في التاسع من نيسان ابريل 1959، وصل الدالاي لاما، الزعيم الروحي للتيبت، الى بر الأمان في الهند، وابتدأت في الوقت نفسه رحلة منفاه الطويل الذي لم تنته فصوله حتى اليوم. هذا المنفى، ناهيك بحياة الدالاي لاما نفسها، أوصى للكتاب والسينمائيين بكتب وأفلام، كان آخرها، كما تعرف. الفيلم الذي كرسه المخرج الاميركي مارتن سكورسيسي للتيبت وللدالاي لاما بعنوان "كوندون". وهذا الفيلم اعاد الدالاي لاما الى واجهة الاحداث، ولكن من دون ان يكون هناك اي امل - حتى الآن على الاقل - في اعادته الى وطنه وشعبه. الدالاي لاما، والتيبت بشكل عام، وقع في الأساس ضحية الجغرافيا، مثلما يحدث للكثير من الشعوب الصغيرة على مدى زماننا هذا. فالحال انه لولا وقوع التيبيت عند مفترق الطرق بين الصينوالهند، ولولا الصراع العنيف والدائم بين هاتين الدولتين العملاقتين، كان من شأن هذا الزعيم الروحي ان يعيش مرتاحاً في جباله الحصينة، وحياته الروحية وتبجيل شعبه الهادئ والمسالم له. لكن للجغرافيا حساباتها وغالباً ما يدفع الصغار ثمن صراعات الكبار. هذا الأمر الذي كان - على الارجح - غائباً عن اهتمامات الدالاي لاما، لكنه وتحديداً اعتباراً من يوم 19 نيسان من العام 1959، كان عليه ان يتذكره، وهو لن ينساه ابداً خلال الأربعين عاماً التالية، والتي عاش فيها الدالاي لاما منفياً ولا يزال. ففي ذلك اليوم وصل زعيم التيبيت الذي خلعه الغزو الصيني لبلاده، الى الهند ليعثر عن ملجأ أمين له بعد رحلة شاقة ووعرة في الجبال استمرت نحو ثلاثة أسابيع. والدالاي لاما، الذي كان اجتاز الحدود الى آسام في اليوم السابق، وصل الى حيث استقبله سبعة آلاف من ابناء شعبه تجمعوا لتحيته في بلدة صغيرة تقع في البنغال الغربية وتدعى سيليغوري. وكان اتباع الدالاي لاما قد ابدوا قدراً كبيراً من القلق خلال الأيام السابقة، حيث اختفت اخبار زعيمهم، بعد ان جاءت انباء اولية تفيد بأن محاربي الخامبا، التابعين لقوات "الاحتلال الصينية" - حسب التعبير الرسمي والذي استخدمه الغرب - هم الذين اجبروا الدالاي لاما على الفرار، في وقت كان فيه القمع يشتد ضد المتظاهرين الوطنيين التيبيتيين الذين انتفضوا مطالبين بجلاء القوات الصينية عن بلادهم، غير ان اخباراً اخرى اتت لتفيد بأن الصينيين لم يكونوا راغبين في مبارحة الدالاي لاما للعاصمة لاهاسا، لذلك ارسلوا قوات ميليشيا تابعة للجيش الصيني الى منطقة تقع الى الجنوب من نهر براهمابوترا، في محاولة منهم لمنع الدالاي لاما من اجتياز الحدود في طريقه الى الهند. وقالت تلك الانباء ان قوات الميليشيا أُمرت من قبل السلطات السياسية بأن تعتقل الدالاي لاما حياً. بمعنى انه من الممنوع قتله "وذلك، حسب المصادر الغربية، لأن السلطات الصينية تعرف مدى ما قد يسببه مقتله من غضب في طول التيبيت وعرضها، ومن ضجة في انحاء العالم كافة". في الوقت نفسه، كان البانشان لاما، وهو صاحب الرقم اثنان في هرمية الزعماء الدينيين للتيبيت وكان مناصراً للصينيين، كان قد اسرع بإرسال تهنئته الى الحكومة الصينية في بكين التي "تمكنت من القضاء، وبسرعة، على المتمردين" كما قال في برقيته. ومن المعروف ان بكين استفادت من التنافس بين الدالاي لاما والبانشين لاما، وغذته ما جعل سيطرتها على التيبيت اسهل، فيما كان معروفاً ان حكومة الهند تدعم الدالاي لاما. ومن هنا كان طبيعياً لهذا الاخير، حين اراد الافلات من هيمنة الصينيين على قراره السياسي، ان يتجه الى الهند، ومن هناك يسمع صوته في العالم اجمع. خلال رحلته الطويلة تنقل الدالاي على ظهور البغال متنكراً في زي خادم كما في الصورة ثم استقل القطار ما ان عبر حدود التيبيت، الذي اوصله الى بلدة سيليغوري في البنغال الغربية حيث وجد مواطنيه في انتظاره تتقدمهم فرق الموسيقى والراقصون الشعبيون. كان الاستقبال حاراً ورسمياً تحدثت عنه وكالة الأنباء العالمية. اما بالنسبة الى الدالاي لاما، فانه - كما سيقول لاحقا - انساه تعبه، والمخاطر التي تعرض لها. وبعد ذلك الاستقبال استقل الدالاي لاما القطار من جديد متوجهاً الى العاصمة الهنديةنيودلهي حيث اجرى محادثات مع البانديت نهرو، اعلن بعدها انه سيغادر الهند قريباً، فيما لم يخف الصينيون قلقهم وغضبهم لافلاته من قبضتهم وبدئه نشاطاً سياسياً لم يكن معهوداً لدى زعماء التيبيت. ابراهيم العري