أسفرت انتخابات تركيا العامة عن عدة مفاجآت مثيرة. لعل اهمها على الاطلاق الصعود الكاسح للحركة القومية وحزبها الذي أسسه الكولونيل الراحل الب ارسلان توركيش الى المرتبة الثانية بين الاحزاب الفائزة بمقاعد الجمعية الوطنية، الأمر الذي يرجح حتى لا نقول يحتم عودته لحجز موقع ثابت في نطاق التشكيلات الحكومية الائتلافية المنتظرة، وبالتالي مشاركته الاكيدة في صناعة القرار السياسي، وصياغة التوجهات الايديولوجية والتربوية والاعلامية للدولة. هنا تقرير من محمد خليفة: ما حصل في الانتخابات الاخيرة هو حدث تدعمه سابقة من السبعينات، حين نجح الحزب القومي في دخول احدى الحكومات وأمسك يومها بوزارة التربية فأعاد تأليف واعداد البرامج المدرسية، مضفياً عليها نزعة قومية اكثر مما كان عليه الأمر قبل ذلك. ويكتسب هذا الحدث اهميته الخاصة من كون الحزب المذكور المعروف بيمينيته المتشددة الوحيد الذي ما زال يتمسك ويدعو الى القومية الطورانية بصيغتها الاسطورية التي سبق ان ازدهرت في اوساط الصفوة الثقافية والبيروقراطية بين اواخر القرن الماضي وبدايات القرن الحالي بتعبئة وتغذية من حركة "تركيا الفتاة" وامتدادها "الاتحاد والترقي". قبل ان تخمد جذوتها بفضل عقلنة مصطفى كمال لها وإضفاء الواقعية عليها بتكثيفها في القومية "الأناضولية" التي جسدتها الجمهورية المعاصرة بكيانها وحدودها وانصرافها الى الاهتمام بشؤونها الداخلية والوطنية بدل ان تكون كما اراد لها ممثلو الطورانية بمثابة "الاقليم القاعدة" للانطلاق نحو توحيد شتات العالم التركي الممتد حسب رأيهم من سور الصين الى ضفاف الادرياتيكي. والحزب المذكور هو الوحيد الذي استمر محتفظاً باسمه منذ مطلع السبعينات، ومحتفظاً بأيديولوجيته من دون تغيير او تأثر بعامل التطور. بينما اضطرت كل الاحزاب الاخرى اما لتغيير اسمائها بعد انقلاب 1980 او لتعديل ايديولوجياتها نتيجة الاحتكاك بالزمن، واما لهذا وذلك. وهو ايضاً من تلك الاحزاب التي تتمحور حول شخصية الزعيم التاريخي - الفرد. وهو هنا الب ارسلان توركيش. ومن الصعب فهم هذا الحزب وخطه السياسي من دون اضاءة لشخصية مؤسسه وزعيمه. كان ألب ارسلان توركيش، من أتراك قبرص الشمالية، ولد فيها عام 1917 وترعرع بين مدارسها حتى بلغ الخامسة عشرة حيث هاجر مع اسرته الى تركيا. وهو بذلك يشبه الغالبية الساحقة من رواد النزعة الطورانية التاريخيين الذين كانوا من أتراك الاطراف لا من أتراك القلب بالنسبة للعالم التركي. وهو مثلهم في دعوته لأن تكون تركيا قاعدة العمل القومي لتحرير وتجميع شمل الأمة الممزقة والمحتلة. مع نهاية الحرب العالمية الثانية حقق ألب ارسلان الذي يحمل اسم اعظم القادة الأتراك السلاجقة في تاريخهم العسكري الحافل بالبطولات، وقائد معركة ملا ذكرت الشهيرة، في القرن الثالث عشر، حقق اولى امانيه الشخصية بانتسابه الى الجيش "مدرسة الابطال" في نظره ونظر امثاله من الذين يؤمنون بأن التاريخ لا تصنعه غير القوة. وتخرج عام 1938 برتبة ملازم. وفي 1952 كان من بين العسكريين الأتراك الذين شاركوا في الحرب الكورية. وفي عام 1957 عين ملحقاً عسكرياً بالسفارة التركية بواشنطن. ثم اعيد الى الخدمة ولكن ضمن القوات الملحقة بحلف الناتو. ذاع اسم ألب ارسلان توركيش على نطاق واسع عام 1960 حين ارتبط باذاعته للبيان رقم واحد للانقلاب العسكري في ذلك العام. كان من اصغر قادة المجموعة الانقلابية رتبة لكنه كان الأبرز بينهم فصاحة وعنفواناً وتطرفاً ضد اعداء الدولة وأيديولوجيتها القومية المقدسة. وقد اصبح فيما بعد سكرتير مجلس الثورة ومستشاراً خاصاً لرئيسه الجنرال جمال غورسيل، وكان يقف معه في كل مناسبة عامة يلقنه الافكار والكلمات ويكتب له خطبه الحماسية. وعندما حل مجلس قيادة الثورة نفسه، وسلم السلطة للمدنيين تبين ان توركيش الذي عارض ذلك بشدة وجلاء عمل من وراء الكواليس على تكتيل مجموعة من المتطرفين في اطار مجموعة الأربعة عشر تطالب بإبقاء العسكر في الحكم لسنوات اخرى. ورغم تأييد الكثير من الضباط له فشل في فرض رأيه على القيادة فحلت هذه المجموعة وأبعدته هو من الخدمة فخرج فوراً الى المسرح السياسي. اذ كانت ميوله السياسية وطموحاته للسلطة قديمة قدم وعيه، وقد استطاع تشكيل حزب قومي متطرف يتبنى الفكرة الطورانية بصيغتها القديمة، اي توحيد الأتراك في العالم في دولة واحدة. وكان ألب ارسلان الذي توفي العام الماضي، يمتاز بثقافة واسعة، فهو شاعر كلاسيكي بارع يكتب القصائد السياسية التحريضية، وكانت احدى قصائده القومية المتطرفة قد اودت به الى السجن منذ شبابه، حين اعتقل عام 1944 اثناء خدمته العسكرية بتهمة الدعوة للطورانية المتطرفة من خلال احدى قصائده. وكان ايضاً متضلعاً بالتاريخ التركي، ولغوياً متعمقاً ادعى انه وضع في السنوات القليلة الماضية قواعد الثورة اللغوية الثانية بعد ثورة مصطفى الأولى التي نقلت اللغة التركية من الابجدية العربية للأبجدية اللاتينية عام 1928 وذلك باضافة عدة حروف الى الابجدية الحالية ذات الثمانية وعشرين حرفاً. وذلك بهدف خلق القاسم المشترك بين لغة تركيا ولغات الجمهوريات التركية التي خرجت من رحم الاتحاد السوفياتي عام 1991. وقال انه وحزبه وضعا اسس الابجدية التوحيدية لجميع اللهجات واللغات التركية لمسايرة الحاجات التي نشأت عن التطورات السياسية في الفضاء التركي. في السبعينات دخل ألب ارسلان البرلمان مع عدد من نواب حزبه عدة مرات وشارك في عدة حكومات، وكان يشترط دائماً الحصول على وزارة التربية والتعليم كي يتمكن من اعادة تأليف المناهج التعليمية وفقاً للروح التركية القومية وغرس بذور "الطورانية"، وهو الأمر الذي نجح فيه باعتراف الخصوم قبل الاصدقاء. وأظهر منذ ذلك الوقت ميولاً براغماتية في الحركة، مقابل الجمود الفكري، اذ قادته المصالح السياسية للتحالف مع حزب اليسار الاشتراكي وحزب الشعب، وحزب الرفاه الاسلامي ومن قبله حزب السلامة وحزب العدالة الليبرالي. لكنه لم يساوم ولا مرة على افكاره ومبادئه المتشددة. وكان له دور تعبوي وايديولوجي كبير في عملية غزو شمال قبرص عام 1974، اذ كان وأنصاره من أشد المتحمسين والمنظرين له. وما زال الحزب للآن من أقوى الاطراف دفاعاً عن الوجود العسكري التركي هناك ومن الداعين الى وحدة جمهورية شمال قبرص مع تركيا الأم. وقام اعضاء الحزب في السنوات الاخيرة بدور سري في اعمال العنف التي وقعت في قبرص ضد اليونانيين الداعين لتوحيد الجزيرة وخروج القوات الغازية. وأظهرت المعلومات ان اجهزة الدولة التركية قامت عام 1997 بنقل آلاف العناصر منه الى قبرص للتظاهر عوضاً عن الأتراك القبارصة! ضد اليونانيين. وتبين ان السلطات التركية وأجهزتها السرية تدعم بقوة هذا الحزب وتقيم معه تحالفاً عضوياً. وتغض الطرف عن نشاطاته ولا سيما تدريب بعض كوادره على اعمال العنف والسلاح. كما ان للحزب الذي يتخذ من الذئب الرمادي شعاراً له مثل الحركات الطورانية السلفية، علاقات عميقة مع عصابات المافيا ومجموعات فاشية صغيرة عديدة. واستطاع الحزب عام 1996 الدخول في حكومة اربكان - تشيلر بشخص السيد محمد آغار الذي احتل منصب وزير الداخلية كممثل لحزب الطريق الصحيح، بينما هو في واقع الأمر يمثل حزب العمل القومي وجناحه الأكثر تطرفاً. وإذا استطاع حزب "الحركة القومية" الدخول في الحكومات الائتلافية القادمة، فإنه لأفكاره ومواقفه الحالية، سيدعو الى تبني سياسة خارجية قد تسبب المتاعب والاحراجات لأنقرة فهو مثلاً يدعو لرفض اي تسوية لمشكلة قبرص تفضي لتوحيد الجزيرة، كما يدعو لسياسة تدخلية في البلقان لحماية الاقليات التركية ولا سيما في اليونان وبلغاريا. كما يرفض السياسة الحالية تجاه العراق ويدعو للتدخل بالقوة للقضاء على ما يسميه نواة دولة كردية مستقلة في شمال العراق ويرفض سياسة اميركا المعنونة "المطرقة الحديدية" لحماية اكراد العراق ويرى انها ذات اهداف كردية شاملة تضر بتركيا. كما يدعو لضم تركمان العراق واقليم الموصل الى تركيا باعتباره اقليماً تركياً سلبته بريطانيا منها. ويدعو ايضاً الى سياسة تدخلية مشابهة في سورية. كما يطالب بتعزيز الدور التركي في القوقاز وآسيا الوسطى والجمهوريات المستقلة والدفاع عن اذربيجان ضد ارمينيا لاستعادة السيادة على اقليم قورنو كره باخ... والأهم من هذا انه من اقوى الدعاة لتوثيق عرى التحالف مع اسرائيل لأنها في نظره سند قوي لطموحات تركيا على الصعيدين الدولي والاقليمي. ولكن الحزب وزعيمه يطالبان أيضاً بتحسين العلاقات مع العرب، بهدف محاصرة النفوذ اليوناني، على الأقل! تجدر الاشارة هنا الى ان حزب الحركة القومية لم يحصل في انتخابات 1995 الا على ثمانية في المئة من اصوات الناخبين وفشل في تخطي حاجز العشرة في المئة المنصوب على ابواب البرلمان. ويصعب تفسير هذه القفزة النوعية الكبيرة في شعبية الحزب المتطرف الا في ضوء المشاكل القومية والاثنية التي تنخر كيان الدولة من داخلها وتصاعد التحديات الخارجية السلبية والايجابية منها. ولا سيما المشكلة الكردية التي يبدو انها خلقت ردة فعل عنيفة في الأوساط التركية التقليدية جعلتها تؤيد هذا الحزب المتطرف الداعي الى سحق الانفصاليين بكل عنف ولا رحمة، وتنصرف عن الاحزاب الوسطية المعتدلة لأنها فشلت في مقاومة "الارهاب" وعوامل الوهن الآخذة بتلابيب البلاد على اكثر من صعيد. وربما امكن تفسيرها في ضوء تعاظم دور المؤسسة العسكرية، وتدخلاتها في الساحة السياسية بما في ذلك احتمال دعمها المباشر لمرشحي هذا الحزب الذي يمثل تغطية أيديولوجية ممتازة لسلوكها. ولكن اياً كان الأمر فنجاحه لا يعكس عافية في المجتمع ولا قوة في الدولة، بل يعكس الضعف المستشري والعودة الى الأساطير مثلما كانت عليه الحال في الدولة العثمانية قبيل انهيارها النهائي. كان ألب ارسلان توركيش بأفكاره لا يختلف جوهرياً عن الزعيم الصربي المتطرف سلوبودان ميلوشيفيتش ولا عن الزعيم الروسي فلاديمير جيرينوفسكي. انه من الرعيل الفاشي نفسه الذي ينمو على ضفاف الأزمات الحادة عندما تركد حيوية المجتمع وتخبو جذوة الابداع.