على رغم صدور الدعوة للمشاركة يوم السبت المقبل 17 نيسان/ ابريل في "يوم الاعتراض العالمي على قصف يوغوسلافيا"، فإن المعارضة الداخلية في الولاياتالمتحدة للتدخل العسكري الاميركي في البلقان ما زالت محدودة. فأوساط الرئيس بيل كلينتون تعرب عن ارتياحها الى ان استطلاعات الرأي العام في الولاياتالمتحدة تكشف عن تأييد غالبية الجمهور الاميركي للعمليات الجوية التي تقوم بها القوات الاميركية ضمن اطار حلف شمالي الاطلسي في البلقان. اما المعارضون للهجمة الاميركية الاطلسية فيشددون على ان الفارق الضئيل بين نسبة المؤيدين لنهج الرئيس الاميركي والمعارض له عائد وحسب الى دعاية موجهة تعتمدها الحكومة الاميركية ويصاحبها تضليل اعلامي ناتج، في بعض الاحيان، عن التداخل بين الهيئات الرسمية والمؤسسات الاعلامية. لذلك، من وجهة نظر المعارضين للسياسة الاميركية ازاء يوغوسلافيا، فإنه لا بد من شن حملة اعلامية - اعلانية مضادة تكشف الوقائع وتبدل موقف الرأي العام. إلا ان الواقع هو ان النشاط الاعلامي - الإعلاني قد يكون الأداة الوحيدة المتوفرة للمعارضين للتدخل الاميركي في أزمة البلقان، بعد ان نال الرئيس كلينتون دعم الكونغرس بمجلسيه لسياسته، وبعد ان ارتفعت أصوات عديدة ضمن الحزب الجمهوري تؤيده وتساند خطواته. كما أنه لا بد من التسليم بأن مسألة كوسوفو ويوغوسلافيا لا تحظى بعناية فعلية لدى الجمهور الاميركي. فأرقام الاستطلاعات التي تشير الى نسب تأييد ومعارضة متجاورة تخفي هشاشة الاهتمام الشعبي بالموضوع. فالإجابة عن سؤال مستطلع، سلباً أو إيجاباً، حول الموقف من نهج الرئيس كلينتون في يوغوسلافيا، لا تترجم تلقائياً تحركاً سياسياً ضاغطاً في هذا الاتجاه أو ذاك، اذ المعنيون المباشرون بالمسائل المتشعبة في البلقان هم قلة قليلة في الولاياتالمتحدة. وباستثناء المعارضة السياسية المتقلبة للرئيس كلينتون في أوساط الحزب الجمهوري، بل في الحزب الديموقراطي، يمكن تصنيف المعارضين لنهجه إزاء يوغوسلافيا ثلاث فئات: المعارضين الموضوعيين، والعقائديين والفكريين. وتقتصر المعارضة الموضوعية، أي تلك المعنية بموضوع يوغوسلافيا دون غيره، فعلياً على الصرب الاميركيين. وكان الصرب الاميركيون، قد عملوا على تطوير البنى المؤسساتية لجاليتهم، ولا سيما منها الاعلامية، خلال حرب البوسنة، إلا ان الصحافة الاميركية قاربت الاجماع في تحمليها الصرب، غالباً كمجموعة آحادية، مسؤولية مأساة البوسنة. فقد أرست هذه التجربة في الأوساط الصربية الاميركية قدراً ملحوظاً من الاستياء انعكس وما يزال ينعكس سيلاً متواصلاً من الاتهامات بالتمييز وبالضلوع في المؤامرات المعادية للحقوق الوطنية الصربية. فالجهود الاعلامية والاعلانية، لا سيما المظاهرات الصغيرة، والحضور المتواصل قرب المباني الحكومية مما يبذله العديد من الصرب الاميركيين في مناطق تواجدهم، ولا سيما في مدن الشمال الأوسط التي كانت قد شهدت هجرة يوغوسلافية في مطلع هذا القرن، هي مزيج من التحركات التي يراد لها ان تلقى استحساناً من سائر الجمهور الاميركي صور الضحايا المدنيين مثلاً، فضلا عن الاتهامات المؤامراتية للاميركيين. ولا شك ان هذه الاتهامات تتحمل قسطاً من المسؤولية في فشل الحملات الصرية الاميركية الى الآن في استقطاب فئات أخرى الى معارضتها الموضوعية للهجمة الاميركية الاطلسية، لا سيما بين الجاليات السلافية الأخرى إذ للأوكرانيين الاميركيين مثلاً حضور بارز أو الجاليات الارثوذكسية الأخرى وخاصة اليونانيون الاميركيون ذوو المؤسسات العريقة والفعالة. وفي حين يبطئ المنحى المؤامراتي للخطاب الدعائي الصربي الاميركي استقطاب البعض، فإنه يجد في الأوساط العقائدية حقلاً خصباً، اذ يلتقي معظم اليسار الهامشي، والذي يضم قلة متلاشية من التنظيمات المتناحرة الشيوعية والاشتراكية والفوضوية، واليمين الهامشي، والذي يجمع بدوره مجموعات متضاربة انعزالية وعنصرية وألفانية، على معارضة التدخل الاميركي وتأييد يوغوسلافيا. فالمظاهرات الصغيرة الصاخبة التي يراد منها تأييد الموقف الصربي من الأزمة غالباً ما تتحول استعراضاً لكافة القضايا والمظالم التي يعاني منها الأفرقاء المختلفون نتيجة لخضوع كلينتون للامم المتحدة أو لإخضاعه لها، ولتورطه في فرض النظام العالمي الجديد، أو لضلوعه في افشال العولمة. ولا يخفى ان هذا التأييد يؤدي بدوره الى تنفير عامة المجتمع الاميركي من الموضوع برمته. غير انه لا بد من الاشارة هنا الى مجموعات عقائدية ذات موضوع واحد، وهو إصرارها على النهج السلمي لحل المشاكل، وفي طليعتها لجنة العمل التابعة لطائفة الكوايكرز. فهذه المجموعات التي ترفض استعمال القوة العسكرية في العراق مثلاً، تلتزم مبدئياً الموقف عينه ازاء يوغوسلافيا. فمعارضتها الاخلاقية تجد احتراماً واسع النطاق في المجتمع الاميركي. اما المعارضة الفكرية لسياسة الرئيس كلينتون إزاء يوغوسلافيا، فلا تقتصر على مفكرين من تيار ثقافي واحد، بل تجمع التقدميين والمحافظين. وعلى رغم الاختلاف في التحليل والتقويم، فإنه يمكن استشفاف اجماع ضمني على اندراج موضوع يوغوسلافيا في حال العولمة الذي تقف في مقدمته الولاياتالمتحدة. فنعوم تشومسكي، المعارض الدائم للتوسعية الاميركية وللهيمنة الاقتصادية والسياسية الاميركية في أرجاء العالم، يعتبر ان المستهدف في البلقان هو الاستقلالية ازاء الاحتواء الاميركي للمقومات العالمية. أما إدوارد سعيد فيرى في الهجمة الاميركية الاطلسية على يوغوسلافيا تكراراً لنهج خاطئ في التعامل مع المشاكل الدولية اذ يعاقب الشعب، في يوغوسلافيا كما في العراق، وتدمر البنية التحتية للبلاد، فيما يبقى الحاكم المستبد في موقعه مستفيداً من تصاعد النقمة الشعبية على المعتدي الخارجي. وفي المقابل، فإن المعلق المحافظ روبرت نوفاك يعتبر ان هذه الخطوة العسكرية هي توسيع لمسؤولية الدولة الاميركية في الدفاع عن الحقوق والحريات لغير المواطنين الاميركيين، على رغم غياب المصلحة المباشرة للولايات المتحدة في الموضوع، بقدر قد يؤدي الى تبديد طاقاتها. لذلك فإنه يحذر من اقحام المبررات الاخلاقية في السياسة الدولية ويطالب بالعودة الى نهج عقلاني مجرد. وترى فيليس شلافلي، المحللة المحافظة، ان نهج كلينتون هو اعتداء على السيادة الاميركية بقدر ما هو اعتداء على السيادة اليوغوسلافية لتحديه الفعلي لمفهوم السيادة الوطنية. وتشير الى محاذير مقومات السياسة الخارجية التي يعتمدها كلينتون، أي توسيع نطاق مسؤولية الحكم الاميركي ليشمل العالم بدلاً من اعتماد الاتفاقات والتشريعات حلولاً للمشاكل الدولية العالقة، واعتماد المبادئ الاخلاقية والانسانية أساساً لرسم الخطط السياسية. وعلى رغم اهمية موضوع العولمة والدور الاميركي فيها، فإن المعارضة الفكرية لنهج الرئيس كلينتون في البلقان لا تتجاوز الإطار النظري، وهي لا تسعى الى الاستجابة الشعبية أو التعبئة الجماهيرية، فيما يبدو ان المعارضة الموضوعية الساعية اليهما قد اخطأت بتحالفها مع المعارضة العقائدية الهامشية، اذ أضحى موضوعها بدوره عرضة للتهميش.