يبدو إعلان زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي دعم حزبه ترشح رجب طيب أردوغان لخوض الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، أبعد مما هو عليه في الظاهر، إذ إن الأول كان أشرس معارضي سياسات الثاني وتوجهات حزبه ذي الجذور الإسلامية. ومن ثم ينطلق تأكيد بهتشلي استعداد حزبه للبحث في مسألة تشكيل تحالف مع حزب أردوغان، من «مصلحة خاصة». ويجد التحالف بين بهتشلي وأردوغان تربة خصبة في حالة الاستقطاب السياسي الذي تعيشه تركيا بفعل سياسات الثاني الذي لا شك في تراجع شعبيته. تصريحات بهتشلي تلقفها أردوغان، عبر دعوته إلى «القصر الأبيض»، والإشادة بسلوكه السياسي. وبينما اعتبر أردوغان «الحركة القومية» ممثل العلمانية الوطنية، يرفض العلمانيون الأتراك توجهات بهتشلي، ورهاناته السياسية التي تبدو في جوهرها انتهازية بامتياز. ويعتقد أبناء أتاتورك في حزب «الشعب الجمهوري»، والمنشقين عن «الحركة القومية»، أن بهتشلي، إنما يعارض فلسفة الحزب وقيم الديموقراطية الليبرالية، كما ينخر في جسد العلمانية التركية، بانعطافه نحو الإسلاميين، وصمته عن ممارسات الحزب الحاكم القمعية في مواجهة العلمانيين. ويدل تأييد بهتشلي أردوغان أن المصلحة العامة، ليست هي الهدف؛ علماً أنه كان الداعم الأكبر للتعديلات الدستورية التي حوّلت تركيا لجهة النظام الرئاسي في نيسان (أبريل) الماضي. ولم يكن في الحسبان أن يؤيد بهتشلي أردوغان في عمليات «التطهير» والتي بلغت ذروتها بسعي الرئيس التركي إلى إصدار قانون يعيد العمل بعقوبة الإعدام. ويعتبر بهتشلي أن إلغاء الإعدام ساعد على تصاعد وتيرة العنف، والشقاق السياسي والقومي في البلاد، فضلاً عن الإحساس بتراجع مشروعية الأسباب التي أدت إلى إلغائه. وبادر أردوغان المتناقض مع أطروحاته السياسية والعقائدية، بزيارة ضريح مؤسس حزب الحركة القومية؛ ألب أرسلان توركيش؛ في نيسان الماضي. وتوركيش كان الناطق باسم انقلاب 1960، الذي أدى إلى إعدام عدنان مندريس، المثل السياسي الأعلى لأردوغان. والواقع أن خلفية تأييد بهتشلي لتمديد رئاسة أردوغان، التي مثلت قوة دفع أكبر بينهما، إنما استندت إلى أمور أساسية. أولها أن ثمة كيمياء تجمع أردوغان وبهتشلي، فكلاهما يتبنى الخطاب السياسي الشعبوي، ويستعمل كل منهما أدواته الخطابية لدغدغة مشاعر الجمهور، سواء لتكريس توجهاتهما السياسية أو تشويه الصورة الذهنية للآخر المعارض عبر تصريحات استفزازية ترسخ الاستقطاب السياسي. أضف إلى ذلك أن كلاهما يمثل تطوراً طبيعياً للأفكار الراديكالية، فالأول يمثل النسخة الأكثر تشدداً للإسلام السياسي، بينما يمثل الثاني الصورة الأشد إيلاماً للعلماني المصلحي. وثانيهما تآكل شعبيتهما، بفعل سوء الأداء السياسي، ودلل على ذلك أن تياراً كبيراً داخل كلا الحزبين، لا يؤيد ذلك الميل الجارف، إلى شخصنة الحزب، وإلغاء التيارات المتعددة فيه، وهو ما ظهر في تصاعد الانشقاقات داخل هذه الأحزاب. وثالثهما تكريس أردوغان العنف ضد الأكراد جنوب شرق تركيا. وتقارب خط أردوغان مع الخط القومي إثر توقف عملية السلام التي انطلقت عام 2012 مع حزب العمال الكردستاني، والعودة إلى عسكرة الأزمة الكردية منذ تموز (يوليو) 2015. كما بدا أردوغان أقرب للقوميين الأتراك، عندما تجاهل معطيات الأزمة في سورية، وقرر عملية «غصن الزيتون» في عفرين ضد وحدات حماية الشعب الكردية في سورية. ويشار إلى أن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، لوّح في أحد خطاباته البرلمانية عن تطورات الصراع في المناطق الكردية، بشعار «الذئب الأشهب»، الذي يعد أحد شعارات القوميين الأتراك. ويلاحظ هنا اصطفاف حزب «العدالة والتنمية» إلى جوار بهتشلي في مواجهة خصومه داخل «الحركة القومية»، على رغم خرقه قواعد الحزب ولوائحه التنظيمية. كما سكت الإعلام التركي الموالي لسلطة الحكم، بما يشبه التأييد عن سلوك بهتشلي القمعي ضد المناوئين له. بل إن القضاء التركي بإيعاز من رئيس الدولة يصدر أحكاماً منذ أيار (مايو) 2016 بمنع انعقاد مؤتمر «الحركة القومية» لتشكيل حجر عثرة أمام طموحات منشقين عن الحزب في الإطاحة ببهتشلي الذي يتزعم الحزب منذ نحو 20 عاماً. ووصل الأمر إلى حد إقدام حكومة «العدالة والتنمية» على اعتقال أعضاء سابقين وخصوم لزعيم الحركة القومية بتهمة الانتماء إلى جماعة غولن ناهيك عن حملة دعائية استهدفت أشد خصوم بهتشلي، وهي ميرال أكشنير، عشية فصلها من «الحركة القومية»، بتهمة الترويج ل «حركة خدمة». ويرتبط الدافع الخامس بحرص أردوغان على استقطاب بهتشلي الذي يغض الطرف عن تدخله في أسلمة مرافق الدولة، وفي الصدارة منها الجيش والقضاء. كما لا يلتفت بهتشلي إلى إعادة أردوغان بناء نظام تعليمي يحيد عن إرث العلمانية، ويقترب من خط التيار المحافظ. وكان بارزاً، هنا، عدم معارضة «الحركة القومية» التوسع في إنشاء مدارس «إمام» الدينية، وإلغاء النصوص الدراسية التي تتناول سيرة أتاتورك. إن موقف زعيم حزب الحركة القومية من سياسات أردوغان وبقاءه في صدارة المشهد الرئاسي المقبل، يكشف عن أن الرجل يقف من منطق التحالف مع الطرف الأقوى والمصالح الشخصية الضيقة. ولم يكن هجومه في وقت سابق على العدالة والتنمية، واتهامه أردوغان بالخيانة إلا أحد تكتيكات التوجه نحو ترسيخ سياسة انتهازية مع العدالة والتنمية، بما يمثل مصلحة لكل منهما، وإن اختلفت التفاصيل. الخلاصة أنه إلى جانب دعم ترشح أردوغان في رئاسيات 2019، لن يتأخر بهتشلي لحماية نفوذ الحزب في تطوير موقفه العملي على نحو أكبر من التأييد اللفظي، إذا تطلب الأمر ذلك في وقت لاحق. والأرجح أن تأييد بهتشلي القمع ضد الأكراد، ورفضه استفتاء كردستان العراق، وانتقاده رفض الغرب صفقة صواريخ S400 مع موسكو، لم يكن فقط إيماناً بأهمية الحفاظ على الأمن القومي أو القفز على السوق السياسية المعقدة التي تستنزف البلاد، إنما كان في جانب منه كسب ود أردوغان أملاً بحماية مصالحه الشخصية. في المقابل، فإن أردوغان بدهائه أنعش طموحاً سلطوياً لدى بهتشلي بإمكانية أن يصبح نائباً للرئيس. وربما يواصل تقديم كل أنواع الدعم القانوني والسياسي والبيروقراطي للعجوز الذي تخلى عن قيمه العلمانية لمواجهة خصومه داخل «الحركة القومية». والأهم استخدام بهتشلي في تفكيك التيار العلماني الذي يمثل شوكة في خاصرة أردوغان، خصوصاً في ظل تأثير سلبي لتسريبات كشف عنها رئيس حزب الشعب الجمهوري، تلمح إلى تورط أردوغان وأقاربه في قضايا فساد بالجملة.