قد يأتي يوم نجد فيه صعوبة في القول لأحفادنا، أننا عشنا زمناً كانت فيه السنة أربعة فصول واضحة المعالم، بطريقة تختلف عن «الفصول» غير المحددة المعالم التي يعيشها الأحفاد. وربما قلنا لهم أشياء من نوع «كان شتاؤنا مطراً غزيراً وبرداً قارساً، وصيفنا لم يعدم نسائم الهواء المنعشة». ولعلنا سنجد صعوبة في تقريب صورة فصول مثل الخريف والربيع إلى أذهانهم، لغياب ما يشابهه في عيشهم. وحينها، ربما بدونا كمن يتحدث عن «الجنة المفقودة» أو «الزمن الضائع». فحتى في الوقت الحاضر، تبدو الفصول وكأن خللاً ما مسّ انضباط تعاقبها، وصارت ملامحها مختلطة وملتبسة، وأحياناً عصيّة على التعريف! يعيش أهل لبنان خريفاً لم يألفوه، كما يرى كثيرون منهم. ويروي هؤلاء أن ذاكرتهم لا تسعفهم في تذكّر فصل يشبه خريف عام 2010. فبعد صيف لاهب وصلت الحرارة فيه إلى مستويات غير مألوفة في بلاد الأرز، أمطرت السماء. وخفّت حرارة الجو. واستبشر اللبنانيون بخريف يشبه ما يعرفونه عن الفصول. ثم انقلب الحال. وجاء خريف أقرب إلى الصيف، إلى حدّ أن كثيراً من المسابح استأنفت نشاطاتها، بعد أن أغلقت أبوابها مع نهاية الصيف. ولاحظ مربو الورود أن أزهار الغاردينيا أعطت موسماً ثانياً، وكذلك فعلت زهور نبتة «عبّاد الشمس»، فكأنما مرّت عليها سنة في بضعة أسابيع. وحصل أمر مماثل لبعض المحاصيل في سهل البقاع، خصوصاً المزروعات البعلية. حرارة الصيف وبرودة الشتاء واعتدال الربيع ورياح الخريف: هل يتحوّل تعاقب الفصول وتمايزها إلى رفاهية من الماضي، فلا تنعم بها أجيال المستقبل، التي قد تشاهدها من طريق الصور والأفلام، فتظنّها مشاهد من جنة عدن؟ لا يتعلق الأمر بسيناريو للخيال العلمي. ففي الآونة الأخيرة، لوحظ تغيّر في فصول السنة. بات الشتاء أقل برودة، والربيع يأتي مبكراً ويرحل سريعاً، والصيف صار أكثر طولاً وحرارة؛ بحسب الأرصاد الجوية في كثير من الدول. وتتجه أصابع الاتهام، المرّة تلو المرّة، الى اضطراب المناخ وارتفاع الحرارة. «وما هي إلا البداية» كما تقول إحدى الأغاني الشعبية المغربية. الحرارة الفائضة تقتل الفصول بحسب تقرير صدر أخيراً عن «الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ» أصبح ارتفاع الحرارة ملمحاً أساسياً في مناخ الأرض. وستعرف حرارة الأرض زيادة بمقدار درجة مئوية كاملة، مع حلول عام 2100، مع احتمال أن يصل هذا الارتفاع إلى 6 درجات مئوية. وهناك اختلاف في المعنى الذي نعطيه لمصطلح «فصل السنة»، خصوصاً بالنسبة لعلماء الفلك واختصاصيي المناخ وعلماء البيولوجيا، إذ يتصل «الفصل الفلكي» بميل الكرة الأرضية حول محورها، وكذلك بمدى قربها من الشمس خلال دورتها السنوية، وبكمية الأشعة التي تستقبلها سنوياً. وتنقسم «فصول المناخ» إلى فئتين. فتشتد الحرارة وتقلّ الأمطار في أحدهما (الصيف)، على عكس ما يحصل في الشتاء. ويشير علماء المناخ الى الخريف والربيع باعتبارهما «ما بين الفصلين». ويعتمد طولهما على اعتبارات إقليمية مثل القرب من البحر والارتفاع عنه، ووجود غطاء نباتي وغيرها. فمثلاً، تساهم الحرارة التي تكتنزها مياه البحر في تخفيف حِدّة فصلي الشتاء والصيف في المناطق المعتدلة. ويتحدّث علماء النبات عن «الفصول الزراعية الأربعة» التي تعني تفتح براعم الأزهار في الربيع، ونهاية زمن استقبال النبات للشمس (بمعنى نهاية الدورة النباتية والاستعداد لبداية الدورة التالية)، كما يعني الخريف انتهاء نضج الفواكه، وتوقف دوران السائل النباتي، بالترافق مع اصفرار أوراق النباتات والأشجار ثم تساقطها. وتتوقّع الهيئة المذكورة، وابتداء من عام 2070، أن تصبح موجة الحرارة الشديدة التي نعاني منها حاضراً بين الفينة والأخرى، قاعدة عامة. ويصاحب ذلك بالضرورة قلّة في الأمطار. ويؤدي ذلك إلى تقلّص الغطاء النباتي وقلّة المياه الجوفية. في السياق عينه، يرث الخريف حرارة الصيف، ويتشابه الربيع مع الشتاء الذي يصبح أقل مطراً وأكثر دفئاً. وما زال العلماء بحاجة إلى تدقيق في الاحصاءات كي تتضح لديهم صورة السنوات المقبلة. ولكنهم شبه واثقين من قدوم الربيع قبل أوانه، وتأخّر فصل الخريف عن مألوف عاداته. ولذا، من المتوقّع أن يمسّ خلل الفصول بطريقة تؤثّر في مراحل نمو النباتات والأشجار، التي ستفاجئ بحرارة أكثر وأمطار أقل، وبفترات قصيرة من اعتدال المناخ. وقد تنضج فواكه قبل أوانها، وتصبح كأنها جنين وُلِد قبل إتمام الحمل! وقد يأتي الحلّ على هيئة تكاثر البيوت الزجاجية وزيادة تدخل العلماء في الطبيعة بهدف توفير ظروف مساعدة، كانت تتكلف بها الطبيعة. وقد تحتاج بعض الزراعات إلى عناية علمية فائقة. وفي حال غياب تلك العناية، فسيكون على باقي نباتات الطبيعة أن تتدبر أمرها وتتأقلم مع الظروف الصعبة، وربما توجب عليها أن تتشبّه بالصبّار ونباتات الصحراء، كي تتفادى مصير الاندثار. ثمة علاقة وثيقة بين حراك الكائنات الحيّة، وتعاقب الفصول. وينطبق ذلك على التوالد والهجرة وتفتح الأزهار وغيرها. وتحتوي الكائنات الحيّة على ساعة داخلية (بيولوجية) تضبط حراكها يومياً، بالتناغم مع تعاقب الليل والنهار. في المقابل، لا تعاني الكائنات الحيّة بالدرجة ذاتها من اضطراب المناخ وآثاره. إذ تؤثر الحرارة في النبات والحشرات في صورة مباشرة. وتحتوي أجساد الطيور والثدييات على جهاز داخلي يضبط حرارتها بحسب حرارة المكان، فكأنه جهاز للتبريد والتدفئة يعمل بحسب الحاجة. ولذا، يذكرنا كريستيان بوث من جامعة «كروننجن» الهولندية بأننا أحياناً نغفل عن أن اضطراب المناخ لا يمس مناطق كلها، في الوقت عينه وبالدرجة عينها. ولاحظ هذا العالِم أن الأسابيع الثلاثة الأخيرة من شهر نيسان (أبريل) لم ترتفع الحرارة مقارنة مع الأزمنة السابقة، مع الإشارة إلى أن هذه الأسابيع هي فترة التي يبيض فيها طير «القرقب». وفيما تعاني الكائنات والنباتات الأمرّين من الخلل في الفصول، يتابع طائر القرقب السعيد الحظ نظام حياته الأبدية من دون تغير يذكر. في سياق مماثل، استخلص البيولوجي كاميل بارميسان، من جامعة «أوستن» بولاية تكساس، من خلال متابعته ل 12 نوعاً من الطيور والكائنات المائية، أن التغيّر في الفصول أثّر في تكاثر الحشرات التي تقتات منها تلك الأنواع، ما أثّر تالياً على نظام حياتها أيضاً. وثمة خطر يتهدّد نوعاً من الطيور يسمى «الخُضير» بالإشارة إلى اخضرار ريشه. فعند خروج صغاره من البيوض، لن تجد سوى القليل من الديدان التي تتغذّى منها طبيعياً. وإذ تشتهر بعض طيور فنلندا بهجرتها إلى ألمانيا في بداية الربيع، يتوقع أن يتغيّر برنامج رحلاتها الجوية، بأثر من الخلّل في تعاقب الفصول. والمسألة باختصار هي أن توازن الطبيعة، جعل خروج الطير من بيوضه يتزامن مع ظهور الديدان، وهذه الأخيرة تظهر مع نضج أوراق شجر السنديان، ضمن إطار زمني محدد يسميه العلماء «النافذة الزمنية». إن ظهرت الدودة قبل ظهور ورقة السنديان، يؤول الأمر إلى موت الدودة والطير من الجوع. هذا مثال على مفهوم التوازن في الطبيعة. ويعتبر هذا التوازن إرثاً لملايين السنين من التطوّر، لكنه يتعرّض للتخلخل حاضراً بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وعدم انضباط الفصول. ومن شأن الخلل في التوازن أن يساهم في انقراض أنواع كثيرة من النبات والحيوان. البشر وعاصفة اختلال الطبيعة ومع تقدّم الطب، أدت العمليات القيصرية إلى زيادة نسبة من يولدون نهاراً. وفي قادم الأيام، ربما أدى طغيان الصيف وحرارته إلى زيادة نسبة الوفيات ليلاً، إذ تؤكد الإحصاءات الأوروبية أن نسبة الوفيات تزداد في فصل الشتاء القارس، فبرودة الطقس تساهم في زيادة لزوجة الدم وتشنّج الشرايين، ما يساعد على تكوّن تجلّطات تؤدي الى انسدادها. ومع الدفء المتوقع للشتاء، وكذلك الزيادة في حرارة الصيف، فمن المحتمل أن ترتفع نسبة الوفيات صيفاً، بالمقارنة مع انخفاضها في الشتاء. والمعروف أن الصيف القائظ يترافق مع زيادة في التعرّق وفقدان في سوائل الجسم، ما يهدّد الأجساد الضعيفة، مثل حال العجائز والأطفال الرُضّع. من الآثار السلبية لارتفاع الحرارة وقلّة الأمطار, ارتفاع كمية «غبار الطلع» الذي يحدث عند تفتح الزهور، مع زيادة في ما يرافقه عند البشر أمراض الحساسية، خصوصاً في الجهاز التنفسي. في السياق عينه، تظهر توقّعات عن تأثر الاقتصاد. فمع تضرر الزراعة، ربما تستفيد السياحة، لكن مع حدوث تغير في أزمنة العطل والرحلات. إذ سيلاحظ سائح الشمال، الذي اعتاد السفر جنوباً بحثاً عن حرارة الجو، أن الحرارة بدأت تزحف نحو مناطقه الباردة. وسينتقل المناخ الحار صيفاً في إسبانيا، إلى فرنسا بعد بضعة عقود. وقد يعيش سكان جنوب أوروبا صيف شمال أفريقيا. وسيستهلك أهل أوروبا مزيداً من الطاقة نظراً لزيادة الأيام المرتفعة الحرارة على مدار السنة. وقد تعاني الرياضات الشتوية بسبب قصر أوقات البرودة وقلّة تهاطل الثلوج، فيما تنعم رياضات الهواء الطلق بأطول مدة ممكنة في السنة. معاناة عربية طويلة للوهلة الأولى، قد تبدو منطقتنا التي تميل الى الدفء، منيعة على التأثّر بارتفاع الحرارة درجة أو اثنتين. ويرى علماء المناخ الأمر في شكل مختلف. ويحذّرون من ندرة مأسوية في المياه، وانكماش مخيف في مساحات المناطق المعتدلة وتلك الصالحة للزراعة. ويرى هؤلاء العلماء أن المنطقة العربية ستندفع تدريجاً لتصبح ضمن المناطق الأكثر صحراوية، مشدّدين على أن الزيادة في عدد السكان ستضغط على الطبيعة في شكل كوارثي. في المقابل، يستطيع العرب افتراضياً أن يستفيدوا من تجربتهم المديدة في التعامل مع الحرارة، فهل سيستفيدون من ذلك فعلياً؟ ثمة أشياء يجدر بالعرب التفكير بها مثل الاستثمار في الرأسمال البشري، خصوصاً العلوم، وزيادة الاهتمام بتحلية مياه البحر بأقل كلفة ممكنة. ولنلاحظ أن حرارة الجو ستجعلنا نعيش غالبية أوقاتنا في أماكن مكيّفة بعيداً من أشعة الشمس، ما يذكّر بما وصفه روائي الخيال العلمي ه. ج. ويلز في رواية «آلة الزمن» (1895). ففي تلك الرواية، تخيّل ويلز بشراً يعيشون في دهاليز داخلية بعيداً من فضاء الهواء الطلق، فيتحوّلون إلى كائنات هشّة نظراً لابتعادهم عن أشعة الشمس، ولقلة عملهم اليدوي أيضاً. ويعيش هؤلاء في هروب دائم من تحرشات بشر آخرين أقوى منهم وأكثر خشونة، مسيطرين على سطح الأرض. بعد هذه البانوراما، لنفكر في ما ستعنيه، بالنسبة لآذان الأجيال القادمة، المقطوعة الموسيقية الرائعة «الفصول الأربعة» للموسيقار الإيطالي فيفالدي؟