لم تكن الجريمة الأولى، ولم تكن، وربما لن تكون الجريمة الأخيرة. لكنها كانت واحدة من تلك الجرائم التي تهز ضمير العالم وتفضح الوحشية المطلقة لمرتكبيها، وتقلب الموازين والمعادلات السياسية. فعلاقة اسرائيل بالدول العربية المجاورة لها امتلأت، على أي حال، بذلك النوع من الجرائم. صحيح أن براعتها في استمالة الصحافة العالمية كانت غالباً ما تلتف على الجرائم التي يرتكبها، عادة، جيشها أو متطرفوها المهووسون، غير أن ثمة جرائم ما كان بالإمكان التغطية عليها وجعلها تمر أمام أعين الرأي العام العالمي "مرور الكرام على موائد اللئام" كما قد يقول المثل العربي الشهير. ومن هذه الجرائم جريمة قانا. الجريمة التي حدثت في مثل هذا اليوم قبل عامين، حصلت في عز استفحال القتال في الجنوب اللبناني بين القوات الصهيونية المدججة، بالحقد وبالأسلحة، وبين المسلحين اللبنانيين. والحملة الاسرائيلية كانت صاحبتها أطلقت عليها اسم "عناقيد الغضب" تيمناً، لسبب لم يتضح، بعنوان رواية شهيرة للكاتب الأميركي جون شتاينبك، وتحول القتال في ذلك اليوم، بشكل دراماتيكي وحشي وغير مبرر بأي مقياس من المقاييس، وذلك حين راحت المدفعية الإسرائيلية تدك مبنى لقوات الأممالمتحدة كان قد لجأ إليه العشرات من المدنيين اللبنانيين من أبناء القرى المجاورة، من الأطفال والنساء والشيوخ الذين شاؤوا أن ينجوا بأرواحهم من قسوة القتال، فإذا بالقذائف هناك في انتظارهم تحصدهم، وتوقع أكثر من مائة قتيل، وسط ذهول العالم وغضبه. لقد قيل وكتب الكثير، وسوف يقال ويكتب الكثير عن تلك المجزرة، والمجزرة ستظل الى الأبد وصمة عار صارخة على جبين شعب لم يتوقف عن تحميل العالم وزر مجازر يعتبر انها اقترفت ضده. وستظل صورة صارخة للكيفية التي يتحول بها الضحية الى جلاد. لكن الأهم والأخطر من هذا انها حدثت لتعيد الى الأذهان جرائم اسرائيلية سابقة من "دير ياسين" الى "كفر قاسم" الى "صبرا وشاتيلا" الى "باحة المسجد الأقصى" الى مجزرة الخليل... هذا من الناحية الإجرامية والإنسانية والتاريخية. أما من الناحية السياسية، فلا بد من الإشارة الى أن مجزرة قانا قلبت المعادلات وعكست سيرورة التكهنات. فمثلاً كانت هناك في ذلك الحين تفسيرات لعملية "عناقيد الغضب" تقول بأن حكومة حزب العمل الإسرائيلي إنما شنتها لتوجه من خلالها ضربة للمقاومة اللبنانية، تقوم بعدها بالانسحاب من أجزاء مهمة من الجنوب اللبناني، ولو من طرف واحد وإن كانت بعض التحليلات أكدت أن اسرائيل أبلغت الأمر مسبقاً الى الحكومة اللبنانية عن طريق الوسطاء الأميركيين!، تاركة للبنانيين أن يدبروا أمورهم الأمنية هناك بأنفسهم، ومنذرة إياهم بتجدد العمليات الرادعة والمعاقبة إن جرى تعريض المناطق الشمالية الإسرائيلية لأي خطر بعد ذلك. ومن هنا - تقول تلك التفسيرات - قد تكون تلك الرغبة الحاسمة لدى حزب العمل وزعيمه شمعون بيريز بالتخلص من المأزق اللبناني والخروج من رمال لبنان المتحركة، هي التي أوجدت تلك المجزرة، مما يعني أنها كانت مجزرة مقصودة لذاتها وتهدف الى احداث انقلاب جذري في ما كان حزب العمل ينوي فعله الانسحاب، لأنه، في حسابات تلك التحليلات، من المؤكد أن مجزرة من ذلك النوع ومن ذلك الحجم سيكون من شأنها أن تسقط الحكومة الإسرائيلية تحت ضغط الرأي العام العالمي، وبالتالي تعيد خلط الأوراق مؤجلة الانسحاب من الجنوب اللبناني الى أجل غير مسمى. صحيح أن التحقيقات التي أجرتها السلطات العسكرية الإسرائيلية، لم توصل الى مثل هذا الاستنتاج التحليلي، ولكن صحيح أيضاً أن النتائج أتت لتؤكد إمكانية مثل تلك الفرضية، حيث أن عملية "عناقيد الغضب" - وبالتحديد بسبب فصلها الأبشع: مجزرة قانا - أسفرت عن هبوط شعبية بيريز وحزب العمل وعن سقوط حكومته، ومن ثم عن مجيء حكومة ليكود بزعامة بنيامين نتانياهو الذي كان أول ما فعله، أن أجل الإنسحاب من لبنان. وليس هذا فقط، بل انه جمد عملية السلام برمتها، مع الفلسطينيين، وتغافل تماماً عن مسار السلام مع سورية. كل هذا أسفرت عنه العملية ومجزرتها. فهل يمكن الافتراض بأن "المجزرة" إنما كانت في الأصل، مخططاً لها وجزءاً من لعبة سياسية إسرائيلية داخلية، ومؤامرة حاكتها قوى اليمين المتطرف في الجيش الإسرائيلي؟ وحده التاريخ كفيل بأن يجيب عن هذا السؤال. أما بالنسبة إلى اللبنانيين الجنوبيين، وبالنسبة الى العالم كله، فإن مجزرة قانا كانت وستظل واحدة من أبشع جرائم نهاية القرن العشرين، وسيظل ضحاياها المدفونون بالعشرات غير بعيد عن حدود الدولة العبرية، يوجهون أصابع الاتهام لقوم لم يكونوا يمارسون في ذلك أول جرائمهم، بل كانوا يخوضون حلقة جديدة من سلسلة طويلة في تاريخ ذاك الكيان الذي قام أساساً على العنف وعلى الجريمة.