تتوقع اوساط رسمية في لبنان وسورية واسرائيل تصعيداً اسرائيلياً خطيراً في الاسابيع القادمة يتواكب مع اشتداد حمى التنافس في الحملة الانتخابية الاسرائيلية. وفي اطار هذه الحملة يتحول الجنوباللبناني الى ساحة من ساحات التنافس الحاد، والى قضية من القضايا الانتخابية الساخنة، والى مجال للاحراجات المتبادلة بين الزعماء الاسرائيليين. فمثلاً، قبل ان يعلن موشيه ارينز، وزير الدفاع الاسرائيلي السابق، ترشيحه لرئاسة الحكومة الاسرائيلية، مهد لهذا الاعلان بنقد السياسة الحالية التي تنتهجها حكومة نتانياهو في جنوبلبنان، وفي الدعوة الى استراتيجية جديدة قوامها الاستعداد لتوجيه ضربات مباشرة الى القوات السورية اذا استمر حزب الله في نشاطه العسكري ضد الاهداف العسكرية. ولقد رد نتانياهو على الانتقادات الموجهة اليه، والى السياسة التي تتبعها حكومته في لبنان، بالاعلان عن استعداد القوات الاسرائيلية للضرب في "العمق اللبناني" ولتهديم مشاريع البنية التحتية في لبنان توخياً لاسكات المقاومة اللبنانية. ولوحظ فعلاً قيام سلاحي المدفعية والطيران الاسرائيليين بتصعيد في اعمال القصف كان من نتائجه تفجير منشآت "معمل شارل حلو" للكهرباء الذي يزود مناطق لبنانية متعددة بالكهرباء. اعتبر بعض اللبنانيين قصف معمل الكهرباء تنفيذاً لتهديدات نتانياهو حول استهداف مشاريع البنية التحتية اللبنانية، الا انه ليس من المؤكد ان المعمل يلبي المواصفات التي كانت تراود ذهن رئيس الحكومة الاسرائيلي عندما هدد باستهداف البنية التحتية اللبنانية. ذلك ان نتانياهو يتوخى تدمير مشاريع تؤثر تأثيراً على اوسع المساحات اللبنانية وأكبر عدد من المواطنين اللبنانيين. وبحسب اعتقاد رئيس الحكومة الاسرائيلي، فان تدمير مثل هذه المشاريع يسبب للبنانيين الماً كافياً حتى يضغطوا على حكومتهم لكي تضغط بدورها على حزب الله لتجميد او ايقاف نشاطه العسكري ضد الاسرائيليين، كما ان تدمير مثل هذه المشاريع يحدث اصداء اعلامية قوية تصل الى الناخب الاسرائيلي، فيقتنع بأن نتانياهو هو الذي يملك البأس المطلوب للرد بقوة على حرب الاستنزاف التي تشنها المقاومة في جنوبلبنان، ويعبر عن هذه القناعة بمنح نتانياهو تأييده الانتخابي. ان نتانياهو لا يريد توجيه الضربات الاسرائيلية الى اهداف رمزية، بل الى مفاصل حساسة ومشاريع حيوية في لبنان. هذه الرغبة سببت شيئاً من التوتر بين رئيس الحكومة، من جهة، وبين بعض المسؤولين العسكريين الاسرائيليين، من جهة اخرى. فعندما قدم، قبل اسابيع قليلة، المسؤولون عن المؤسسة العسكرية الاسرائيلية الى نتانياهو، بناء على طلبه، كشفا بالاهداف اللبنانية التي ينبغي ضربها رداً على هجمات حزب الله، رفض رئيس الحكومة الاسرائيلي قائمة الاهداف معتبراً انها غير مهمة ولا تفي بالغرض "التأديبي" المتوخى منها. وبدلاً من تلك القائمة، امر نتانياهو بوضع قائمة جديدة تضع اهدافاً لبنانية اكثر دقة وأهمية بحيث تكون خسارتها اكثر ايلاماً للبنانيين. هذا المنحى دفع احد العسكريين الاسرائيليين الكبار الى ابداء تخوفه، كما أشارت صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية في منتصف شهر كانون الثاني يناير الحالي، من "ضرب البنى التحتية اللبنانية لاعتبارات انتخابية محضة"، ومن مضاعفات هذا العمل على امن اسرائيل. تحسباً لهذه الاحتمالات ورداً على اعتداءات القوات الاسرائيلية اعلن المسؤولون اللبنانيون ان الحكومة تقف "بالمرصاد لكل الاعتداءات". وسارعت الحكومة الى تقديم شكاوى الى "المجموعة الدولية لمراقبة تفاهم نيسان". وقامت الحكومة بالاتصال بالدول الكبرى الخمسة من اجل مطالبتها بالعمل على "لجم العدوانية الاسرائيلية"، مع التركيز بصورة خاصة على الولاياتالمتحدة التي "تملك وحدها القدرة"، كما يرى الرئيس الحص على "الحؤول دون ان تطاول الاعتداءات الاسرائيلية البنى التحتية في لبنان". ان الحص على حق في "وضع واشنطن امام مسؤوليتها"، اذ انها هي تقوم بدور شرطي العالم، وهي السند الاكبر لاسرائيل، وهي التي تمنع عادة مجلس الأمن - كما فعلت بعد مجزرة قانا - من ادانة العدوانية الاسرائيلية، وهي التي تملك، استطراداً، القادرة على الضغط على اسرائيل اذا شاءت كي لا تشتط في عدوانها على لبنان. ولكن هل تملك الحكومة اللبنانية وسيلة لاقناع ادارة كلينتون بالضغط على بنيامين نتانياهو من اجل ثنيه عن تهديداته ضد لبنان؟ وإذا كانت الادارة الاميركية مستعدة للقيام بهذا الدور، فهل تقوم به بدون ثمن تطلبه من لبنان ومن اللبنانيين؟ وإذا افترضنا ان واشنطن راغبة في الاضطلاع بهذه المهمة بدون مقابل، فهل تملك، فعلاً، اسباب نجاحها؟ قد لا يكون صعباً على الحكومة اللبنانية ان تقنع الادارة الاميركية بأن نهوض لبنان من اوضاعه الاقتصادية والسياسية والعمرانية والاجتماعية هو في مصلحة الجميع بما فيهم الولاياتالمتحدة، وبأن الضربات الاسرائيلية التي يلوح بها نتانياهو تعرقل استعادة لبنان عافيته. ولكن لن يكون سهلاً على الحكومة اللبنانية ان تقنع واشنطن بالتخلي عن تحليلها الخاص للأوضاع في جنوبلبنان. انطلاقاً من هذا التحليل، وعندما طلبت الحكومة اللبنانية من السيد ديفيد ساترفيلد، سفير واشنطن في بيروت، حث حكومته على التدخل من اجل الحيلولة دون تنفيذ التهديدات الاسرائيلية، اجاب بترداد الموقف الاميركي التقليدي، اي بمطالبة "كافة الاطراف المعنية بتفادي اعمال العنف في الجنوب". بتعبير آخر، ان واشنطن ترغب في ايقاف الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان وفي ايقاف نشاط المقاومة اللبنانية معاً. جواب السفير الاميركي لا يعني ان واشنطن غير مستعدة للضغط على اسرائيل من اجل التخفيف من حدة الضربات التي توجهها الى لبنان. فالحقيقة ان الادارة الاميركية قامت، في الماضي، بمساع من هذا النوع، وان هذه المساعي حققت بعض النجاح. ولكن احتمالات نجاح مثل هذه المساعي باتت اليوم اقل منها في الماضي لأسباب متعددة منها ما يلي: اولاً، لأن حرص سياسي مثل بنيامين نتانياهو على ارضاء الناخب خلال الحملة الانتخابية يفوق بكثير حرصه على ارضاء الادارة الاميركية. ثانياً، لأن الادارة الاميركية تعيش اليوم فترة مخاض وعدم استقرار تمنعها من ممارسة اي ضغط جاد على نتانياهو كما دلت تجربة اتفاق "واي ريفر". ثالثاً، لأن واشنطن كانت تمارس "عملية لجم العدوانية الاسرائيلية"، التي تطالب بها الحكومة اللبنانية، عبر الاتصال المباشر باسحاق موردخاي حين كان وزيراً للدفاع، ومن وراء ظهر نتانياهو. وكان الوزير، الحريص على ارضاء واشنطن دعماً لتطلعاته السياسية، قادراً على التأثير على السياسة الاسرائيلية تجاه جنوبلبنان بسبب نفوذه داخل الحكومة والمؤسسة العسكرية معاً. الا ان الرهان الاميركي على موردخاي لم يعد في محله، بعد ان اقاله نتانياهو. هذه المعطيات تشير الى ان الخطوات التي اتخذتها الحكومة رداً على التهديدات والاعتداءات الاسرائيلية قد لا تكون كافية من اجل لجم عدوانية سياسي نزق مثل نتانياهو لن يتردد عن انزال اشد الاضرار بلبنان من اجل تحسين وضعه الانتخابي، كما انها تدل على الحاجة الى الاعداد لخطوات اخرى ترفد التحركات التي قامت بها الحكومة حتى الآن. من هذه الخطوات عدم اسقاط خيار الذهاب الى مجلس الأمن اذا فشلت واشنطن في منع اسرائيل من مواصلة اعتداءاتها ضد لبنان. ومن هذه الخطوات ايضاً وضع الدول العربية امام مسؤولياتها عن طريق تقديم مذكرة عاجلة الى رئاسة القمة العربية والى الامانة العامة لجامعة الدول العربية تطالب بتحرك عربي منسق - رغم صعوبته في الظرف الراهن - من اجل حماية لبنان من الضربات الاسرائيلية. من هذه الخطوات ايضاً، وربما من اهمها، تضافر الجهود الرسمية والأهلية اللبنانية على تشكيل "لجان دولية لدعم تفاهم نيسان". بامكان مثل هذه اللجان ان تتحول الى اداة فاعلة من اجل اطلاع المجتمع الدولي على مضمون الشكاوى اللبنانية الى مجموعة المراقبة الدولية لتفاهم نيسان، ولتسليط الانظار على اعمال العنف والعدوان التي تمارسها اسرائيل ضد المدنيين اللبنانيين سواء تمثل ذلك في الهجمات العسكرية المباشرة ضدهم مجزرة قانا او في تدمير المرافق المدنية التي تؤمن الخدمات الحيوية لهم، او في احتجاز العشرات منهم كمعتقلين دون محاكمة وكرهائن في المعتقلات الاسرائيلية، او في اجبار القاطنين منهم في الشريط الحدودي على الانضمام الى جيش لبنانالجنوبي. ان نواة هذه اللجان موجودة فعلاً في مناطق الانتشار اللبناني حيث تتشكل سنوياً، وبمبادرة من الحكومة اللبنانية لجان اهلية من اجل احياء ذكرى الاحتلال الاسرائيلي للجنوب. وبامكان الحكومة، دون جهد كبير، العمل على تطوير هذه اللجان حتى تتحول الى اداة فاعلة تساهم عن كثب في "لجم العدوانية الاسرائيلية". * كاتب وباحث لبناني.