصلة الى تاريخ مؤسسة الناتو، بل الى محاولة التفتيش عن دور مستديم لها منقطع عن الدوافع الاستراتيجية والجغراسية التي ارتبطت طوال نصف القرن بالحلف، وما كاد محور بلير - كلينتون يحاول تحديد معالم الدور الجديد للناتو حتى توضحت الصورة التي ابرزت التناقض المريع بين الكفاءة العسكرية المتفوقة وندرة الادراك الفكري والسياسي عند معظم دول الحلف. كما ان في الامكان القول ان جميع هذه الدول ليست عاجزة عن الاحاطة، وبالتالي اغلاق فجوة الندرة التي اشرنا اليها، إلا ان الهذيان الذي رافق التعبئة لهذه القمة جعل من العارفين عرضة للتشكيك بالتزامهم لما يطالب به المحور الانكلو - اميركي داخل الحلف. هكذا وجدنا ان اليونان وايطاليا، والى حد اقل فرنسا ودول اوروبا الشرقية، اللواتي تسرعن في دخول الحلف في حالة من الحرج وكأن هذه الدول انتمت الى الناتو، وإذ وجدت نفسها في نادي يحمل الاسم نفسه، لكن يقوم، أو يسعى ان يقوم، بمهمات مغايرة للأسباب التي دفعتها الى الانتماء للحلف. ... على رغم عنتريات رئيس وزراء بريطانيا توني بلير، الذي يرىد ان يتقمص لشخصية تشرشل وثاتشر في الوقت نفسه، وأن يبدو وصياً وحريصاً على سياسات الاستعلاء وان يعرف انه بوصلة القيادة الاميركية في مغامرة الناتو، ساد جو القمة ادراك ان الهوة بين اهداف الناتو والوسائل المستعملة من شأنها لا مجرد الاضرار بمن يدعي حمايتهم وتأمين حقوقهم بل بمصداقية الحلف الاطلسي وبفاعليتها مستقبلاً. ورغم الاصرار على ان الناتو يجب ان تسود، فإن الهوة اذا استمرت، من شأنها ان تؤوي ابراز التباينات القائمة وأن تتحول الى تناقضات حادة. من هنا نشأت الدعوة الى أن تقوم روسيا - المستضعفة - بدور مساعد من شأنه ان يخرج مغامرة الناتو من المأزق الذي يجد الحلف الاطلسي نفسه فيه. لكن روسيا رغم مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية - ليست على ما يبدو على استعداد لمساعدة الناتو وقادته، بل هي مستعدة للاسهام في ايجاد حل جذري شامل يعيد اعتراف الغرب بمركزية حضورها الدولي كما يعيد الى منظمة الأممالمتحدة موقعها كمصدر للشرعية الدولية. هل تكون روسيا عنصر مساعد ام عنصر مساهم؟ صحيح ان الادارة الاميركية ستلجأ الى ترغيب روسيا بالمساعدة في اخراج الناتو من المأزق اليوغوسلافي من خلال التلويح - او حتى الالتزام - بتقديم التسهيلات المالية من خلال نفوذها في صندوق النقد الدولي، كما ان الرئيس كلينتون سيجعل المساعدة في هذا الشأن تمهيداً لاقتراب روسيا مجدداً من الغرب ومن الولاياتالمتحدة بوجه الخصوص. وقد تلاقي هذه الاغراءات قليلاً من التجاوب في بعض شرائح المؤسسة الروسية، لكن من جهة اخرى، فالدور المساعد في هذه الأزمة هو دور ملحق وبالتالي وإن كان مهماً سيعتبره الغرب ثانوياً. لكن روسيا تصرّ ان يكون دورها مساهماً في ايجاد الحل. وروسيا تنطلق من معطيات رئيسية منها ان الناتو اصبح - أو كاد - عملية احتواء للنفوذ الروسي داخل اطار علاقاتها التقليدية ومصالحها. ثم ان ظهورها كمساعد بدلاً من مساهم، قد يزيل اي نفوذ معنوي او سياسي تتمتع به دولياً وفي أوروبا الشرقية برغم تضاؤله بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. يضاف الى ذلك ان القيادة الروسية لا تستطيع ان تبدو في هذه الازمة ان "ملحق" كون هذا سيدفع الى تمازج بين عصبية القومية الروسية وتربص الحزب الشيوعي المرشح للتحالف مع العصبية القومية. اذاً، يمكننا التوقع بأن الدور الروس سيبقى يتأرجح بين الدور المساعد والدور المساهم. من هنا نستطيع ان نتلمس الدور الذي يمكن العرب والدول الاسلامية وباقي المجموعات الدولية ان تقوم به بدلاً ان تبقى كما هي الآن متعاطفة مع طرف او آخر، ومهمشة في احدى اعقد ازمات العلاقات الدولية وأشدها خطورة على مستقبل السلام والأمن الدوليين ان وعي دول الحلف الاطلسي لحدود طاقاتهم - وإن لم يعترفوا علناً بهذا الواقع - هو المدخل الذي باستطاعة المجتمع الدولي ان يحقق هدفين اساسيين ضروريين: اولاً - تأمين عودة البان كوسوفو الى وطنهم وبيوتهم وإيجاد الألبان التي توفر لهم حقوقهم الوطنية والمدنية كما تضمن لهم الطمأنينة والوسائل التي توفر لهم الاعمار والتنمية المستديمة. ثانياً - اعتبار ان أي عقوبات تفرض يجب ان تنبثق من المجتمع الدولي ككل - اي الأممالمتحدة - ولا غضاضة ان يجيز مجلس الأمن لمنظمات اقليمية - او غير اقليمية - القيام باسم الأممالمتحدة باجراءات عسكرية واقتصادية تنفيذ لما يتخذه مجلس الأمن - او في الجمعية العامة - من قرارات بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. من هنا، يتعين علينا ان نحدد عناصر للعمل العربي في هذه الازمة. وقد سبق وأشرنا في الاعداد السابقة الى اوجه الشبه بين معاناة التشريد لألبان كوسوفو ومآسي اللاجئين الفلسطينيين، كما ان شراسة القصف الجوي لمدن يوغوسلافيا من قبل الناتو تعيد الى الذاكرة القصف المتواصل على المدن العراقية. لكن ما بنفس الأهمية، وبالتالي اكثر الحاحاً، هو ما يعمل حلف الاطلسي على تحديد ساحة عملياته وصلاحياته مستقبلاً. لذا فإن الموقف المتماسك الذي نأخذه في هذه الازمة له علاقة مباشرة بمقتضيات الأمن القومي للأمة العربية كما للاستقرار في معظم المجتمع الدولي. ونقول هذا لا مبالغة بأهميتنا، ولا تسرعاً من جانبنا بالقيام بمواجهات مع الناتو او مع غيره، الا اننا نصرّ على حق المشاركة في استقامة ركائز الشرعية الدولية من جهة، والحيلولة من دون استثمار منظمة الناتو بالقرار كما قيام قوة دولية رادعة لمختلف التيارات التي تمارس التمييز والتطهير العرقي من خلال اجراءات عقابية منبثقة من اطار الأممالمتحدة ومن تفعيل محاكم مجرمي الحرب. وكما ان استقامة ركائز الشرعية الدولية تقتضي ان ندعم آليات الديبلوماسية الوقائية التي اصبح العالم بحاجة ماسة اليها كي نتدارك المآسي التي حصلت لألبان كوسوفو نتيجة فلتان الجيش الصربي من جهة واكتفاء الناتو بالقصف الجوي على مدن يوغوسلافيا. لكن هناك عنصراً اضافياً يكمن في بعض الأفكار المطروحة في اوساط قمة الناتو التي انعقدت الاسبوع الماضي في العاصمة الاميركية. الى جانب ان الناتو يحصر اهتمامه بالأمن والاستقرار في أوروبا، إلا ان اضافات على اطار اهتمامات الناتو اضيفت بشكل يجعل من منطقة الشرق الأوسط وشمالي افريقيا اضافات محيطة بمقتضيات الأمن في أوروبا، اضافة الى المصالح الاقتصادية وغيرها. هذا بدوره يمكن حلف الاطلسي ان يمنح ذاته صلاحيات تجعل منه آلية مقابلة - او حتى بديلة - للآلية التي اجمع العالم على كونها مصدر الشرعية والمؤهلة بموجب القانون الدولي ان تعاقب الخارجين على القانون وعلى الشرعية. يستتبع استدراكنا لمثل احتمال قيام الناتو بأن يشمل ضمن صلاحياته العديد من الازمات القائمة في الساحة العربية اجمالاً ان نسرع في تفعيل الدور الروسي وجعله مساهماً في ايجاد الحل المطلوب كون اخراج الناتو من المأزق المتواجد فيه يكون احدى نتائج المداخلة الروسية، فليست مجردة مساعدة الناتو في الخروج من مأزقه الراهن هذا التفعيل لدور روسيا ينبثق من ان هذا الدور يشكل مدخلاً لتأهيل الأممالمتحدة - بعد الاهمال والتهميش الذي حدث لها في هذه الازمة - وعودة الحيوية الى ممارساتها والى الدور الانساني والسلامي التي يمكنها ان تقوم به. فروسيا في موقع تحيز بهذا الصدد، لكن هذا لا يعني اننا نجهل حدود ما يمكن ان تقوم به روسيا، لكن في الوقت نفسه ندرك أيضاً ما باستطاعتها القيام به. في موازاة تفعيل الدور الروسي في اتجاه استعادة الأممالمتحدة دورها لا بد للدول العربية والاسلامية ان تسرع في ان تكون طليعة لصندوق او صندوقين لألبان كوسوفو وان تطالب هذه الدول الاشتراك في اي قوة دولية قد يقيمها مجلس الأمن في كوسوفو ضماناً لحقوق الألبان وطمأنة لهم. كما على الدول العربية والاسلامية ان تبرز مشاركتها هذه دليل على انه رغم تعاطفها وتضامنها الشديدين مع البان كوسوفو وادانتها للممارسات العرقية التي يقوم بها نظام ميلوشيفيتش ضدهم إلا ان هذه الدول لن تتساهل مع محاولة ربط عمليات الناتو بحقوق ومصير الألبان. وإذا أدى الموقف العربي الى الاسهام مع روسيا في اخراج الناتو من مأزقه الراهن فيجب ان يعني ذلك ان اعادة تعريف الناتو كي يكون على حساب صلاحيات منظمة الأممالمتحدة وأهليتها وعلى حساب سيادة القانون الدولي. * مدير مركز دراسات الجنوب في الجامعة الاميركية في واشنطن.