الدنيا فصول تتعاقب .. خريف وشتاء .. ثم ربيع وصيف في الخريف تبدأ اوراق الشجر في السقوط، وتتدافع السحب في السماء ويبرد الجو بردا خفيفا يضاف الى الانتعاش في الحساب النهائي. وفي الشتاء تزيد برودة الجو، ويلمع البرق ويدمدم الرعد وتلتقي السحب لقاءها العاشق العاصف، وتنهمر الامطار وتغسل الشجر والبنايات والشوارع والقرى والمدن. أما الربيع فهذا - في الدنيا كلها - هو فصل الزهور التي تتفتح والنسيم العليل الذي يهب ثم يجئ الصيف اخيرا بصهده وحراراته وسمائه الصافية وشمسه الساطعة وهبات الهواء الساخن الذي يتصاعد ومع كل خطوة يخطوها يذكر المرء بأهوال الجحيم اذا كانت الفصول اربعة في الدنيا كلها، الا انها في مصر ثلاثة فصول فقط، ولعل هذا الامتياز السلبي منح لمصر بوصفها أم الدنيا، وحيث ان الدنيا عجائب وغرائب، فمصر اذن هي أم العجائب والغرائب .. لقد اختفى فصل الربيع في مصر، وتحول من الزهور والنسيم العليل الى رياح خماسينية تغرف بايديها من رمال الصحراء، وتردم بها البشر الذين يقطنون في المدن .. صحيح ان الربيع قد اختفى في حقيقة الأمر، ولكنه لازال مثبتا في الدفاتر الرسمية وهذا هو كل حظنا من الربيع الآن. أعرف بقدوم الربيع من دليلين .. اولهما دليل الحر الذي يرتفع كل يوم، وثانيهما دليل الحشرات التي تنطلق في الجو بعد ان عوقتها برودة الشتاء ومنعتها من الظهور لا يكاد الربيع يبدأ حتى يظهر الذباب .. وتظهر معه الحشرات .. اين كانت جحافل الحشرات ..؟ كانت ميتة أو نائمة بسبب البرودة .. ليست الحشرات وحدها التي تختفي في الشتاء وانما الزواحف ايضا، إنها تعرف ما يسمونه البيات الشتوي .. ويستمر هذا البيات طوال فصل الشتاء. ما هو السر في ظهور الحشرات؟ إن اصابع الاتهام تشير الى الحر .. إن درجة حرارة الارض ترتفع يوما بعد يوم .. ولما كان افضل مناخ للحشرات هو الحر، فإن زيادة الحشرات تتفق اتفاقا طرديا مع زيادة الحرارة .. ينطبق هذا الكلام على مصر كما ينطبق على انجلترا كما ينطبق على أي بلد آخر .. نشر ستيوارت ميلر في صحيفة الجارديان البريطانية مقالا يرصد هذه الظاهرة تحت عنوان يقول "ارتفاع درجة حرارة الارض يهدد العالم بغزو جيل جديد من الحشرات". اجرى هذه الدراسة بيتر ماكوين عالم الحشرات في جامعة ويلز بكارديف .. وقال إن الحشرات قد اصبحت اكثر قدرة على الحياة على هذا الكوكب من الانسان .. لقد كونت الحشرات لنفسها مستعمرات تزيد على اماكن التجمعات البشرية، فنحن نشترك في بيوتنا مع ضيوف غير مرغوب فيهم بصورة لم تحدث في الماضي .. وهؤلاء الضيوف يتوقع ان يزيد عددهم باستمرار .. اما التقرير الذي قدمه قسم بحوث الحشرات بجامعة ويلز فيقدر أن هناك مليون حشرة مقابل كل انسان واحد إن ارتفاع حرارة جو العالم يسمح لجيوش الحشرات بالحركة والتكاثر بمعدلات مخيفة يجعلها تغزو المئات من الاركان والشقوق التي توجد في المنازل العادية في بريطانيا .. على حد قول الدكتور بيتر ماكوين. ويرى العالم البريطاني ان الارتفاع الطفيف في درجة الحرارة يمكن أن يؤدي الى نتائج مختلفة اختلافا رهيبا لصالح الحشرات .. وقديما كنت اذا جاء الربيع الطلق يختال بما في يديه من الرمال، كنت انزل لشراء صندوق من المبيدات الحشرية، ثم اكتشف العلماء الاذى الذي تسببه المبيدات الحشرية للانسان، وبالتالي بدأنا في تخفيفها، ثم اكتشفنا ان المواد الكيميائية بكل قوتها قد تصبح عديمة التأثير. لماذا؟ لأن بعض الحشرات صارت قادرة على تطوير جيل جديد له مناعة ضد المبيدات الحشرية .. ان الحشرات تمثل مأساة للانسان، فهى تسرق طعامنا وتمتص دماءنا وتنقل العديد من الامراض، ومن المعتقد ان عدد الوفيات البشرية الناجم عن امراض الحشرات اكبر بكثير من الوفيات الناجمة عن كل الحروب البشرية .. معركتنا إذن مع الحر .. والحشرات