في اطار احتفالات شمال الاطلسي الناتو بعيد ميلاده الخمسين كان من المقرر ان تشهد واشنطن استعراضاً لجبروت الحلف الاقوى في العالم بحضور قادته. ولكن تورط الحلف بحرب ضد يوغوسلافيا ونتائجها غير المرضية في اقليم كوسوفو حتى الآن حال دون استعراض القوة. وهكذا تقرر حصر الاحتفالات بلقاء قمة وحفلات استقبال بعيدة عن الضجيج وعن قرقعة السلاح. ومما لا شك فيه ان قادة الحلف تصوروا تتويج الاحتفال باليوبيل الذهبي بتحقيق النصر على الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش، وفرض السلام والامن على طريقتهم في كوسوفو وباقي مناطق البلقان على حد تعبير ديتر شرودر المحلل بجريدة برلين تسايتونغ، احدى اكثر الصحف شعبية في العاصمة الالمانية برلين. غير انه لا النصر لاح في الافق ولا السلام دنا من الكوسوفيين. وبالاضافة الى خصوصية المظاهر الاحتفالية بالعيد الخمسين هناك خصوصية اخرى تواكبها على صعيد آخر. فالناتو بعد احتفالاته بعيد ميلاده الخمسين سيكون غير الناتو قبلها. فاحتفالات هذا العام تتوج بالوضوح النسبي المعالم استراتيجيته الجديدة التي تقوم على توسيع مفهوم امن الحلف بشكل ينطوي على حقه باستباحة العالم كله تقريباً بطوله وعرضه، وحيث تقتضي مصالحه ذلك. ويمكن وصف هذه الاستراتيجية بأنها تعتمد على مبدأ ضمان الامن والاستقرار من خلال مواجهة الاخطار التي قد تهدد هذه المصالح اينما كانت، بدلاً من الاستراتيجية القديمة التي قامت على حفظ السلام عن طريق الدفاع عن النفس داخل حدود الحلف. وتعني "الاخطار" حسب مفهوم قوى الناتو، سيما الاميركية والبريطانية، كل ما يهدد او ما قد يهدد المصالح الامنية والاقتصادية الوطنية منها والمشتركة. وتم وضع حجر الاساس للاستراتيجية المذكورة خلال قمة الحلف التي عقدت في روما خلال شهر تشرين الثاني نوفمبر من عام 1991، اي بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وحلفه العسكري حلف وارسو بسنتين. ومع ان نصاً بها لم يُنشر بعد فان خطوطها العامة اصبحت معروفة للرأي العام من خلال الحوار والخطط والسلوك الذي اتبعه الحلف خلال السنوات القليلة الماضية. ويمكن تلخيصها في ثلاث نقاط: 1 - قيام الناتو بالدفاع عن المصالح الاميركية والاوروبية في مختلف انحاء العالم. 2 - استخدام الوسائل العسكرية ضد الخصم حتى في حال تعارض ذلك مع القوانين الدولية. 3 - ضمان التفوق والسبق على صعيد اقتناء واستخدام الاسلحة النووية. حق الدفاع عن المصالح ويقول وزير الدفاع الالماني السابق فولكر روهي ان على الحلف ان يغيّر نفسه بشكل يستطيع من خلاله تجسيد ارادته القوية بالدفاع عن مصالحه المشتركة. وتأتي المصالح الاقتصادية على رأسها. ويعتقد ايغون بار احد اكثر المفكرين والاستراتيجيين الالمان شهرة ان هذه المصالح تتواجد بشكل اساسي في منطقة بحر قزوين. فأنظار الغرب تتركز على هذه المنطقة التي تحتوي على احتياطي كبير من ثروات النفط والغاز وغيرها. وفي هذا الاطار يمكن تفسير سعي الناتو لضم بلدان شرق اوروبا وبحر البلطيق الى عضويته. كما يمكن تفسير طرحه لمشروع "شركاء من اجل السلام" تجاه بلدان منطقة القوقاز وبحر قزوين واوكرانيا. فتوسع الحلف شرقاً ونحو البلطيق لا يعني اقترابه من مخازن هذه الثروات وحسب انما يعني وضع روسيا بين فكّي كماشة وتهديد مصالحها في جمهورياتها السابقة بشكل مباشر. ولذا فان الروس وعلى اختلاف ميولهم ضد مثل هذا التوسع الذي يعني ايضاً الوصول الى حدود الصين والهند والحد من احتمال مقاومتهما للنفوذ الغربي. ومن المرجح انهم الروس لن يسمحوا بمروره بسلام. ولكن لماذا يطمع الغرب بثروات النفط والغاز في منطقة بحر قزوين في الوقت الذي تتوفر ثروات مماثلة وارخص منها في الخليج وايران؟ يجيب الكسندر بار الخبير بالجمعية الالمانية للسياسة الخارجية على ذلك بالقول: "ان ثروات المنطقة المذكورة تشكل احتياطياً استراتيجياً يمكن من خلاله للولايات المتحدة واوروبا التحرر من المخاطر التي قد تعيق تدفق النفط والغاز من روسيا وايران والخليج في حال وقوع مشاكل محتملة هناك". والشيء الجديد في ذلك حماس بلدان الاتحاد السوفياتي سابقاً لاستغلال ثرواتها وبناء اقتصادها بدعم الشركات والحكومات الغربية وبعيداً عن نفوذ موسكو. استخدام القوة العسكرية خارج اراضي الحلف تقوم هذه النقطة على حق استخدام الوسائل العسكرية لحفظ المصالح تحت ستار ما يسميه الغرب الدفاع عن حقوق الانسان الاساسية وحمايتها من عبث الانظمة الديكتاتورية. وبحسب مسؤولي الناتو وخاصة الاميركيين والبريطانيين منهم فان هذا الاستخدام لا يتطلب الحصول على موافقة مجلس الامن الدولي بالضرورة لأن بعض اعضائه الدائمين يستخدمون حق النقض الفيتو لحماية اصدقائهم الذين يقودون انظمة قمعية مثل النظام الصربي. ويقصد بذلك روسياوالصين. وحسب الدكتور كارل هاينس كامب مدير قسم السياسة الخارجية والامن بمؤسسة كونراد اديناور فان الالمان يوافقون على استخدام القوة بالشكل المذكور ولكن بعد استنفاذ كافة الوسائل السياسية الممكنة. وقد برز ذلك مؤخراً في حرب كوسوفو، حيث يشارك الطيران الالماني بأعمال القصف التي يقوم بها الناتو ضد يوغوسلافيا بعد فشل الجهود الديبلوماسية مع الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش الذي يقوم بحملة تطهير عرقية ووحشية ضد ألبان كوسوفو. ويشكل القصف المذكور اول تنفيذ لتوجه الناتو الجديد نحو القيام بحرب على بلد مستقل لا تجوز مهاجمته من الناحية النظرية من دون موافقة جماعية من قبل اعضاء المجلس المذكور حسب مبادئ القانون الدولي والاممالمتحدة. وبخلاف الاستراتيجيين العسكريين مثل كلاوس ناومان رئيس لجنة الناتو للشؤون العسكرية فان العدد الاكبر من الخبراء الالمان المستقلين يهاجمون بشدة فكرة حق التدخل العسكري من دون موافقة الاممالمتحدة. فالبروفسور اندرياس بورو المتحدث باسم لجنة الحقوق والديموقراطية والدكتور كليمنس رونيفيلدت المسؤول عن قضايا السلام في فرع المانيا لاتحاد التآخي الدولي يعتبران ان هذا الحق يشكل سابقة باتجاه تهديم أسس القانون المذكور وسيادة حق الأقوى وبمعنى آخر شريعة الغاب. وتسمع اصوات النقد ايضاً في الاوساط السياسية الالمانية العليا. فقد صرح فولفانغ ايشنغر الخبير وسكرتير الدولة في الخارجية الالمانية بما معناه ان سيادة الدول على اراضيها اصبحت موضع تساؤل على ضوء ما يقوم به حلف الناتو في يوغوسلافيا. استخدام السلاح النووي يشكل حق الناتو باقتناء احدث الاسلحة النووية وقدرته على توجيه الضربة الاولى والقاضية ضد الخصم احد اهم اسس استراتيجيته الجديدة. وفي هذا الاطار يستمر العمل والبحث لتطوير هذه الاسلحة. كما تستمر الجهود لاضعاف القوى النووية لجمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً وعلى رأسها اوكرانيا. ويستخدم الحلف مختلف وسائل الترغيب من دعم مالي وغيره لتشجيع هذه القوى على القيام بذلك. ويرى كلاوس ناومان رئيس لجنة الناتو للشؤون العسكرية "ان على الحلف الاحتفاظ بحق الضربة الاولى". ووفقاً لرأيه فان ذلك يشكل قوة ردع وتخويف للاعداء المحتملين. ويضيف ان ذلك يشكل عنصراً هاماً لحماية السلام ومنع النزاعات. ولكن رأي ناومان هذا لا يحظى بموافقة عدد كبير من زعماء الشارع السياسي الالماني ومنهم وزير الخارجية يوشكا فشر. فقد دعا الاخير الى اعادة النظر بموضوع الاسلحة النووية من اساسه. غير انه لم يحصد من وراء دعوته هذه سوى الانتقادات على صعيد المراجع السياسية الاعلى. الأبعاد المحتملة ينطوي الحوار الدائر في المانيا حول استراتيجية الناتو الجديدة على الحذر والتخوف من نتائج تطبيقها. ويرى العديد من الخبراء ان المشكلة تكمن في ان الحلف يعاني من الغرور ولا يقدّر حجم الاخطار التي قد تنشأ من جراء التطبيق. ويظهر ذلك بشكل واضح في حرب يوغوسلافيا. فقد قلّل الحلف من قوة الرئيس الصربي وقدرة نظامه على الصمود. فبعد مرور شهر على اعمال القصف يبدو السلام الذي يسعى الناتو لفرضه في كوسوفو بعيداً للغاية. ويعتبر ايغون بار ان قادة الحلف السياسيين لا يعرفون ماذا يريدون بالضبط ولا كيف يتصرفون بشكل حازم وواضح تجاه المشاكل الموجودة في البلقان وغيره. ويذهب كارل هاينس كامب الى ابعد من ذلك حيث يقول: "ان استراتيجية الناتو الجديدة خطيرة لدرجة انها تستدعي قيام جميع القوى الديموقراطية في العالم بقرع نواقيس الخطر. وينصح خبراء مثل فولفانغ ايشنغر بعدم قيام الناتو بتوجيه طعنات اضافية للقانون الدولي.