بعد ما يزيد عن الأربعة أسابيع من القصف الجوي والصاروخي المركز، والمتزايد الوتيرة ضد صربيا، لا يسع المرء إلا أن يقف أمام استخلاص أساسي واحد: ان بلدان حلف الناتو في مأزق، سياسي بقدر ما هو عسكري، في مواجهة ميلوشيفيتش ونظامه. ولعل أبرز امارات ذلك المأزق أن الحلف الأطلسي هو، في الآن نفسه، من يتخذ مبادرة التصعيد القتالي، مكثفاً ضرباته الجوية ومعززاً طيرانه بقطع اضافية، وكأنه يقر بذلك بأن ما قام به حتى الآن قد قصر عن الايفاء بالغرض، وهو من وجه آخر من بات يسعى إلى اقتراح الوسائل السياسية لإنهاء الأزمة والخروج منها، في حين يكتفي ديكتاتور بلغراد بتلقي تلك الاقتراحات وبالنظر فيها وبرفضها أقله حتى اللحظة، أي بكلمة واحدة ان بلدان حلف الناتو هي التي أضحت طالبة للتفاوض بعد ان كانت تريد إجبار عدوها البلقاني على الركون إليه. وعلة كل ذلك إنما تتمثل في عقم الاستراتيجية العسكرية المتوخاة، وفي سوء التقدير لعواقبها السياسية والأمنية، ليس فقط على الصعيد اليوغوسلافي الداخلي فحسب، ولكن كذلك على الجوار البلقاني برمته، أو بعضه. وتلك مآخذ قيل في شأنها الكثير منذ بدء المواجهة الأخيرة، بما قد يغني عن الاسهاب فيها مع الاكتفاء بالاشارة إلى أن حلف الناتو قد استخف واستهان بأمرين اثنين: قدرة القوات الصربية على تحمل القصف الجوبي الغربي، وامتلاك ميلوشيفيتش لذلك السلاح الفتاك، والذي لا يوجد في تاريخه ما من شأنه أن يردعه عن اللجوء إليه، أي المضي في سياسة التطهير العرقي، بما يفرغ سكان اقليم كوسوفو من سكانه، ذلك الهدف الاستراتيجي الصربي الثابت والأثير، وبما من شأنه ان يحول جموع النازحين من ذلك الاقليم، ليس فقط إلى مشكلة إنسانية عويصة ودراماتيكية، ولكن كذلك إلى عنصر اضطراب محتمل في بلدان الجوار التي اضطرت إلى استقبالهم، وهي بلدان فقيرة هشة البنيان أصلاً على ما هي حال البانيا ومقدونيا. ونتيجة كل ذلك ان بلدان الغرب الأطلسي تجد نفسها في موقف حرج، ليس أمامها من خيار سوى الاستمرار في القصف الجوي، والامعان فيه، لأنها لا ترى ما الذي يمكنها أن تفعله غير ذلك، ولأن التوقف عنه الآن، من دون أن يحقق أهدافه، سيكون بمثابة الإقرار بفشله من ناحية، ومن ناحية أخرى اقتراح الحلول السياسية التي تقابلها القيادة الصربية بالصد بعد أن أصبحت ترى بأن ميزان القوة قد ازداد ميلاً إلى صالحها، مع محاولة إشراك قوى وأطراف كانت في بداية الأمر قد أهملتها وتجاوزتها مثل روسيا التي ما انفك الطلب يتزايد من قبل أوروبا بشكل خاص على ضرورة تمكينها من دور في حل الأزمة، أو الأممالمتحدة التي ما انفك التفكير يتزايد في إحالة المشكلة إليها، إن لم يكن في شقها العسكري، فعلى الأقل في جانبها السياسي. وذلك ما تبدى بوضوح في القمة التي عقدها في بروكسيل يوم الأربعاء الماضي رؤساء جمهوريات وحكومات بلدان الاتحاد الأوروبي وحضرها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، وهو ما قدمته وسائل الاعلام على أنه سابقة تاريخية. فبالرغم من ان تلك القمة قد بحثت مشاريع فرنسية والمانية لحل الأزمة، إلا أنه يمكن القول بأن أبرز ما توصلت إليه هو "مساندة" الاقتراحات التي سبق لأمين عام الأممالمتحدة ان تقدم بها في التاسع من نيسان ابريل الجاري، وهي الاقتراحات المكونة من أربع نقاط: التوقف الفوري عن كل أعمال العنف، وانسحاب القوات الصربية من كوسوفو، ونشر قوة أمنية دولية، وعودة اللاجئين. وما تمكن ملاحظته ان استعمال لفظة "مساندة" للتعبير عن موقف المجموعة الأوروبية من اقتراحات كوفي أنان ربما جاء بقصد التعمية على جوهر الإرادة الأوروبية في هذا الصدد، وهي المتمثلة في التبني الفعلي لتلك الاقتراحات، وهو على أية حال ما يظهر بوضوح من خلال الرغبة التي عبرت عنها القمة الأوروبية في أن يجري تضمين الاقتراحات المذكورة في قرار يصدر عن مجلس الأمن. وبديهي أن خطوة كتلك من شأنها أن تجعل من خطة كوفي أنان تحوز على سمة الالزامية لجميع أطراف النزاع، وتتصف بصفة الأرجحية على كل خطة أو حل سواها، ناهيك عن أنها تعيد ادخال روسيا، العضو الدائم في مجلس الأمن وصاحبة حق النقض، في اللعبة من الباب العريض. ليس من المؤكد ان يُقبل الحليف الأميركي، وهو القوة الأكبر والموجه، من حيث الوزن السياسي والعسكري، على تلك الرغبة الأوروبية ايجابياً، لكن ما لا شك فيه وما يمكنه أن يلعب وإن جزئياً لصالح موقف بلدان القارة العجوز، أن الولاياتالمتحدة لا تمتلك من ناحيتها خطة بديلة سوى الإصرار على تصعيد قتالي برهنت تجربة الأسابيع الأربعة المنصرمة على أنه قليل الجدوى، إن لم يكن عامل تعقيد. وهذا الركون الأوروبي إلى خطة أنان على النحو الذي سبقت الإشارة إليه، وإن كانت بادرة ايجابية، طالما أنه يعيد الاعتبار إلى الشرعية الدولية ويقدم دليلاً قد يرسي سابقة في شأن نزاعات المستقبل وطريقة التعاطي معها، على ضرورة عدم خرق الاجماع الدولي وعدم التنكر له، إلا أنه من ناحية أخرى، يمثل إقراراً ضمنياً بالتراجع أمام ميلوشيفيتش ونظامه. فالخطة المذكورة، وقد تركزت أساساً على معالجة اثار ونتائج المواجهة الأخيرة، لا تتضمن إشارة إلى حل مشكلة كوسوفو والتفاوض بشأن مستقبل ذلك الاقليم. فهي من ناحية تغض الطرف عن وثيقة رامبوييه، تلك كان امتناع الديكتاتور الصربي عن التوقيع عليها سبباً في شن الهجمات الجوية ضد بلاده، وهي من ناحية أخرى تكتفي بالاشارة إلى "نشر قوات أمن دولية"، وذلك تحديداً ما سبق ميلوشيفيتش أن قبل به في رامبوييه، معترضاً على أن تكون مثل تلك القوات أطلسية صرفاً. والأنكى من كل ذلك، ان بلغراد ربما أصبحت الآن في وارد رفض حتى تلك الصيغة التي سبق لها أن قبلت بها، ما دام رئيسها قد أصبح يصر، على ضوء ما نقله عنه رئيس بيلاروسيا الكسندر لوكاشينكو على نشر مراقبين مدنيين في كوسوفو في صورة التوصل إلى انهاء النزاع الحالي. وهكذا، فإن ما يُخشى الآن هو أن يكون سعي حلف الناتو، كله أو بعض بلدانه، إلى التوصل إلى حل سياسي في حقيقته، إقراراً بهزيمة تجحد اسمها وصفتها تلك أمام ميلوشيفيتش وتحاول أن تتستر عليهما... وإذا ما تحقق ذلك، فإن تلك ستكون مغبة اعتماد سياسة جمعت أسباب القوة العسكرية والمبررات الاخلاقية، ولكن اعوزتها البصيرة.