مع كل موسم حج، تثار قضية مهمة هي قضية رمي الجمرات عندما يقترب موعد مغادرة الحجاج من منى. ويعود الاهتمام بهذه القضية في العصر الحديث تحديداً عندما سقط في موسم حج عام 1414 هجرية 1994 في منطقة الجمرات اكثر من 300 حاج نتيجة للتدافع والدهس اللذين حصلا عند جسر الجمرات. وعلى رغم ان السلطات السعودية ادخلت تعديلات كبيرة على موقع الرمي، اسهمت في انسيابية الحركة فوق الجسر، اختتم حج العام الماضي 1418 ه 1998، بنهاية مأسوية سقط فيها 118 حاجاً بسبب التدافع عند الجمرات، وتحت الجسر هذه المرة. حادثتا الجمرات اللتان وقعتا فوق الجسر مرة وتحته مرة اخرى اكدتا ان الاشكالية ليست في الجسر بل في اصرار الآلاف من الحجاج على رمي الجمرات في وقت واحد بعد الزوال. فما هي قصة الجمرات وما سر الاصرار على اداء هذا النسك من مناسك الحج في وقت واحد. اصل تشريع رمي الجمرات يعود الى التشبه بالنبي ابراهيم عليه السلام الذي بنى المسجد الحرام في مكة، واليه تعود معظم اعمال الحج. يقول الامام أبو حامد الغزالي في احياء علوم الدين: "واما رمي الجمار فليقصد به الانقياد للامر اظهاراً للرق والعبودية، وانتهاضاً لمجرد الامتثال من غير حظ للنفس والعقل في ذلك، ثم ليقصد به التشبه بابراهيم عليه السلام حيث عرض له ابليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ليُدخل على حجه شبهة او يفتنه بمعصية، فأمره الله عز وجل ان يرميه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأمله". وجاء في الحديث النبوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ان إبليس عرض له لابراهيم هنالك في الجمرات اي وسوس له" رواه أحمد. ورمي الجمار واجب في الحج باتفاق الفقهاء ويجب على من تركه دم ذبح فدية الموسوعة الفقهية "الكويتية" 15/277، ويرى الفقهاء انه لا يجوز رمي الجمار بغير الحجر ويخصون الصغير منه "الحصى"، ويحددون حجمه بحجم الحمصة. ويقول الحنابلة ان حجم الجمرات يكون اكبر من الحمصة وأصغر من البندق. وروي عن الزهري انه رأى ان الرمي ركن من اركان الحج لكن أحداً لم يوافقه على ذلك. وعلى رغم ان معظم العلماء يرى ان الاذى الذي يلحق بابليس عند رمي الجمرات هو اذى معنوي، الا ان من المفارقات اللطيفة ان كثراً من الحجاج تأخذهم الحماسة الى التخلي عن رمي الجمرات بما حدده الفقهاء من احجام للحصى الى الرمي بالاحذية والمظلات الشمسية، والاخشاب وقطع من الحديد احياناً. ويرافق هذا الرشق كلمات تشتم الشيطان وتلعنه بكل اللغات، وكلمات احياناً من نوع: "أنت الذي جعلتني افعل..."، على رغم ان السنّة النبوية لم تأت الا بالتكبير عند رمي كل حصاة. وفي المقابل رأى بعض العلماء الى ان اذى ابليس من الرمي هو اذى حسي لكنهم قالوا ان الشيطان يتأذى باتباع السنّة روى أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً: "ارموا الجمار بمثل حصى الحذف" اكثر من تأذّيه برمية بما لم يثبت به دليل. ولعل الاشكال في توقيت رمي الجمرات هو الاكبر في جزئيات الرمي كلها، فوقت رمي الجمار اربعة ايام لغير المتعجل من الحجاج هي يوم النحر يوم العيد وأيام التشريق 11، 12، 13 ذي الحجة، ويرى جمهور الفقهاء ان الرمى في اول يومين من ايام التشريق 11 و12 يبدأ بعد الزوال ولا يجوز قبله، وروي عن أبي حنيفة ان الرمي قبل الجواز جائز وقال به بعض الحنابلة. ونقل عن ابن حنيفة: "إن كان من قصدة الحاج ان يتعجل في النفر الاول فلا بأس بأن يرمي في اليوم الثالث من ايام العيد قبل الزوال، وان رمى بعده فهو افضل، وان لم يكن ذلك من قصدة لا يجوز ان يرمى الا بعد الزوال، وذلك لدفع الحرج، لأنه اذا نفر بعد الزوال لا يصل الى مكة الا بالليل فيحرج في تحصيل موضع النزول". واستدل المجيزون للرمي قبل الزوال بأن ايام التشريق تقاس على يوم النحر فكلها ايام نحر ولما جاز لدى الجمهور الرمي يوم النحر قبل الزوال فيلحق الرمي في ايام التشريق بيوم النحر، وحملوا ما ورد ان النبي رمى ايام التشريق بعد الزوال على ان هذا هو المستحب. واستدل لجواز الرمي ثاني ايام التشريق قبل الزوال لمن كان من قصده النفر الى مكة بما ذكر وانه لرفع الحرج عنه، لأنه لا يصل الا بالليل. وروى بعض المتأخرين من الحنفية هذه الرواية توفيقاً بين الروايات عن أبي حنيفة. وذهبت الموسوعة الفقهية "الكويتية" 23/158 الى ان "الاخذ بها بهذه الرواية السابقة مناسب لمن خشي الزحام ودعته اليه الحاجة، لا سيما في زمننا". وكنت سألت عقب موسم حج 1994 الشيخ الدكتور عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين عضو الافتاء السابق في رئاسة ادارة البحوث العلمية والافتاء في السعودية عن حكم الرمي للمتعجل يوم الثاني عشر من ذي الحجة قبل الزوال وبخاصة ان ذلك الموسم سقط فيه بفعل التدافع اكثر من 300 حاج، فأجاب: "يجوز للمتعجل ان يرمى جمار يوم الثاني عشر قبل الزوال وقال ان هذا القول هو مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين في مذهب أحمد، وذكره صاحب "المغني" عبدالغني المقدسي، وهو ان للمتعجل ان يرجم في ذلك اليوم كله من أوله الى آخره من بعد طلوع الشمس ولو قبل الزوال". وقال الشيخ الجبرين: "هذا القول فيه توسعة للمسلمين"، مشيراً الى انه يختار هذا القول لكثرة اعداد الحجاج، معتبراً ان ل"هذا القول ادلة منها ظاهر قوله تعالى: "فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه"، فلفظة "في يومين" تقتضي انه في ذلك اليوم أوله وآخره، فاليوم اسم للنهار من أوله بطلوع الشمس الى آخره بغروب الشمس، فظاهرها في يومين انه اذا تعجل في اول النهار رمى وأجزأه ذلك للحاجة الماسة. وكان وزير الداخلية السعودي رئيس لجنة الحج العليا الأمير نايف بن عبدالعزيز أشار الى اثر الرأي الفقهي في انهاء مشكلة الجمرات قبل موسم الحج لهذا العام بقوله: "ان مشكلة رمي الجمرات ليست قضية الاجهزة المسؤولة "وليس في يدها ان" تمنع ما حدث العام الماضي وما قبله ولكن مشكلة الجمرات تحدث بسبب تزاحم الحجاج"، مؤكداً أن "القضية هي قضية تفهم المسلمين" لتعليمات اجهزة الامن لتنظيم عملية الرمي. وتحدث الأمير نايف عن اهمية بيان علماء المسلمين لمسألة توسيع وقت الرمي ليشمل اليوم كاملاً "نظراً الى الظروف الحالية وبخاصة كثرة عدد الحجاج"، وزاد: "انا لا استطيع ان افتي، ولكنه امر لا بد من النظر فيه".